من يحملون حقائب الفجر والجندي الإسرائيلي
شوقية عروق منصور | فلسطين
متاهة من الجليد تأخذني حين أرى جندياً يجر طفلاً، ينتشله من أرض الطفولة ويرميه في وحل الفزع والخوف والدموع والتوسل، الكاميرات ليست فقط شاهدة عيان على تصرف وسلوك ووحشية، إنها الميدان الصادق للتوثيق وحضورها سيضاف الى صفحات المؤرخين.
قالت لي وهي تفرك أصابعها فرحاً: انظري إلى المجرم والسفاح والإرهابي الصغير .. !! انظري إلى جنودنا كيف يضحون بأنفسهم من أجل أمننا؟
نظرت إلى شاشة التلفزيون المعلقة على الجدار، جميع من في الغرفة تسللوا إلى خلايا الشاشة الزجاجية وتحولوا إلى أيدي تحضن الجندي المصفح والمدجج والبندقية – التي لا أعرف من أي نوع – يضرب بها رأس الصبي، نعم عمره لا يتجاوز الثانية عشرة .
حالة الفرح والضحك وشد الشفاه ومطها حتى تندفع القهقهة من الحلق إلى الخارج معلنة الانتصار الكاسح .. يا للهول ..!! قلتها في داخلي على طريقة الفنان يوسف وهبي، كيف لم أجد من بين الوجوه وجهاً يتساءل بصراحة عن هذا الصبي وكيف وصل به الأمر إلى الصراخ والبكاء تحت عقب البندقية.. وكيف لم يحرك بكاء الصبي مشاعر الأمهات الجالسات، خاصة تلك المرأة التي تحضن ابنتها التي تدل ملامحها على عمرها القريب من عمر الصبي الذي يجره الجندي .
عادت المرأة موجهة الحديث لي .. انظري إلى الصبي كيف يتوسل الجندي..!! عندها وحتى أتخلص من ثرثرتها المسيجة بالاستعلاء والعنصرية، فلا أريد مناقشتها لأن النقاش حول الوضع السياسي الآن أمام هذه الوجوه سيتحول إلى ساحة صراخ ودفاع عن الحق والتاريخ ..الخ والانتظار لدى الطبيب لا يتحمل شراسة الكلام وجنون اللغة حين تشعر أن الزيف والباطل والخداع قد مهدوا الطريق للنقاش .
تكلمت مع ابنتي باللغة العربية .. وإذ بهم ينظرون إلي بعيون اتسعت حدقاتها، ثم طأطأت المرأة الثرثارة رأسها وصمتت، اختفت لغة المباهاة، الشفاه التي فتحت أبواب الضحكات، تقلصت وسكنت فوق ضحكاتها أقفاصاً من الحديد لطيور بلا أجنحة تصر على الطيران .
عدت للشاشة المعلقة، القناة الثانية الإسرائيلية تمسك التحليلات السياسية، أنها أشبه بالنقش على الماء أو حسب ما كانت تقول أمي- دق المي وهي مي- كلام وتحليل وتفسير وتصريح، كل محلل يحاول الصيد في الوضع السياسي، يصنع سكة حديد لوحده، يطلق صفارة قطاره الخاص، يعتقد أن قطاره سيصل أسرع على سكة العنصرية. لكن هناك من صنع طائرة نفاثة للعنصرية والحقد، وهناك من صنع صاروخاً عابراً للنفوس، جميعهم حول طاولة الحوار لم يتكلموا عن الاحتلال والمستوطنين والمستوطنات والقمع والكبت والسجون والبطالة والمفاوضات، السلطة الفلسطينية بالنسبة لهم منطاد هش سيدمر تحليقه ثقب صغير من ظفر أحد الرؤساء والزعماء العرب، أو من ظفرهم الاحتلالي .
لم يتكلموا عن هجمات المستوطنين البربرية الوحشية، جميعهم خاضوا معركة المسكنة، أن الفلسطينيين يتعرضون لنا، يقتلوننا، يشهرون السكاكين في وجوهنا، يشوهون حياتنا، يجبروننا على العيش بفزع وخوف ورعب .
الكاميرا تعود مرة أخرى إلى الطفل الذي يبكي بين يدي الجندي، والجندي يجره إلى السيارة، وبين دموع الطفل وكرنفالات القوة المهيمنة الطالعة من الجندي، كانت السكرتيرة تنادي على أسمي، فتخلصت من تنهيدة كانت قد استقرت على نوافذ صبري ولطخت بريقه، تريد الخروج خوفاً من الاختناق.
عندما خرجت من غرفة الطبيب، كانت المرأة الثرثارة تنتظر أمام الباب، وباقي المنتظرين يتابعون نشرة الأخبار، أحداً لم يحتج؟ أحداً لم يشفق على الصبي؟ أحداً لم يوجه سهام النقد للجندي الذي قوته لا تعادل قوة الصبي الأعزل الضعيف.
عندما يخرج “عيسى قراقع” رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين عن صمته ويحذر من الذي يجري على أرض الواقع، نسأل من يحمي طفولة أطفالنا؟!
حين يذكر” قراقع ” أن 800 حالة اعتقال جرت في صفوف القاصرين (أقّل من 18 عامًا) خلال الشهر الماضي، لافتًا إلى أنّها النسبة الأكبر منهم من محافظة القدس.
ويضيف إنّ حجم الاعتقالات الواسع يُعتبر سابقة لم تحدث منذ سنوات طويلة، حيث كان معدل حالات اعتقال الأطفال سنويًا تتراوح بين 700- 900 حالة، في حين أنّه في شهر واحد وصل العدد إلى 800 حالة، ممّا يعني أنّ اعتقال الأطفال أصبح سياسة ومنهجية إسرائيلية تستهدف تدمير الأجيال الفلسطينية وتدمير حياة الأطفال، الذين هم بؤرة ومركز الهبة الشعبية الفلسطينية.
وأشار”عيسى قراقع” إلى أنّ الغالبية العظمى من الأطفال تعرضوا لأساليب تعذيب وحشية وتنكيل ومعاملة لا إنسانية خلال اعتقالهم واستجوابهم على يد الجنود والمحققين.
وأبرزت شهادات الأطفال أساليب وحشية ولا أخلاقية تعرض لها القاصرين خلال اعتقالهم هي: الضرب الشديد منذ لحظة الاعتقال بواسطة البنادق والأرجل والدعس عليهم من قبل الجنود. إطلاق الكلاب البوليسية المتوحشة عليهم. استخدام القاصرين دروعًا بشرية خلال عمليات الاعتقال.
التعذيب والتشبيح والإهانات والتهديد خلال عمليات الاستجواب. ترك الأطفال الجرحى ينزفون فترات طويلة قبل نقلهم للعلاج.
نقل المصابين إلى مراكز التحقيق رغم سوء أوضاعهم الصحية. إجبار الأطفال على الإدلاء باعترافات تحت الضرب والتعذيب والتهديد باعتقال أفراد الأسرة. عزل الأطفال في زنازين انفرادية وحرمانهم من زيارة الأهل والمحامين. تربيط الأطفال المصابين بأسرة المستشفيات وتحت الحراسة والمعاملة السيئة. وأوضحت هيئة الأسرى أنّ استهداف الأطفال جاء وفق قوانين وتشريعات وتعليمات رسمية إسرائيلية، وتحت شعار لا حصانة للأطفال راشقي الحجارة، وأنّ التعليمات الإسرائيلية تجاه الأطفال تمثلت بما يلي:
قنص الأطفال وإطلاق النار عليهم. فرض إحكام فعلية على الأطفال تتراوح بين 4 سنوات وعشرين سنة. فرض غرامات وكفالة مالية مرتفعة بحق الأطفال في المحاكم الإسرائيلية. إصدار إحكام بإقامة منزلية أوْ إبعاد عن منطقة السكن خاصة في القدس. زج أطفال قاصرين في الاعتقال الإداري.
وأوضح “قراقع” أيضًا أنّ أطفال فلسطين أصبحوا مطلوبين ومطاردين ومستهدفين من قبل حكومة الاحتلال، وأنّ عمليات إعدامٍ ميدانية جرت بحق النسبة الكبر من الشهداء الأطفال البالغ عددهم 17 طفلاً. ويتعرض الأطفال في الضفة الغربيّة المُحتلّة، مثل الكبار، أيضًا، للملاحقة والاعتقال والمحاكمة بموجب نظام المحكمة العسكرية الإسرائيلية الذي يحرمهم من حقوقهم الأساسية. ومنذ عام 1967، تُطبّق إسرائيل نظامين قانونيين منفصلين في الضفة الغربية، فالمستوطنون يعيشون تحت القانون المدنيّ، بينما يخضع الفلسطينيون لقانون الأحكام العرفية، كما أنّها تُطبّق القانون المدنيّ على الأطفال الفلسطينيين في القدس الشرقية. وتعتبر إسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي تحاكم الأطفال في المحاكم العسكرية، حيث يتم محاكمة ما بين 500- 700 طفل فلسطيني سنويًا في هذه المحاكم.(عن تقرير هيئة شؤون الأسرى والمحررين ) .
حين يغادر الطفل جلده البريء، حين يواجه العاباً ليست من اختصاص طفولته، وفي منتصف البراءة يسقط من فوق حصانه الخشبي ليجد نفسه فوق ارضية الدم والمواجهة والحواجز والاغلاقات والاعدامات والجنازات المغلفة بالإصرار والأناشيد والزغاريد ، ورؤية الجنود وتكاثر المستوطنين .
وأنا خارجة من باب العيادة الزجاجي إلى الشارع، كان الحارس يشاهد نشرة الأخبار، استرقت النظر إلى الشاشة، وإذ بصبي فلسطيني راكباً دراجة هوائية في أحد أزقة مدينة القدس، يوقفه الجندي ويجبره على الانتظار، لأن هناك بعض المستوطنين سيمرون من هنا، وعلى الصبي الانتظار حتى يمروا، الصبي الفلسطيني رفض الوقوف والانتظار، بل أستهز بالجندي.
ركب دراجته وسار بعظمة وكبرياء ..! وكان خلفه عدة صبيان يركبون الدراجات .
فرحت بشجاعة الصبي، وتدلت من عتمة الشارع حكمة تاريخية (ألم يعلم الجندي أن الاحتلال طقساً عابراً مهما مر الزمن) هؤلاء الصبيان وحدهم من يحملون حقائب الفجر