فصل من مذكراتي

عبد الغني المخلافي | اليمن

أذكر صديقي الشاعر الذي دعاني في ليلة ممطرة ، ليطلعني على آخر نصوصه، في عمارة خالية. آيلة للسقوط – من ثلاثة أدوار ، يسكنُ بمفرده إحدى غرف دورها الثالث .وجدتُ طوابقها الثلاثة دون إنارة.. على ضوء قداحته المتقطع صعدنا إلى الأعلى.. قطرات الماء المحتقنة تسقطُ فيرتد كالتصفيق صداها على السلالم والجدران ، وكأننا في كهف أو مغارة. عندما  تخطينا إلى الداخل عتبة غرفته ، وجدناها غارقة  بكل ما فيها.. فراشه.. ثيابه.. كتبه،  مسودات نصوصه.. وسط حالة من البلل.. وقفتُ متسمراً وهو  يكور قميصه ويرمي في السقف القطرات العالقة .

قلت: لا يمكننا المكوث هنا.. تعال معي وفي الغد انظر ماذا ستفعل.

قال:  إن كنتَ ترغب في المغادرة اذهب .

قلت: كيف وسط هذا الظلام أتخطى الممر نحو الأسفل.

قال: تدبر أمر طريقك .

وفي حلكة دامسة انزلقت أقدامي فيها أكثر من مرة هبطتُ . وعند المخرج وجدت الوحل يغطي ملابسي والمطر وسط الأزقة يتساقط وأنا المثقل بالبلل والهموم،  أفكر بحال صديقي الشاعر، الذي يعمل مدرس لغة عربية، ويعول ثمانية إخوان ، تركهم والده المتوفى . وكيف الفاقة دفعت به  إلى السكن في مكان مهجور كهذا!

وذلك الصديق الصحافي الذي ربطتني به صداقة متينه ونقاشات في مختلف القضايا والهموم والبحث عن الحلول والآليات التي يفترض العمل بها من قبل الحكومة وإخراج الوطن من مشاكله الاقتصادية، و تخليصه من الفساد والمفسدين.

صديقي هذا من المتشيعين للناصرية ، ويرى بأن لا خلاص للوطن إلا بها ، ويتغنى دائما بأيام الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، وما عاشته البلاد والعباد من رخاء وعدالة وإنصاف في فترة حكمه .. مثله الأعلى  ونبيه الأوحد جمال عبد الناصر .

يبلغ من العمر ما يقارب الخامسة والثلاثين، ولم يحقق شيئًا من أحلامه التي ينشدها..  سبق له الزواج من ابنة عمه، وانتهى زواجه بالطلاق، فأصبحت الصحافة شغله الشاغل، في كل صباح يأتيني محملاً بهموم المعضلات والإشكاليات التي يعج بها الوطن . ويسعى في نقاشاته إلى مخرج قريب منها ، وقد ألتقيه وهو لا يملك قيمة وجبة فطوره ، دون أن ألمس شيئًا من الوهن في حماسه ـ وكنتُ أستغرب  تلك الهمة المشتعلة والإرادة السامية فيه ، وذاك الحب غير العادي للصحافة، والكتابة، والاستزادة من المعرفة مع عسر حاله وصعوبة حياته 

و كيف كنا أحياناً نمشي ونثرثر بهمومنا ومشاكلنا بعد تخزين “القات” ابتداءً من شارع (مازدا) 

حتى حديقة التحرير والعودة. 

مسافة ليست بهينة. لا نشعر  بالتعب، ولا نتنبه للوقت . 

عمل صديقي بصحيفة الثوري، ثم صحيفة العروبة، وفي الأخير استقر حرفه  في صحيفة الثورة ، وسبق له السفر إلى ليبيا والعودة، والعمل بما يسمى باللجان الثورية التي كان يقوم بتموينها في ذلك الحين  العقيد القذافي.

وانتهى ذاك النشاط السري به في قبضة الأمن السياسي، وأودع  في السجن، تعرض خلال فترة سجنه للتعذيب ، وخرج  يشك بكل حركة تحدث من حوله سواء كانت طبيعية أوغير طبيعية، و كان يخشى المشي  في الأماكن المظلمة، أذكر مرة غادرنا غرفته  وعندما عدنا إليها وجدنا قفل بابها مكسورًا.

وكيف حزم أمتعته من الكتب والمنشورات، بعد اعتقاده بأنه مراقب، وأن من اقتحم غرفته هو  من الأمن السياسي، رغم محاولة إقناعي له بالعدول عن تركها، ولكن دون فائدة.

وكيف أتتني  بعد سفري أخباره المؤلمة ، وما آل إليه من تدهور أوصله إلى ما يشبه الجنون الكامل، وهذا هو حال معظم المبدعين في وطن لا يعيش فيه إلا رجلًا في السلطة، أو ثريًا، أو لصًا. وأذكر أسئلتي المتكررة له حول الخلاص من أحوالنا المحبطة. وعن كيفية تربية أولادنا وتعليمهم  وتوفير لهم الحياة التي نتمناها .. فكان جوابه دائما : يلزمنا لتحقيق هذه التطلعات معجزة سماوية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى