الشاعر عدنان الصائغ وعلي جبار عطية رئيس تحرير جريدة أوروك وجها لوجه

الشاعر عدنان الصائغ :
المعاناة التي عشتها هي التي فجرت المكنونات في روح نصي

تعرّفت إلى الشاعر عدنان الصائغ على الورق ، من خلال ديوانه الأول (انتظريني تحت نصب الحرية) سنة ١٩٨٤ م، ثمَّ التقيته بعدها بسنة ، وجهاً لوجهٍ في منتدى الأدباء الشباب في منطقة الطالبية .


كنتُ معجباً جداً بالأستاذ الناقد مدني صالح ، مفتوناً بآرائه المثيرة للجدل في الأدب ، والفلسفة ، وأتردّد عليه في كلية الآداب ، في باب المعظم . وبعد سنتين من علاقتي بأستاذ الفلسفة ، أجريت معه حواراً لجريدة (الأنباء) الكويتية ، وقد أصر فيه على رأيه في أنَّ (عدنان الصائغ أشعر العرب الذين جاءوا إلى الشعر) !
يا ترى هل تحتاج الشمس إلى من يقول عنها أنَّها منيرة !! ربما ! ؟
لكن حقيقةً ، لقد شدتني في قصائد عدنان الصائغ جملته الشعرية اليومية ، القريبة من القلب ، المميزة ، المفجوعة، الموجوعة، الحنون، السهلة، الساحرة !
لقد كنتُ أدوخ عند قراءتي لقصيدته ( أُمّي)، خاصةً حين يقول : ( .. لأمّيَ، مِغزلُها
يغزلُ العمرَ…
خيطاً رفيعاً، من الآهِ
كانتْ تبلُّ أصابعَها ـ إذا انقطعَ الخيطُ من حسرةٍ ـ
ثم تفتلهُ…
فمَنْ ذا الذي، سوف يفتلُ خيطَ الزمانِ…
إذا ما تقطّعَ بالآهِ ـ ياقرةَ العينِ ـ
مَنْ ذا…؟ )
في مدّة الهدنة بين حربي الخليج الأولى ، والثانية ، حين توقّف إطلاق الرصاص رسمياً ، كان الدكتاتور يحضّر لحربٍ مجيدةٍ أخرى ، فوجئت بالصائغ ـ من تواضعه ـ وهو يطلب، من بعض أصدقائه ابداء الرأي بقصيدةٍ طويلةٍ له تندد بالحرب قال الصائغ : إنَّه كتبها في ( الربيّة) التي كان يؤدي فيها خدمة الاحتياط وكان عنوانها ( هذيانات داخل جمجمة زرقاء لا علاقة لعدنان الصائغ بها).
هل كنتُ مبالغاً، حين قارنتها بقصيدة (الأرض اليباب ) لشاعر الحداثة ، الأمريكي الولادة ،البريطاني النشأة ( ت. س. إليوت) (١٨٨٨ م ـ ١٩٦٥ م) ؟
بعد مدةٍ قام الكاتب احسان علي التلال بمسرحة القصيدة ، وتولّى المخرج غانم حميد تقديمها كمسرحيةٍ بعنوان (هذيان الذاكرة المر)، قُدّمت ضمن توجه ما يسمى بـ(مسرح الرفض) جسّدتها نخبةٌ من طلبة أكاديمية الفنون الجميلة على مسرح الأكاديمية.
شاهدتُ هذه المسرحية مساء الأربعاء الموافق ١٩٨٩/١٢/٦م ، وتفجّرت دموعي بغزارةٍ على مصير الجندي (عبدالله الشاعر) ، وهو ينتظر رصاصة القنّاص ، وقد تمدّد زمن وصول الاطلاقة إلى الرأس ، من خمس ثوانٍ إلى ساعة !
بكى المشاهدون، حين كان عبد الله يبثّ أحزانه ، ويقول : (عشر سنين وأنا لم أبصر غير كراج النهضة) ، و( مشكلتي أنّي لا أعرف حداً للعالم ، حين أحب ، وحين أجوع) وتعالى النشيج ، وكان هذه المرة من المخرج ابراهيم جلال، وهو يجلس قربنا في المشهد الختامي حين يصيح عبد الله:(يا سماء العراق أما من هواء؟) فيأتيه الجواب من الكورس :
(وكانت سماء العراق مثقبةً بالشظايا !)
حين انتهى العرض كان الجميع يمسحون دموعهم ، وهتف المخرج إبراهيم جلال قائلاً : ( أحمدُ الله الذي جعلني حيّاً كي أرى مثل هذا العرض) .
بعد أن وضعت حرب الخليج الثانية أوزارها سنة ١٩٩١ م كان الصائغ ، وعائلته في الكوفة ، حين حدثت الانتفاضة، وما تلاها من أعمالٍ وحشيةٍ في اقتحام الحرس الجمهوري للمدينة، وانتقامه من المنتفضين ، والناس ، لكنَّ الصائغ ، وعائلته نجوا من القتل الجسدي سهواً ـ كما كان يصرح ـ ولم ينجُ هو من القتل النفسي ! فقد ظلت نفسه مخربةً لما شاهده من فظائع.
وقتها كان الصائغ ، يشغل منصب رئيس منتدى الأدباء الشباب، وقد أسدى إليَّ معروفاً ؛ فقد زودني بكتابٍ إلى لجنةٍ شُكّلت في وزارة الإعلام ؛ لتوزيع الأدباء على الصحف ، فكان سبباً في دخولي الفعلي في حقل الإعلام ، والاطلاع على تفاصيل عمل السلطة الرابعة ، بعد أن كانت نيّتي تتّجه إلى اتخاذ الصحافة هوايةً ؛ لما فيها من صراعاتٍ لستُ قادراً على خوضها .
في تلك المرحلة عاد الراحل إحسان التلال لقصيدة الصائغ المندّدة بالحرب ، ليخرج بعرضٍ جديدٍ بعنوان ( الذي ظلّ في هذيانه يقظاً ) سنة ١٩٩٣ م ، ويخرجه غانم حميد على مسرح الرشيد ، ويمثّل الشخصيّة الرئيسة الفنان عبدالحكيم جاسم، لتحقق دوّياً هائلاً بسبب قوّة النصوص الساندة لنص الصائغ التي أدخلها الكاتب المبدع إحسان علي التلال لشعراء مهمين مثل مظفر النواب، ويوسف الصائغ ، وأدونيس ، وشاعرٍ شاب – يومها- هو عبود الجابري.
بعد أن أحسّ عدنان الصائغ أن السبل ضاقت به ، وأخذت تنديداته بالدكتاتور تُسمع بصوتٍ عالٍ ، اضطر إلى السفر إلى عمّان سنة ١٩٩٣ م ، ومن هناك ظلّت رسائله تترى ، وكان يحثّ شقيقي الشاعر، والكاتب عبد الرزاق الربيعي على التوجّه إلى عمّان ، ويشجعني على الصمود، وعدم الاستسلام للاحباط ، ويقول لي : ( استمر أخي ، فبالابداع وحده ننتصر!).


ضاقت عليه السبل أكثر، وحوصر صوته، فانتقل إلى دمشق، بعد أن ضيّقت عليه عمّان الخناق، ربّما بطلب من السفارة العراقية بالأردن، فانتقل إلى دمشق، ولم يطل المكوث فيها، انتقل إلى (بيروت) تهريبا عبر الطريق العسكري، بمساعدة أحد أبناء الشاعر الراحل مصطفى جمال الدين، ومكث فيها حوالي سنة ونصف، التحقت به عائلته بالطريقة نفسها ! واصل خلاله كتابة ( نشيد أوروك ) عام ١٩٩٦ م الذي يعد ، ربما، أطول نصٍ شعريّ موزونٍ في الشعر العربي ، إذ تجاوز عدد صفحاته ( ٢٥٠) صفحة في طبعته الأولى، وما أن صدر حتّى قوبل بهجومٍ عنيفٍ من المتشدّدين، وطالبوا بطرده من لبنان، ووصل الأمر إلى مفوضيّة الأمم المتحدة، فقبلت أوراقه لاجئا سياسيا ، وجاءه الفرج، ليسافر إلى مملكة السويد ، ومن هناك بدأت حياته الحقيقية !
وبينما كانت نجاحاته تتوالى ، خاصةً بعد صدور قصيدته المدورة الطويلة (نشيد أوروك)، وحصوله على جائزة عالمية في نيويورك ، وصفته جريدة (بابل) في عددها الصادر يوم ١٩٩٦/١٠/١٣ م بـ(المرتد) !
لكنَّه عاد إلى بغداد بعد سقوط الصنم ، وكان لقائي الأول معه بعد أكثر من إحدى عشرة سنة في الغربة القسرية عن وطن الطغاة ، ظهيرة يوم الأحد الموافق ٢٠٠٤/١/١٨ م ، في المركز الثقافي العربي السويسري ، في منطقة الوزيرية ببغداد .
تعكرت الطرق في هذا اليوم ؛ بسبب كثرة القطاعات ؛ لحصول تفجيرٍ انتحاري ، بسيارةٍ تحمل نصف طنٍ من المتفجرات ، اصطدمت بالجدار الاسمنتي للقصر الجمهوري الذي تتخذه قوات التحالف مقراً لها ، مع بدء الدوام الرسمي ، مما أوقع نحو٢٥ قتيلا و١٣١ جريحاً في حصيلةٍ أوليةٍ .
حضر الأمسية عددٌ من الشخصيات الأدبية ، والاعلامية المهمة ، لكنّها تحولت ، من أمسيةٍ احتفائيةٍ بالشاعر، إلى محاكمةٍ له !
فقد عتب القاص أحمد خلف على الصائغ ؛ لعدم مدّه يده لشعراء الداخل ، ورد عليه الشاعر عبد الزهرة زكي ، بأنَّ الصائغ ظلّ متواصلاً مع الشعراء الشباب.
وتساءل الكاتب توفيق التميمي كيف ينتقد الصائغ من يخدم السلطة ، وقد صدرت له ست مجاميعٍ شعريةٍ ، طبعتها السلطة !؟
فردّ الصائغ بالقول : إنَّه لا يجيد التحدث عن نفسه ، ولكنَّ تاريخه معروفٌ ، فهو كان منذ سنة ١٩٨٠ م إلى سنة ١٩٨٦ م في جبهات القتال ( هو من مواليد الكوفة سنة ١٩٥٥ م) ، ثمَّ عمل في جريدة (القادسية) مصحّحاً ، ثمَّ صار محرراً، ورئيسا للقسم الثقافي في مجلة (حراس الوطن) ، عندما كان الكاتب الشهيد ضرغام هاشم مديرا لتحريرها، فأجرى حواراتٍ صحفيةً مهمّة ، ثمَّ سافر إلى عمّان سنة ١٩٩٣ م ، وقد وجد هناك تشويهاً لأدباء الداخل سببه ؛ أنَّ هناك من سافر إلى الخارج، وكان مشوهاً ، فرأى الجميع مشوهين ! أو أنَّ هناك من سافر منذ السبعينيات ، فيريد أن يجعل الجميع مشوهين ؛ ليظل هو النظيف الوحيد!
أشار إلى أنَّه عمل على تصحيح هذه النظرة ، بقلمه الضعيف، حسب وصفه، وأضاف : المعروف أنه في تلك السنوات، لا توجد في العراق سوى أربع صحف ، والنشر محصور فيها ، فإن لم ينشر فيها ، فأين ينشر؟
وبيَّن أنه ليس المهم أين تنشر؟ ، لكن المهم هو ماذا تنشر؟
وقال : إنَّ نجاحاته في الخارج أغاظت بعضهم ، الذي يرى أنَّ شعره أفضل من شعر الصائغ ، خاصةً بعد فوزه بجائزة (روتردام) ، وهو لم يطرح نفسه مناضلاً ، وإنّما هو شاعرٌ.
اتّسمت ردود الصائغ بالهدوء ، والموضوعية ، إلا أنَّه وصف أحد (الصعاليك) ، بأنَّ أحلامه حافيةٌ !
أما اللقاء الثاني مع الصائغ، فقد جرى بعد يومين ، أي في ظهيرة يوم الثلاثاء الموافق ٢٠٠٤/١/٢٠ م ، وكان في ملتقى الجماهير الإبداعي في مقهى الجماهير في باب المعظم ، وقد قدّمه الشاعر زعيم النصار، ثمَّ قرأ الصائغ مقاطع من قصيدته الطويلة ( نشيد أوروك) التي تؤرّخ لمرحلةٍ سوداء من تاريخ العراق وحصل بها على جائزة روتردام (ضحايا التعبير) الهولندية العالمية سنة ١٩٩٧ م ، ثمَّ قرأ قصائد أخرى كتبها في الغربة ، أكد فيها أنه لم يتخل عن مكانه، وزمانه العراقيين ، برغم إقامته في السويد، وغربته الحقيقية في بلدٍ تصل درجة حرارته إلى (٣٢) درجة تحت الصفر ! .
أعقبت الاحتفالية التي استمرت ساعتين، مداخلات بشأن (أدب الداخل، وأدب الخارج) شارك فيها عددٌ من الأدباء ، والأكاديميين منهم الدكتور نصير غدير، والدكتور مهند طابو ، والدكتور حسين علي هارف ، وخضير ميري ، وعلي حسن الفواز ، وشاكر المياح ، و محمد غازي الأخرس ، وحسن موسى ، ومحمد خضير سلطان ، وأحمد سعداوي .وكانت الحصيلة : أنَّ مصطلح أدب الداخل ، وأدب الخارج مصطلحٌ وهمي ؛ لأنَّ المكان ، والزمان ، والهموم ، ظلت حاضرةً في أذهان الأدباء أينما حلوا ، والدليل قراءات الشاعر عدنان الصائغ الذي كانت مداخلته : أنَّ هناك من كان مشوهاً في الداخل ، ومارس تشويهه في الخارج . أما من كان مبدعاً في الداخل ، فهو مبدعٌ في الخارج .
اختلف المتحاورون على المصطلح لكنهم لم يختلفوا على شاعرية عدنان الصائغ !
كنتُ محظوظاً جداً هذه المرة ؛ فقد أقنعته بالذهاب معي إلى البيت في مدينة الحرية ببغداد ، وقضاء ليلةٍ ثقافيةٍ ، واستذكارية بامتياز، وقد استجاب ، ومنحني هذه الفرصة التي استمرت من الخامسة مساء حتى منتصف الليل ، وتركته لينام ؛ فالشعراء أكثر حاجة إلى النوم ليحلموا !
وفي اليوم التالي رافقته في الطريق حتى ساحة الأندلس حيث مقر إتحاد الأدباء والكتاب في العراق.


كشف لي بعض الأسرار منها : أنَّ الصائغ وصديقه الصدوق : عبد الرزاق الربيعي ، كانا يتفقان على عدم المشاركة في القراءات الشعرية ، في المهرجانات، بأن يذهبا إلى المسؤولين عن إدارة المهرجان ، ويدَّعيا أنَّ هناك أعداداً كبيرةً من المشاركين من أدباء المحافظات ، وسيضحيا بحصتيهما لهم ، بشطب اسميهما ! وكانت الخطة تنجح !
لخَّص لي الصائغ حراجة موقفهما بالقول : لو بقينا في العراق ، ولم نهاجر، لسقطنا مع التيار، أو قُتلنا !
ظل شعر عدنان الصائغ طرياً حاضراً صامداً ، برغم كل التحولات الكبرى التي شهدناها بعد سقوط الدكتاتور سنة ٢٠٠٣ م ، وأسوق هذه الحكاية مثالاً : سافرتُ يوم الجمعة الموافق ٢٠١٨/٤/٦ م إلى مدينة الكوفة مع الصديقين المترجم البارع ، والأكاديمي الرصين (ربيع عامد صالح) ومدرس الفيزياء (رعد زيد العزاوي) ، وحين وصلنا إلى جسر الكوفة ، أوقف ربيع عامد صالح سيارته ، ونزل ، وطلب منا أن نقف على الجسر، لنلتقط عدداً من الصور، فلما سألناه عن ذلك ، قال : تذكرت المجموعة الشعرية الثانية للشاعر عدنان الصائغ 🙁 أغنيات على جسر الكوفة ـ ١٩٨٦ م) وأحببتُ أن أُحييه بهذه الطريقة !
اقتنصتُ فرصة مرافقتي للصائغ في بغداد ، التي ساقها لي القدر، لأخرج بحوارٍ معه ، نُشر مرتين في ملحق (أبعاد ثقافية) في جريدة (التآخي) ، في عدديها المرقمين (٤١٩٣) ، و(٤٢١٩) الصادرين يومي الخميس ٢٠٠٤/٣/١٨ م ،
و٢٠٠٤/٤/٢٩ م أي أنَّه مُنح الفرصة للظهور مرتين سهواً ابداعياً كما خرج الشاعر من الحرب سهواً !!
( الحوار)
الشاعر عدنان الصائغ : نزيف الشعر، والفقر، والحرب
هو شاعرٌ أرخ للخراب ! شعره ممتعٌ ، وسهلٌ، وعذبٌ، ومدهشٌ، برغم نزف الهموم ، والظلام ، والشر الذي لم يُسكت صوته الثمانيني الممتد إلى عمق الألم.
إنَّه الشاعر عدنان الصائغ المعنيّ بتوثيق عذاباتنا زمن الطاغية الذي تنبأ مبكراً بزواله، وهو مناضل بالشعر منذ ولادته بالكوفة سنة ١٩٥٥ م وحتى هجرته قسراً سنة ١٩٩٣ م هارباً من الذبح، أو السقوط !
قال عنه الشاعر عبد الوهاب البياتي : ( شاعرٌ مبدعٌ يواصل مسيرته عبر حرائق الشعر، ويغمس كلماته بدم القلب).
وبشَّر به الناقد مدني صالح بقوله : ( إنَّه أشعر العرب الذين جاءوا إلى الشعر) ، وقيل فيه الكثير، وترجم شعره إلى اللغات الانجليزية ، والفرنسية ، والهولندية ، والفارسية ، والكردية ، والإسبانية ، و البرتغالية ، و الرومانية ، والألمانية ، و الدنماركية ، و النرويجية ، و السويدية . وكان فوزه بجائزة ( هيلمان هاميت العالمية للإبداع) في نيويورك سنة ١٩٩٦ م ، وفوزه بجائزة ( الشعر العالمية) في روتردام في هولندا سنة ١٩٩٧ م .. كانا إعلاناً عن عمق همه الإنساني .
صدرت له نحو عشر مجاميع شعرية ، ابتداءً بديوانه (إنتظريني تحت نصب الحرية ـ بغداد ١٩٨٤ م) وآخر ما صدر له ديوان ( تأبط منفى ـ السويد ٢٠٠١ م) ، لكنَّ قصيدته الطويلة ( نشيد أوروك ـ بيروت ١٩٩٦ م) عدُت أطول قصيدة كُتبت في الشعر العربي ، وقد طبعت في كتابٍ ضم أكثر من مئتي صفحة، وهي قصيدة مدورة كتبها على بحرين شعريين ، تنبأ فيها الشاعر بنهاية الدكتاتور المذلة. يقول في مقطعٍ منها :
(ـ كم ساعتك الآن؟
ـ منتصف الموت ببغداد..
ورجال الاربي جي خلف النخل ، يدكون قلاع الدكتاتور (يفتش بين الادراج عن الحرس الخاص : لقد فروا) فيلوذ بزاوية المرحاض ، يموت وحيداً مذعوراً ، يسحله صرصارٌ من ياقته بين الأنقاض ، يخشخس بالاوسمة الذهبية ، تعترك الديدان على جثته ، كاميرات الصحفيين تعلقه فوق الجسر، أكف الشعب الهادر، لافتة لنهاية عصر الطغيان).
يقيم الآن في مدينة ( مالمو) السويدية حيث درجة الحرارة تنخفض إلى ( ٣٢) درجة تحت الصفر.
استثمرت فرصة وجوده في بغداد لأجري معه هذا الحوار :
*قلتُ له : تقول في قصيدتك ( سماءٌ في خوذةٍ) : ( للطفولة يتمي/ ولامرأتي الشعر، والفقر/ للحرب هذا النزيف الطويل/ وللذكريات الرماد) .. ألا ترى أنَّ يتمك ، والحروب العبثية الطاحنة التي عشتها ، والفقر الذي مضغ شبابك : لها الفضل في شاعريتك المميزة ، تلك الشاعرية التي جعلت ناقداً مهماً هو الدكتور عبد الرضا على ، يقول عنك : هذا شاعرٌ خطيرٌ، أقول : خطيراً، وأعني ما أقول ؟
ـ قال : ربما تكون المعاناة التي عشتها في تلك السنوات المرة هي التي فجرت هذه المكنونات في روح نصي ، وربما تكون القراءات أو السفر أو التجربة ، أو….. أو هي التي فرشت ظلالها على هذا النص الذي عبرتُ عنه في مطلع ديواني الأخير ( تأبط منفى) ، الصادر عن دار المنفى في السويد ٢٠٠١ م إذ أقول :
نسيتُ نفسي على طاولة مكتبتي
ومشيت
وحين فتحت خطوتي في الطريق
اكتشفت أنني لا شيء غير ظلٍ لنص
أراه يمشي أمامي بمشقةٍ
ويصافح الناس ، كأنّه أنا
*قلتُ له : حين قرأتُ قصيدتك الطويلة (نشيد أوروك) التي مسرحها المخرج غانم حميد باسم ( هذيان الذاكرة المر) عام ١٩٨٩ م ، أحسست أنها نزفٌ مستمرٌ لذبيحٍ ، إلى درجة أن المخرج إبراهيم جلال ، حضر العرض على كرسي المعوقين خرج باكياً لاطماً من التأثر ، وحمد الله أنَّه عاش إلى زمنٍ رأى فيه تطور المسرح العراقي… كان هذا في نهاية الثمانينيات.. الآن بعد سنوات الغربة القسرية عن الوطن نسمع منك قصائد قصيرة جداً ـ إن صح التعبير ـ فهل أثرت فيك ثلوج السويد ؟
ـ قال : ليس هذا أبداً ، فأنا أكثر ميلاً إلى النص القصير ، والقصير جداً، بوصفه الأقرب إلى روح الشعر الموجز ، والاقتصاد باللغة ، والدهشة ، والتكثيف ، والايحاء، فكتبتُ هذا النوع من الشعر في بداياتي الأولى داخل الوطن، و كتبته في المنفى .. لكنَّ تجربة قصيدتي الطويلة (نشيد أوروك) مختلفةٌ جداً ، فقد عشتُ لأكثر من عامٍ، ونصف في اصطبل للحيوانات في أثناء الحرب العراقية الإيرانية وبالتحديد عام ١٩٨٤ م عندما كنتُ جندياً هناك مرمياً على سواتر الحرب في قرية (شيخ أوصال) في السليمانية ، وظلت هذه القصيدة معي حتى خروجي من الوطن ، وتنقلي في بلدان عدة حتى وصولي إلى بيروت عام ١٩٩٦ م أي بعد ( ١٢) عاماً لأنتهي منها، وتصدر في كتابٍ، وقد عدها بعض النقاد ، والكتاب من أطول القصائد العربية ، وأرى أنها حملت الكثير من تجربتي ، وقراءاتي، وتاريخ وطني، هنا أقول : إنَّ التجربة ، والحالة التي يعيشها الشاعر هي التي تحدد نوع القصيدة، وشكلها ، وطولها ، وقصرها، وايقاعها ، ومناخها .
*قلتُ له : يلمس القارئ في شعرك تلك الروح الشعبية الساخرة ، والعلاقات الجديدة مثل (أحلام حافية) ، و(الطرقات تشاكس جوعي) ، و(قصفت طيارات الحلفاء ـ كما جاء بتصريح الناطق ـ فرشة أسنان الدكتاتور) ، و( إنَّ القنابل تقتسم الأصدقاء) ، و(الموت لا يقبل الجمع، والطرح /فاختر لرأسك ثقباً بحجم أمانيك / هذا زمان الثقوب) .. فمن أين جاءتك هذه الروح ؟
ـ قال : أجدني ملتصقاً بالمفردات الخفية ، والهامشي ، والمسكوت عنه في ثقافتنا ، و بيئتنا ، باحثاً عن تلك الروح الحية ، ونبض الناس، وشريان العصر ، لأنّهم الأكثر صدقاً، وتفجراً من لغة القواميس والشعارات والتنظيرات الجاهزة فالشاعر هو ابن عصره ، والشاهد على أنينه ، وحلمه وتمخضاته.. ومن هنا تتشكل علاقات كلماتي مع بعضها ، وتأخذ روح السخرية المرة التي تعكس واقعنا المر الطافح بالمتناقضات.
*قلتُ له : منْ يطّلع على كتاباتك النثرية ، وبالأخص (العمود الصحفي) يلمس ولوجاً منك إلى الأعماق ، فهل جاءتك فهذه الشفافية من الشعر؟
ـ قال : الكتابة النثرية تشكل واحة استراحة من حمّى الشعر ، ومعظلته الوجودية ، وانثيالاته الحلمية ، لتأتي الكتابة النثرية امتداداً آخر أقرب إلى روح الكتابة الصحفية ، التي تُعنى باليومي، والمشكلات الأنوية في الشارع ، والنص ، والحياة.
ربما تحمل هذه الكتابة بعضاً من روح الشعر، وهذا ما أحاوله دائماً ؛ لأنني لا أستطيع أن أفصل روحي ، وأصابعي عن هذه الحمى الجميلة حتى في كتابة الرسائل ، أو الأعمدة الصحفية التي مارستها داخل الوطن، وخارجه ، وقد جمعتُ مرةً ما نشرته من كتابات في عمودي الاسبوعي (مرايا) ، وضممته في كتابٍ وضعت تحته عنواناً فرعياً هو (نصوص نثرية) ، وبرغم هذا فقد عده بعضهم شعراً.، وصنفه ضمن مجموعاتي الشعرية.
*قلتُ له : أما زال الشعر في الغرب للنخبة ، أو أنَّ هناك تطوراً نحو اتساع قاعدة الشعر (مع تحفظي على كلمة (قاعدة) طبعأ !)
ـ قال : الشعر سواء في الغرب ، أو في الشرق ، هو النغم الحي ، والسرمدي الذي تتغنى به شعوب الأرض قاطبةً في أفراحها ، وأحزانها ، وعشقها ، و أحلامها ، وهو المعبر الحقيقي عن نبضها ، وتاريخها .. فلا أرى ثمة شعراً للنخبة، وآخر للقاعدة.. إنَّه الشعر أولاً، وأبداً لكل انسانٍ متذوقٍ ، وشفافٍ ، وعاشقٍ ، وحزينٍ ، وحالمٍ ، نخبوياً كان ، أم غير نخبوي، شرقياً كان ، أم غريباً ، قديماً كان ، أو حديثاً، كلاسيكياً كان ، أو حداثوياً.
*قلتُ له : لك ، وللشاعر عبد الرزاق الربيعي قصيدةٌ مشتركةٌ هي (تقاسيم على الرصاص الحي) ، وهي تجربةٌ فريدةٌ حقاً يصعب على القارئ تمييز صوتيكما ، فكيف استطعتما التناغم في كتابة هذه القصيدة ؟
ـ قال : في يومٍ فاجعٍ ، بعد أيام الانتفاضة الباسلة سنة ١٩٩١م كنّا أنا، وصديقي المفجوع دائماً ، والشاعر النبيل عبد الرزاق الربيعي ، في سفرةٍ من بغداد إلى النجف ؛ للاشتراك في أحد المهرجانات الشعرية ، لكنَّنا قد اتفقنا أن يكون طريقنا على كربلاء ، وهناك مررنا بصديقنا الشاعر (علي الفتال). وجدناه مهدوداً محطماً ؛ حيث راح يروي لنا قصة استشهاد ولده (جمان)، الذي بقي ينزف في البيت أمام عينيه في أثناء اقتحام جنود الحرس الجمهوري لمدينة كربلاء ، ودكها بالصواريخ، والراجمات.. عبثاً حاول الأب انقاذه مستغيثاً بالحجر، والناس والجنود والطائرات ، والهواء، والأضرحة فلم ينقذه أحد حتى أسلمت روح ابنه ومات.
عدنا من كربلاء ، والدموع ، والغضب يملآن روحينا ، وفي الطريق إلى النجف ، أخرج كلٌ منا ورقته ، وراح يكتب بلا اتفاق ، وعلى انفراد.. كان الباص يتهادى بنا في ذلك الطريق الصحراوي ، وكنا مبللين بدموعنا ، وشهقات أرواحنا اللائبة ، وهي تنسكب كلماتٍ على الورق ، وبعد ساعةٍ ، وقبل أن نصل إلى مشارف النجف ، هتفتُ : أنهيت قصيدتي يا رزاق! وهتف الربيعي في اللحظة نفسها : وأنا كذلك أنهيت قصيدتي!
كانتا أشبه بجرحين فاغرين متداخلين بعضهما ببعض.
جلسنا في ما بعد، نرفو جراحنا ؛ لننسج منهما نصاً واحداً مشتركاً .
لا أدري ، ولا يدري الربيعي حتى اليوم ماذا كتب هو، وماذا كتبت أنا.
أرسلنا النص المشترك إلى عدة صحفٍ ومجلاتٍ لكنَّ أيا منها لم تتجرأ على نشره وقتها ، وبعد تدخلاتٍ ، و (واسطات) استطعنا أن نسلله ، لينشر في إحدى المجلات ( يقصد مجلة الرافدين).
واترك عدنان الصائغ عائداً إلى منفاه ، بعد أن تبدد ما قاله سابقاً : (سأرجع من وطن النفي بعد ثلاثين عاماً لأطرق باب البلاد بعكاز شيخوختي) .. فها هو قد طرق باب البلاد بعكاز شعره ، ومحبته !
*فصلٌ من كتابٍ معد للنشر عنوانه (وجوهٌ في ذاكرة الأرض) للكاتب.
شروح صور
١. عدنان الصائغ
٢. الشاعر مع المُحاور في مقهى الجماهير بباب المعظم سنة ٢٠٠٤ م
٣. عدنان الصائغ ، وعبد الرزاق الربيعي
٤. من اليمين إلى اليسار ، رعد زيد العزاوي ، علي جبار عطية ، ربيع عامد صالح ، على جسر الكوفة ضحى يوم الجمعة الموافق ٢٠١٨/٤/٦ م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى