بالحبر الأبيض.. سيرة صحفية (4)

في سمكتي لؤلؤة !!  (4)

                                                                 علي جبار عطية | رئيس تحرير جريدة أوروك – العراق
كانت نوعية الكتّاب، والكتابات، وانفتاح جريدة (التآخي) على شرائح المجتمع، من غير المثقفين، من أسباب نجاح الجريدة، وازدياد شعبيّتها؛ لملامستها أوجاع الناس، ولكونها من الصحف المبدئيّة العريقة التي لم تهادن السلطة منذ أن أسّست عام ١٩٦٧ م، وحتى إيقافها سنة ١٩٧٤ م، والاستيلاء على ممتلكاتها، ثم تأسيس جريدةٍ أخرى، على أنقاضها اسمها (العراق)، ولقد دفعت التآخي ثمن إلتزامها، وتمسّكها بمبادئها  بما تعرّضت له من مضايقات أمنيّة، حتّى وصل الأمر إلى إغلاقها، ويعتزّ العاملون فيها باثنين من رؤساء تحريرها،  تمّت تصفيتهما، وهما:  (صالح اليوسفي)   (١٩١٨ م ـ ١٩٨١ م) الذي قُتل بطردٍ بريدي سنَّة  ١٩٨١ م، و( دارا توفيق) (١٩٣٢ م ـ ١٩٨٠م) ، الذي اعتقل سنّة ١٩٨٠م، واختفى أثره  ـ على طريقة اختفاء موسى الصدر ـ  هل عرفتم لماذا دوَّختكم،  ورفعتُ ضغطكم، أو سكّركم، ببعض التفاصيل؟ كلّ ذلك لأصل إلى سؤال يتمخّض عن نتيجةٍ هو: هل تستحق جريدةٌ ملتزمةٌ بوزن (التآخي)، صمدت بوجه التحديات، وقدمت التضحيات أن تنتهي هذه النهاية المؤسفة؟


اجتمع بنا الدكتور بدرخان السنّدي، عدّة مرات.، بعد تسلّمه إدارة الجريدة ، في شهر آيار سنة ٢٠٠٥ م ، خلفاً لرئيس التحرير الكاتب، والمناضل فلك الدين كاكائي (١٩٤٣م ـ ٢٠١٣ م)، وكان همَّه الأساس، تطوير الجريدة ؛ شكلاً، ومضموناً.
على صعيد الشكل، وفي واحد من الاجتماعات، تساءل السنّدي: لماذا تكون الجريدة في حدادٍ مستمرٍ ،ـ في إشارة إلى صدورها بالأسود والأبيض ـ وكنتُ ـ على ما أذكر ـ قد سألتُ مدير التحرير الأخ (مخلص خوشناو) هذا السؤال، فأجاب: بأنَّ (كاك فلك) يرى؛ أنّ تميّز الجريدة، هو كونها، بالأسود، والأبيض، وسط مجموعةٍ من الصحف الملوَّنة.

أما على صعيد المضمون، فيرى السنّدي ؛ أنَّ الجريدة الفاعلة، يجب أن تفتّش عن الخلل في المجتمع ، وتسلّط الضوء على الظواهر السلبيّة لمعالجتها، وكلّما كانت مشاكسات الجريدة كثيرة، كان ذلك دليلاً على نجاحها.
طبّق السنّدي استراتيجيته هذه، فصارت الصفحتان الأولى، والأخيرة وصفحتا الرياضة ملوَّنةً، وزاد عدد صفحاتها من ١٢ صفحة إلى ١٦ صفحة .
أمّا على صعيد المضمون، فقد فعَّل قسم التحقيقات، وأعطى العاملين فيه حرية  الدوام في أيّ وقت، وحسب الحاجة، ودعم المحرّرين الميدانيين، وأعطاهم امتيازات أكثر من غيرهم من العاملين في الجريدة، وفتح الباب للكتّاب الخارجيّين، ليدعموا القسم، فاستقطب عدداً من الكتّاب.، منهم : القاص  شوقي كريم حسن، والشاعر عبد اللطيف الراشد،  والإعلامي قحطان عدنان المشهداني، والصحفي شاكر عباس، وشيركو شاهين،  وغيرهم.
ولأنَّه عمل رئيساً لقسم التحقيقات في السبعينيّات، كان ينتقد التحقيقات التقليدية، فيشير، مثلاً إلى تركيز بعض المحرّرين، على موضوعات لا تضرّ، ولا تنفع ، كتناول  سوق الصفافير أكثر من مرةٍ !، وكان يقول : ما الثمرة التي نجنيها، من تناول موضوع طرق النحاس !! وكان ينتقد قيام بعض المحرّرين ، باستخدام أسماءٍ مفبركةٍ في التحقيق ، مع أنهم لم يلتقوا شخصاً بهذا الإسم البتّة  ! لذا ألزم المحرر ، بأخذ صورةٍ للمتحدّث، ضماناً للمصداقية.
ظهرت  نتائج هذه التغييرات، عمليّاً بعد مدّةٍ قصيرةٍ ، فكانت مؤشرا على النجاح ، فزادت إيرادات الإعلانات التي كانت تتدفّق على الجريدة ، حتى اضطرّت إدارة التحرير ، إلى إلغاء صفحاتٍ كاملةٍ لاستيعاب الإعلانات،  بل زحفت، حتّى على الصفحة الأولى، فشغلت ربع مساحتها، في كثيرٍ من الأحيان، أمّا في عصر (الأستاذ) الزاهر، فقد وصل الحال، إلى حصول الجريدة على إعلان فقدانٍ واحدٍ في اليوم !!
طبعاً، المقارنة لا تصحُّ، بين السنوات التي ارتفعت فيها أسعار النفط، حتى تجاوزت المئة دولار، للبرميل الواحد،  والسنوات التي هبط فيها سعر البرميل، إلى ما دون الثلاثين دولاراً، لكن تعلّمنا الحياة، أنَّ هؤلاء الذين يسلبون الناس أرزاقهم يسلبهم الله التوفيق ! والله لا يضرب بعصاً !
وفي الجانب الآخر، رُفعت ضدّ الجريدة ثلاث دعاوى، خلال مدةٍ قصيرةٍ، فقد طالبت طبيبةٌ بيطريّةٌ بتعويضٍ قدره مليار دينار بدعوى ؛ تسبّب الجريدة بالأضرار بها ، لأنَّ الصحفي (ماجد محمد حيدر) ، كتب عن الكلاب البوليسية المحالة على التقاعد من الشركات الأمنية، العاملة في المنطقة الخضراء، التي تشتريها الدكتورة منهم بثمنٍ بخسٍ، وتعرضها للبيع قرب متنزهٍ  في مكان عام،  في منطقة زيونة، فيكون نباحها سبباً في إثارة الفزع لدى الكبار طبعاً !! 
كما اشتكى أحد القضاة ، لاتهامه  ـ في مقال ـ  بالانتماء لحزب البعث المنحلّ ( وكانت هذه التهمة كبيرةً في ذلك الوقت!!)
ورفع كاتب عدلٍ قضيةً على الجريدة.، لاتّهامه باساءة معاملة المراجعين .
ومن المحرّرين البارزين في قسم التحقيقات ، أذكر : الكاتب أحمَّد  لفتة علي،  والقاص ناهي العامري، وجعفر محمود، ووسن العبدلي، ومهدي الغزي، وشيرين محمَّد البدري، وإيمان عبد الله العزاوي، وماجد محمَّد حيدر ، و مهنَّد العقابي  ـ الذي أكمل الماجستير في الإعلام ، وصار فيما بعد  مديراً لإذاعة (الرأي العام) ـ ( ألم  أقل لكم سابقاً : إنَّ كلّ من يخرج من (التآخي)، يوفّق توفيقاً عالياً !!)
وبمناسبة ذكر مهنَّد العقابي ، أذكر  أنني اقترحت عليه ـ بعد عودته من مكّة  المكرمة حاجّاً ـ أن يكتب ذكرياته في الحج، فكتب سبع حلقاتٍ نشرت كلها ، لكنّ رئيس القسم الفني ، أراني تعليق السنّدي، على  الحلقة السابعة، وقد كتب  🙁 الأخ علي.. متى تنتهي هذه الحلقات ، فهل هي رحلة ابن بطّوطة !!؟).


لم يكتفِ السنّدي بذلك، بل ابتكر صفحةً جديدةً تسمّى (على المكشوف) لتعالج المشكلات العاجلة ، وحوَّل فقرةً صغيرةً ، كان يكتبها   (فلك الدين كاكائي) عنوانها (شعب يريد) إلى صفحةٍ كاملةٍ ، تظهر مرتين في الأسبوع، كان الشاعر صادق  الجلّاد (صادق حمزة الجواري) (١٩٢٦ م ـ ٢٠٠٧ م) الذي يعمل معنا، في القسم الثقافي ـ يعيد صياغة الشكاوى فيها بنفسه، قبل أن يترك هذه المهمَّة النبيلة لي، وقد تعلمّت منه مسألةً غايةً في الأهمية، وهي: إنَّ المشتكي ـ في الغالب ـ يهاجم الجهة، أو الشخص الذي أخذ حقه،  أو ظلمه، فإذا ظهرت الشكوى بأسلوب المشتكي نفسه،  ومن دون تخفيف اللهجة ، فأنَّ الطرف الآخر ، سيتشدّد أكثر، ولن يستجيب للمشتكي، ومن ثمّ يضيع الهدف الذي من أجله تنشر الشكوى !!
لم تغب عن ذهني، قصّة المرأة القرويّة البابليّة، التي ليس لها معيلٌ، وحين جاءت بشكواها، لإيجاد فرصة عمل لابنتيها، اللتين أنهتا دراستهما في الجامعة، من دون تعيين، فاتّصل المكتب الإعلامي لوزارة التعليم العالي، والبحث العلمي، ليخبرنا بتعيينهما معا في الحلة، فما كان من المرأة إلا أن جلبت معها إلى مقر الوزارة، صينتي ( قيمر عرب) احتفاء بالمناسبة!!
وفي قصّةٍ  أخرى أخبرني التربوي والإعلامي الباحث فاضل طلال القريشي ؛ أن رجلاً جاءه شاكراً، وقد ظنَّ القريشي أن سبب الشكر سعيه  في المكتب الإعلامي لوزارة التربية  في تعيين بناته الثلاث ، فردّ الرجل : إنّما جئتك شاكراً لأنّ بناتي ، بمجرد دوامهنَّ جاءت (قسمتهنَّ) !!
اقترحتُ على السنّدي  استحداث صفحة عنوانها (مرايا)  ـ  التي شهدت في ما بعد ـ ترسيخ كتابات عدد من الأسماء الرصينة مثل  : الكاتب نايف ثامر الكعبي، والكاتب الساخر سامي كاظم فرج، والدكتور  معتز محيي  عبد الحميد، والكاتب الاجتماعي عبد المحسن عباس الوائلي،  والكاتب الساخر عباس الأزرقي، مع فقرة لوحة تشكيليّة للفنان، والإعلامي خالد جبر، ورسومات كاريكاتيرية للفنان  سمير ملك، والفنان عودة الفهداوي. وقد حرصتُ على إدامة عمودٍ ساخرٍ عنوانه (أليس كذلك؟! ) كنت قد بدأت كتابته، مطلع حياتي الصحفية، كلّ خميس، في ملحق جريدة (الوطن) الكويتية، كانت تشرف عليه الشاعرة، والكاتبة الكويتية سعدية مفرح، نهاية سنة ١٩٨٩م ، حتى يوم الغزو المشؤوم ، للكويت في ١٩٩٠/٨/٢ م .


أذكر أن د. بدر خان السندي سألني عن طبيعة صفحة (مرايا) قبل ولادتها،  فأجبته :إنها كالمرآة تظهر حالات المجتمع العراقي فوافق على ظهورها أسبوعيا، واستمرّت حتّى توقّف الجريدة سنة ٢٠١٤ م. وبعد إعادة الصدور، كانت من أوائل الصفحات المستهدفة بالتوقّف..!!
كلّ هذه التقاليد، والأعراف الصحفيّة، سُفحت أمام ناظري في العهد الجديد ، فصرت أردّد مقطعاً للشاعر حميد سعيد، يقول :
“لكنَّ المخرج لم يعذرني
وأصرّ على أن آخذ
دور الملك الخاسر ! “
ولكن، لابأس ، لنخرج قليلاً ، من هذا الجو القاتم ، وسأروي هذه الحكاية: في أحد المساءات حين خرجتُ من الجريدة، مررتُ بساحة الطيران، لأشتري سمكة كاربٍ شقيةٍ (تتحرك كثيراً في الحوض) ، لكنّي اشترطت على البائع، فتح بطنها أمامي، والاحتفاظ بمحتوياتها، وأصررت على ذلك، فلمّا استفسر عن سرِّ ذلك، أجبته : لقد ارتبط ذلك  بطفولتي مع حكاية الصيّاد الفقير الذي صاد سمكةً فوجد في بطنها لؤلؤةً ! أمّا لؤلؤتي، فقد وجدتها في بطن الجريدة ! هل عرفتموها؟
( السيرةٌ مستمرةٌ.. شكراً لمن صبرَ معي.. يتبع)
***
شروح صورٍ
١. د. بدرخان السنّدي
٢.  اجتماعٌ مع بعض كادر الجريدة
٣.  مهنَّد العقابي
٤. كاتب السيرة مع الكاتب عبد المحسن عباس الوائلي، في مقهى الشابندر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى