صقلُ الرّمز في أناشيد سعيد الصّقلاوي
بلقاسم مارس – جامعة تونس
maryem201119@hotmail.fr
مداخل إلى الخطاب الرّمزيّ:
هذا البحْث موسومٌ بــــ”صقْل الرّمز[2] في أناشيد سعيد الصّقلاوي[3] من خلال مُدوّنته الشّعريّة[4]” هومحاضرة كنتُ قد ألْقيتُها بجامعة الشّرقيّة بمُحافظة الشّرقيّة بسلْطنة عُمان خريف سنة 2019 . وقد سُعِدْتُ كثيرًا بمشاركة إخْوتي وزُملائي في هذه الجامعة الفتيّة، فلعَمِيدهَا وأسَاتذتِها وطَلبتها كلّ الشّكر والتّقدير على كرم الضّيافة وحفَاوة التّرحيب. وقدْ حاولتُ منْ خلال هذه الدّراسة تتبّع طرائق اسْتعمال الرّمز في الكتابَة الشّعريّة لدى الشّاعر سعيد الصّقلاوي. فقد بدا لنا أنّ هيْأة الكتابة الشّعْريّة عنْد هذا الشّاعر تنْحُونحْوًا مخْصُوصًا في تدبّر آليّات النّظم وسبُل تصْريفها على وُجُوه شتّى حتّى يخَال المُتلقّي لمُختلف هذه النّصُوص الشّعريّة أنّه أمام توجّه في الكتابة فريد وتصْريف لمُختلف الرّمُوز مُتميّز. وهوما جعل منْ عمليّة التلقّي للمُدوّنة الشّعريّة كثيرًا ما ترْتطمُ بمُشكلات التّأويل وتدبّر المقْصديّة الشّعريّة وصُعوباتها في نصّ شعْريّ ما فتئ يكْتسبُ إشْعاعًا وتداولاً بيْن مُختلف القُرّاء عرفَ سعيد الصّقلاوي منْ خلاله كيْف يُجْري اللّغة على نحْومُتفرّد يجُوز معَهُ أنْ نُنسبَ هذا النّمط في الكتابة الشّعريّة إلى هذا الشّاعر دُون غيْره من الشّعراء لما يتميّزُ به من قدْرة على تصْريف الرّمز الشّعريّ على مناحي بلاغيّة مُتعدّدة وسَمتْ شعْر الصّقلاوي بالغُمُوض حينًا والدّعوة إلى الثّورة والتّجديد حينًا آخَر.
ولعلّ ذلك ما ينْسجمُ مع تعْريفات مُتعدّدة للشّعر كتلك التي تعْتبر النّظْم الشّعريّ بمثابة إعَادة بناء للواقع بشكْل مُخالف وفريد، وهوما لاحظْناه في الشّعر المُعاصر، إذْ أعاد صيَاغة الحضارة العربيّة المُعاصرة بمُختلف ميادينِها ومجَالاتها. وهوبهذه الخاصيّة أبان عنْ رُؤى الشّاعر وموْقفه الذي يمْنحه القيمة الحقيقيّة[5]. كما ينْسجمُ هذا التّوجّه الذي يُعْلي منْ قيمة الرّمز الشّعريّ مع مُختلف التّعريفات التي تعرّضت للرّمز بالبيان والتّبيين منْ قبيل ما نعثُرُ عليْه في المعاجم والمُؤلّفَات النّقْديّة الحديثة والمُعاصرة، إذِ اعتبر بعضُهم أنّ الكلمات هي رموزٌ لمعاني الأشْياء، أي رموز لمفهوم الأشْياء الحسّيّة أوّلاً ثم التّجْريديّة ثانيًّا، وأنّ الكلمات المنطُوقة رموزٌ لحالات النّفس والكلمات المكتُوبة رموزٌ للكلمات المنطُوقة. أمّا “ريتشاردز وأوجدن” فيُفرّقان بين الاسْتعمال الرّمزيّ والاسْتعمال الانْفعاليّ للّغة، إذْ يعْني الاسْتعمال الرّمزيّ تسجيلاً للإشارات وتوْصيلها إلى الآخر، أمّا الاسْتعمال الانْفعاليّ فيُقصدُ به اسْتعمال الكلمات بقصْد التّعبير عن المشاعر والأحاسِيس.
وعليْه فإنّه يُمكن القول بأنّ الذين نظرُوا إلي الرّمز منْ حيْثُ المُستوى اللّغويّ لمْ يخْرجُوا عن القِيمة الإشاريّة فيه “[6]. وجاء في لسان العرب لابن منظُور أنّ “الرّمز تصْويت خفيّ باللّسان كالهمْس، ويكون تحْريك الشّفتين بكلام غيْر مفْهوم باللّفظ منْ غيْر إبانة بصوْت، والرّمز إشارَة وإيماء بالعينيْن والحاجبيْن، والرّمز كلّ ما أشرت إليْه باليد أوبعيْن، ومنها رمز يرمز رمزًا “[7]. وجاء في معْجم المُصطلحات الأدبيّة المعاصرة أنّ الرّمز”علامة تُحيلُ على موضوع. وتسجّله طبقًا لقانون ما. والرّمز وسيطٌ تجْريديٌّ للإشارة إلى عالم الأشْياء “[8] . وقد ورد لفظ رمْز في القرآن الكريم في معرض الحديث عنْ قصّة زكريا عليه الصّلاة والسّلام في قوله تعالى: ” رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ “[9] . وجاء في قاموس أكسفورد: “أنّ الرّمز عبارة عنْ شيء يقومُ مقام شيء آخر، أو يدلّ عليْه لا بالمُماثلة فحسْب، وإنّما للإيحاء السّريع أو بالعلاقة العرضيّة منْ ذلك الحرْف المكْتوب، والرّسالة البريديّة، والشّكل أو العلامة المُتّفق عليهما”[10].
وإذا تتبعْنا الوظيفة المُهيمنة في مدوّنة سعيد الصّقلاوي ألْفينا تداخل الرّموز الشّعريّة فيها لتمثل بذلك قطبا شعريّا وكلاميّا تحوم حوْله بقيّة مستويات الكلام الشّعريّ، حتى أنّ هذه الرّموز قد اسْتحالت مُكوّنًا رئيسيًّا من مُكوّنات النّظم الشّعريّ عند سعيد الصّقلاوي لا تكاد تخلُومنه قصيدة منْ قصائده، حيث يعتمد الشّاعر في مدوّنته الشّعريّة على مجموعة من الرّموز التي بواسطتها يولّد النّصّ الشّعريّ وينكشفُ ليمثّل علامةً تأويليةً ورُؤيةً مقْصديّةً تشكّل العالم وترْسمُ ملامحه في محاولة منْها لفهْم الواقع وتدبّر سُننه وقوانينه في مُحاولة من الشّاعر لفهم العالم وتقديم مُقاربته الشّعريّة له مُستأنسًا في ذلك بطرائق تصْريف اللّغة الشّعريّة وهيْآت تشْكيلها.وتبعًا لذلك، فقد لعبت مُختلف التّقنيّات الشّعريّة دورًا حاسمًا في تشْكيل الصُور وطرائق توزيعها على مختلف المساحات النّصيّة في مدوّنة سعيذ الصّقلاوي.
فلا غرْوى أنْ ينْهض الرّوي والقافيّة والتّصريع والزّخرف اللّفظيّ والإيقاع الشّعريّ والبلاغة والعروض برسم معالم الرّمز الشّعريّ وجعله عنْوانًا رئيسيًّا للنّصّ الشّعريّ في عدد كبير من قصائد سعيد الصقلاوي، وهي لا شكّ أدوات وأساليب في نظْم الشّعر تُمكّننا كمُتلقين له من إخْراج القصيدة إخْراجًا مُتميّزًا حافلاً بالدّلالة والإيحاءات الشّعريّة الخاضعة للتّأويل وهي مُهمّة المُتلقي الواعي بالنّصّ الشّعريّ الذي يُحاولُ الشّاعر من خلاله وفي كلّ مرّة أنْ يُلبسه أغْراضًا مُختلفة ومُتباينة تحتفل بالرّمز الشّعريّ وتُكسبُه إشعاعًا وتُعلي من شأنه ولعلّ الصّقلاوي من خلال هذا التّدرج في بناء القصيدة على أسُس رمزيّة يرُوم إحياء النّصّ الشّعريّ العربيّ القديم بآليّات شعريّة جديدة في ظروف سياسيّة واجتماعيّة مُختلفة لكن ذلك لم يمْنعه من اسْتدعاء الحكْمة والمواعظ وإنْ بدتْ آليّات الكتابة الشّعريّة مُختلفة.
فما الذي يتميّز به الشّاعر سعيد الصّقلاوي عن غيره من الشّعراء ؟ وكيف تجري اللّغة على لسانه ؟ وما هي مظاهر الطّرافة في أشعاره ؟ ما مدى حضور سند القصيدة العربيّة القديمة في شعر الصقلاوي أم هوينْظمها على طرائق المُحدثين وآليّاتهم ؟ هل حاول سعيد الصّقلاي أنْ يُضيف إلى أشعاره ويُجدّد في طرائق كتابتها؟ ما مدى شيوع أشعاره وانْتشارها بيْن الناس ؟ وما مُبرّرات احْتفال النّقاد به؟ أهُوالرّمز المُهيمن على أشعاره الذي يُبرّر شُيوع نظْمه ؟
1_ صقل الرمز….نحت الكيان الخطاب الإيحاليّ:
للْكلمة دورٌ رئيسيٌّ ومركزيٌّ في رصْد حركة المجْتمع وما يطْرأ عليْه منْ تغيرات جذْريّة، لذلك فإنّنا بالكلمة نُراقب هذا التّطوّر والتّحرّك ونُحاول أنْ نواكب مجْمل التّحولات التي تشْهدها الإنْسانيّة. فتتبلور هذه الكلمات في شكل أناشيد شعريّة يردّدها الشّاعر ومُتلقّيه على حدّ سواء وكأنّها صِيغتْ منْ أجْلهم أو هي تعبّر عمّا يعْتمل في مِخْيالهم من هواجس ومشاعر. لقد كان الشّاعر سعيد الصّقلاوي سبّاقا دومًا إلى التّعبير عن هواجس أمّته وطموحاتها وأمانيها مُتّخذا منْ مخْزونه الشّعريّ وسيلةً للتّعبير عنْ مُختلف هذه الهواجس والأفكار. وهوما تجلّى لنا جليّا في مدوّنته الشّعريّة، إذْ بدتْ لنا هذه النّصوص محمّلة بالرّموز التي تمارس بدورها حضورا دائما في مختلف الأسْطر الشّعريّة حتى لكأنّه مصدر التّلفّظ الشّعريّ ومُنطلقه، بل هوالبؤرة المركزيّة التي تتولّد عنها الدّلالات وتُنسج بواسطتها خيوط التّأويل. وسنسْعى في هذا المجال إلى رصْد أهمّ الرّموز الشّعريّة التي وظّفها سعيد الصّقلاوي في مدوّنته وسنُحاول تصْنيفها وتحْديد مرجعيتها، إذ الرّمز في مدوّنة الصّقلاوي ينفتحُ على مصادر مُختلفة وأشْكال مُتعدّدة يُحاورها ويتنزّل في ثناياها ويسْعى إلى الكشْف عن أبرز مكوناتها.
الرّمز الأسْطوري الإيحاليّ :
الأسطورة هي ” مجموعة الحكايات الطريفة المتوارثة منذ أقدم العصور الإنسانية الحافلة بضروب من الخوارق والمعجزات التي يختلط فيها الخيال بالواقع ويمتزج عالم الظواهر بعالم ما فوق الطبيعة من قوى غيبية أعتقد الإنسان بألوهيتها “[11] وقد مثلت الأسطورة معينا خصبا نهل منه سعيد الصقلاوي فتكاد لا تخلوقصيدة من قصائده منها، وإن بدت الأسطورة الرئيسية في مدونته هي الرمز الطبيعي حيث مثلت في كثير من الأحيان قطبا شعريا تتآلف حوله مستويات الكلام الشعري في مختلف دواوينه.ومن بين هذه الرموز المهيمنة على مختلف القصائد يمكن أن نذكر:
- الرمز الطبيعي: يتّسم الرّمز الطّبيعيّ بكون قيمته الجماليّة متبدلة ومتطورة بشكل مستمرّ. وهذا ما يميّزه عن بقيّة الرّموز . ولذلك لا غرْوى أن يكون الرمز الطبيعيّ ذا قيمة جماليّة متباينة ومتناقضة أحيانا في مختلف النّصوص الشّعريّة، بل في النّصّ الشّعريّ الواحد، غير أنّ ما يجب الإشارة إليه هوأنّ هذه التعدّدية في الرّمز الطّبيعيّ لا تعني الإعتباطيّة والفوضى بحيث يفتقر الرّمز إلى الإحالة الجماليّة . ولعل من أكثر الرموز الطّبيعية شيوعًا في شعر سعيد الصّقلاوي رمز الماء وبدرجة أقل رمز الأرض .
- في تواتر رمز الماء في أشعار سعيد الصّقلاوي:
شعر سعيد الصقلاوي شعر متصل بالماء والحياة بل هويمثّل في كثير من الأحيان القطب الذي تتآلف حوله مستويات الكلام الشعري. وقد جعله عنوانا لديوانه الشّعريّ الموسوم بنشيد الماء في تركيب إضافيّ يُخبر عن الحاجة الأكيدة للماء كمكوّن رمزيّ للانسان والكون والحياة . بحيث وردت كلمة الماء أوما يحيل عليها مبثوثة في ثنايا مختلف قصائد مدوّنته الشّعريّة. والناظر في مختلف قصائده يجدُ أنّ لفظ الماء قد تردّد في قصائد عديدة لسعيد الصقلاوي حتى تحوّلت إلى لازمة شعريّة لا يرد البيت الشّعريّ إلفا وهومحمّل بها، بل نجدها هي التي تؤسّس للجانب الإيقاعيّ فيها ممّا يُوحي بقيمة الماء ومركزيته كرمز طبيعيّ وشعريّ في آن وما يمكن أنْ يحيل عليه من خطابات ومقاصد إحاليّة تتّصل بعنصر الماء كسبيل أساسيّ للحياة.يقول الشاعر:
ولماذا زرقة الماء غدت لمع سراب[12]
ولماذ غيّر النهر اتجاهه؟
ولماذا ترفض الأرض مياهه؟
كما تتواتر هيمنة الرّمز في القصيدة الثانية من نفس الدّيوان الموسومة بـــ “حكايا الماء” حيث استحال عنصر الماء حكايات تسرد ومتوالدة يأخذ بعضُها برقاب بعض، فإذا هوالماء وقد استحال أنشودة في عرف الشّاعر تستقطب ديوانا شعريّا برمّته .يقول الشاعر في قصيد حكايا الماء :
يرسم الصبح على الوديان أحلام الرجاء .
يحضن الأطيار والنحل وندمان الضياء
ويغني في الروابي الشم ألحان البهاء
فيناجي الحسن فيها عبـــقري الكبــرياء
يســكب الفتنة نهــــرا في يراع الحكماء
ينشر الوعد نهارا فوق أهداب المسـاء
هــهنا الماء حـــــكايا جاريات في الدماء
وهنا الأبراج أســـفار الزمـان المترائي
وهنا موكـب شمــس في عروق النجباء
على أن الماء في مدونة الصقلاوي يتخذ معنيين متقابلين فهويرتبط بمعنى الخصب والبعث والولادة والأمل والقضاء على الموت .وقد يصبح الماء رديفا للجوع والموت والدم المراق ( الماء حكايا جاريات في الدماء ) . إن إحالة الماء باعتباره رمزا دالا على الشيء ونقيضه تجعل الخطاب الشّعري محمّلا بطاقات إيحائيّة تُساهم في تعدّد دلالاته بما تضْفيه عليه من غموض. فيصبح من العسير على المتقبّل أنْ يستنفذ بفعل القراءة كلّ طاقات النّصّ الشّعريّ ” إذْ أن قارئ الشّعر عامّة والشّعر الحديث خاصّة لا بدّ وأن يتوسّل بالجانب التّأويليّ كيْ يتمكّن من فهم الدّلالة ومقاصدها .
رمز النار: يتغني الشاعر بجراح النار فيردد على مسامعنا احتفاله بها فيقول[13]:
الأرض أنتم والزمان والصدى والشرف
واللغة الخضراء في نبض الحصى والهدف
مكانكم فالشمــــس لا يدفنــــــها التطرف
لن يقنـــــعوا بغير صوتهـــم فهل نعترف
أنا جراح النار من صلب الثرى أستشرف
أستصرخ الضــــمير عله يعى وينصــــف
مبادئ نصـــــالها في الظـــــــهر ما تنحرف
أردّة إلى الظـــلام والضــــــياء يكــــشف
وأحيانا أخرى نجده يتغنى برمز الريح كمقابل لرمز آخر وهوالنار فيخاطبه قائلا[14]:
ووحدك قاومت عصف الرياح
ووحدك تلمع عاما فعاما
رغم عصف الرياح
ليلنا والصباح
فوق هذي البطاح
نغرس الأحسنا.
المكان الفضاء الرمز:
وعلى صعيد آخر فقد حضرت قرية الشاعر حضورا لافتا في مدونته الشعرية بل أن بعض القصائد تحمل عناوين تتصل بالمكان اتصالا وثيقا من قبيل استحضاره للقدس وبغداد والجولان والسودان
في القدس في بغداد في جولاننا[15]
في القرن في الميزاب في سوداننا
يثور ألف خنجر يغتالنا
وألف فكرة تجذ جذرنا
تجتاحنا تدوس كبريائنا
تلغي تداول الهموم بيننا
نغوص للأعماق في انهزامنا
وفي هرائنا وفي اختلافنا
وفي اندحارنا وفي انهيارنا
فهل يطرّز السنا هاماتنا
ويورق التاريخ في أصلابنا
ولئن دأب الشعراء المعاصرون على ذكر أوطانهم ومدنهم وقراهم في مختلف أشعارهم فإن حديث سعيد الصقلاوي عن عمان ومصر وبغداد والقدس وقراها ومدنها تجاوز حديث الطفولة وذكرياتها وكان في غالب الأحيان منطلقا لتناول قضايا إنسانية ووجودية رفعت مصر وسائر الدول المذكورة إلى منزلة الرمز يقول الشاعر سعيد الصقلاوي :
تشدني بلا تحفظ
لواعج الحنين
والذكريات المورقات في دمي رغم السنين
يا مصر يا معزوفة المنى
وصرح الماجدين
فالمدينة ههنا هي بمثابة الطبيعة التي لم تدنسها الحضارة ولم تتعرض إلى ما تعرضت له المدينة واكتسبت القرية العمانية تبعا لذلك هذه الرمزية المكانية خاصة بعد تجربة المدنية التي عاشها الصقلاوي في مدن وعواصم عربية كبرى . لقد استفاد سعيد الصّقلاوي من اعتماده الرموز متمثلة في الأرض والماء. ولعل كثافة الرموز وتنوعها في مدونة الصقلاوي من شأنها أن تدعونا إلى التساؤل عن دلالة الرمز الشعري في مدونتة الشعرية، فهل هي تعبير عن رؤية فنية تجاه الكون والحياة والإنسان ؟ أم هي تجربة بكر لها دلالات مقصدية وتأويلية قد تتصل بالسياسي والاجتماعي والثقافي في عمان ولا سيما مختلف العواصم العربية وما عرفته من تحولات متتالية على مر العصور.
الرّمزية إلى التأويل أوالرّمز الفاعل:
لم يكن الرمز في مدونة سعيد الصقلاوي أسلوبا فنيا فحسب بقدر ما كان موقفا جماليا من العالم أيضا. فجاء استعماله للرمز نتيجة وعيه وشعوره بغلبة البعد المادي على حياتنا المعاصرة وبالتالي اضمحلال القيم الإنسانية ” إذ لمس في الرمز وخاصة تلك الرموز الأسطورية منها بعدا شعريا افتقدته الحياة في المجتمع الحديث هواللجوء إلى الخرافة والأسطورة إلى الرمز ولم تكن الحاجة الى الرمز أمس مما هي اليوم فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه نعني بذلك أن القيم التي تسوده قيم لا شعرية والكلمة العليا للمادة لا للروح وراحت الأشياء التي كان في وسع الشاعر أن يقولها.أو أن يحولها إلى جزء من نفسها تتحطم واحدا فواحدا أو تنسحب على هامش الحياة، إذن فالتعبير المباشر عن اللاشعور لن يكون شعرا. فماذا يفعل الشاعر إذا؟ عاد إلى الأساطير إلى الخرافات التي ما تزال تحتفظ بحرارتها لأنها ليست جزءا من هذا العالم عاد إليها ليستعملها رموزا وليبني منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب والحديد ” [16]
لقد مكّنت الرّموز على تنوّعها وتعدّدها في قصائد سعيد الصّقلاوي من العثور على مساحات تعبيريّة خصبة وعميقة من حيث استعاب مدلولها والمشاعر والانفعالات والأحداث ( الفداء، الموت والتضحية، والأمل، والبعث، والثورة، والتجديد ). فالرمز باعتباره تجسيدا للرّؤية الفنية عند الصقلاوي أضحى تعبيرا عن أحلام النفس ومعاناتها . ووجد فيه الشاعر طاقة جديدة مكنته من تجاوز الأدوات البلاغية التقليدية، إذ كثيرا ما يقوم التعبير الرمزيّ عنده على التّداعي. فيستدعي الرمز رموزا أخرى ويحاورها، بل ويعيد تشكيلها ورسمها على هيآت مختلفة فتأتي في شكل تداعيات تتخذ شكلا توالديا يقول الشّاعر :
ناديت في أمية وفي صلاح الدين
صحت هل يرجع الصدى
فلم تجد إلا طوائفا تزاحمت
تبوس كف من يهدي الردى
أطلقت نار الشعر تحرق الدجى
وتكشف الدخان والتلبدا
تعانق الجريح والمستشهدا
وتحضن الأسير والمشرّدا
إنّ التّعبير الرمزيّ عند الصّقلاوي هوسمة جمالية وحوارية في آن، أي أن استعماله للرمز في أشعاره كان تعبيرا عن رؤية فنية أساسا وهذا ما يدحض بعض المواقف النقدية التي تبدوبسيطة وسطحية من ذلك مثلا تلك التي تربط استخدام الرمز بمختلف الصراعات السياسية حيث يضمن استعمال الرمز الابتعاد عن الشبهة السياسية. كما يتجلى البعد الفنّي للرّموز عند الصّقلاوي من خلال شعريّة الإكتناز اللغويّ إذ تستند الرموز وخاصة الأسطوريّة والتاريخية والدينيّة إلى نظريّة الاقتصاد اللّغوي إذ يعمد الشّاعر إلى تأسيس علاقة خاصّة بين بنية الرّمز وبنية الإطار الخارجيّ.
في جدليّة الخطاب الإحاليّ في مدوّنة الصّقلاوي
إنّ أهميّة البحث في البعدين الإيحائيّ والإحاليّ للرّمز الفنيّ في قصائد سعيد الصّقلاوي في مختلف نصوصه الشّعريّة لا تتأتّى من كون الرّمز يمثّل أحد عناصر البنية الفنيّة في نصّ الصقلاوي فحسب، بل تأتي أيضا منْ أنّ الإيحائيّة سمة التّعبير الجماليّ عامّة وعلى وجه الخصوص عند الصّقلاوي، إذ أنّ الوعي الفنيّ بطبيعة الحسيّة الانفعاليّة يسعى إلى تملّك العالم جماليّا بشكل مختلف عن الوعي الأخلاقيّ أوالاجتماعيّ أوالسّياسيّ . غير أننا نزعم أنّ مفهوم الجمالية عند الصقلاوي يمكن أنْ يقطع مع المفاهيم التقليديّة. ويُحاول تجاوزها وإعادة تشكيلها فإذا كان الجمال عند القدامي منحصرا في المثال والنموذج فإنّه عند الصّقلاوي أصبح مرتبطا بالقبح وبمنافذ تأويلية جديدة حتّمتها الضّرورة والزمن والمكان والتطورات الحاصلة في المنطقة لذا جاز لنا أن نتحدث في قصائد عديدة عند الصقلاوي عن جماليّة متميّزة ومتفرّدة في آن يمكن تسميتها بجمالية القبح يقول في قصيدته ألأنك حر تعدم [17] :
من أفتى أن النور ظلام
أوأنّ الصلح خصام
أوأنّ الغني رشاد
أوأنّ الماء جماد
أوأنّ البحر سراب
أوأنّ الصحوضباب .
إنّ بما وسمناه سابقا بالإيحاء الشّعري يمكن أن يتأسس من خلال الأسطر الشعرية السابقة. فكأنها أفكار لا علاقة لها بالجمال، بل أنّه يتأسّس أصلا من معاني القبح والبغايا والفقر والاحتلال والهزيمة والتفريط في الأرض وغياب العدالة الإجتماعية يقول الدكتور منصور قيسومة ” إنّ الفكرة في الشعر العربيّ الحديث لم تعد جميلة، بل انقلبت أحيانا إلى ضدّها أونقيضها. فعالم الشّاعر هوعالم الظّلام والأشباح والقبح والمواخير والمؤسّسات والمخبرين والطغاة والتّعذيب والسّجون والحفاة والغرباء والمنفيين وكل من أفردوا من مجتمعهم وكل من مسخوا وبعثوا من قبورهم ” [18] من هنا تبين أن التعبير الرمزي في شعر سعيد الصقلاوي يتحول إلى علامات سيبميائية دالة خاضعة للتأويل ومستدعية للدلالة ومنفتحة في الآن نفسه عن السياسي والاقتصادي والفني والثقافي ومن أمثلة ذلك ما أورده الشاعر في قصيدته حيا ستبقى ( إلى شهيد )[19]:
حلمنا بصبح جديد الشموس
فلما أفقنا وجدنا القتاما
فهل من لهيب الأسئى والعناء
تسود نفس عصام عصاما
ووحدك قازت عصف الرياح
ووحدك تلمع عاما فعاما
وأدركت أن الممات حياة
تطرزها مكرومات النشامى
لم يكن التعبير الشعري ههنا أسلوبا فنيا فحسب، بل كان موقفا جماليا من العالم أيضا . فكل الظواهر والأشياء عند سعيد الصقلاوي قبيحة كانت أوجميلة من المنظور التقليدي للجمال أصبحت محرضات ومثيرات جمالية في العملية الإبداعية . فالصقلاوي لا ينظر إلى الجمال بكونه موضوعا منجزا بمعزل عن الذات الفنية الفاعلة والمبدعة فكثيرا ما تحول الحديث عن القبح عند الصقلاوي مظهرا من مظاهر الجمال والعكس صحيح . إن جمال القصيدة عند سعيد الصقلاوي لم يعد يتأتّى من جمال الفكرة التي تعبر عنها بل من جمال شكلها الفني وهي تتوزع من جديد وفق هندسة جمالية مخصوسة ومن جمال الإيقاع والصورة والبعد الإيحائي للرمز يقول الشاعر سعيد الصقلاوي في قصيدته أيها المشدود في عروقنا[20] :
أيها المشدود في عروقنا
أشعلت في دمائنا التمرد
ونسجت من نهارنا قصائد
نثرت في ظلامنا التوقد
إن هذه الأسطر الشعرية التي طوعها الشاعر للتعبير عن جمالية مخصوصة يمكن أن تحمل في ثناياها معاني القبح من عمى وترمل ورعب وموت لكنها تثير مشاعر المتقبل من جهة الصورة التي كان محورها الرمز الأسطوري ومن جهة الإيقاع السمعي والمرئي إذ تتشكل على فضاء الورقة تشكلا متميزا مخالفا لهندسة القصيدة التقليدية التي تقوم على ثنائية الصدر والعجز. فكأن الشاعر يريد مفاجأة المتقبل من جهة البصر أيضا لا من جهة السمع فقط . فالقارئء الذي تعود على هندسة معينة للقصيدة العمودية تثيره هذه الطريقة المستحدثة في تشكيل القصيدة فيتظافر الإيقاع مع الصورة والرمز لتحقيق جمالية القصيدة وإن كانت لا تحمل فكرة جميلة بحسب المفهوم الإغريقي للجمال . إن هيمنة البعد الإيحائي في مدونة سعيد الصقلاوي يستدعي من المتقبل قراءة خاصة لشعر . فالنص ينغلق على ذاته محققا جماليته الخاصة مستقلا عن الحدث التاريخي وعن الحياة السياسية للشاعر لان النّصّ الشّعريّ ” وإن كان يحمل قضايا شتى فانه في أغلبه أعمق من أن يصبح مجرد مرآة عاكسة لصفات سياسية معينة . إن قراءة الشعر بمنطق غير شعري تبخس القصيدة حقها في تعميق التجربة البشرية ” [21] ويمكن أن نستجلي البعد الإيحائي من خلال نموذج شعري أخذناه من قصيدة ” إلى عبد الرحمان الداخل [22]، محاصرون لسعيد الصقلاوي.
يتخذ الخطاب الشعري في الأسطر السابقة بعده الإيحائي من خلال قيامه على الرمز الذي يقيم مسافة بين القصيدة وبين مرجعها الواقعي وإطارها السياسي فيبعدها عن الخطاب المباشر ويحقق لها شعريتها فتلتبس صورة الشاعر بالرمز متمثلا في الأرض والقائد السياسي واسهامهما في الموت والحياة إنها الّأرض الحلم والزعيم السياسي الباعث للحياة ومظاهر الانبعاث في مختلف القصائد ظاهرة وبينة تحيل في مجملها على معاني تتصل بالإنسان وإعادة الاعتبار إليه .يقول[23]
إلى عبد الرحمان الداخل، محاصرون
خبأت في نفسي هواك أزمنا
يا رحلا والشوق في أحداقنا
لما رحلت أبحرت أحلامنا
نحوالغروب لا هدا ولا سنا
ميعادنا كانت تباشير المنى
الخطاب الرمزي الإيحالي لدى الصقلاوي هوبمثابة الرؤيا الشعرية، إذ يستعمل على هيآت مختلفة بحسب تنوع التجربة الشعرية التي يمر بها الشاعر لحظة ولادة القصيدة . إنّ البعد الإيحائي للرمز في دواوين سعيد الصقلاوي لا ينفي تعامل الشاعر مع الرمز باعتباره مقولة سياسية مما أدى بالرمز إلى الإنزياح عن الحقل الجمالي إلى الحقل السياسي. فكثيرا ما وجد في الرمز ما يعبر عن أفكاره السياسية والايديولوجية، بل أنه كثيرا ما مزج بين البعد الفني والمقصد المضموني بين الإيحاء الشعري والدلالة السياسية والايديولوجية يقول الدكتور منصور قيسومة ” ولقد فصل النقاد بين الوظيفتين الشعريتين الإجتماعية والسياسية من جهة والفنية والجمالية من جهة أخرى فصلا واضحا في القديم ثم امتزجت الوظيفتان امتزاجا كليا في الحديث دون التخلي عن أي وظيفة منهما ” [24] فما هي مظاهر الترابط بين البعد الفني والبعد المضموني في كتابات سعيد الصقلاوي الشعرية ؟.
جدلية البعد الفني والبعد المضموني :
لقد طرح الشّاعر سعيد الصّقلاوي أنْواعا عديدة من الرّموز الفنية التي تمكنت من تكثيف التّجربة الجماليّة في علاقتها بالسّياق الإجتماعي والسّياسيّ الذي تتنامى فيه، بحيث جاءت تلك الرّموز بوصفها معادلاً فنيا موضوعيّا للهواجس الاجتماعيّة والسّياسية التي عايشها سعيد الصّقلاوي ولنبرز هذا الموقف سنُحاول الاشتغال على هذا النّموذج المُقتطف من قصيدة عنوانها غرناطة[25]:
غرناطة
حبيبتي
هناك في غرناطة في موسم النماء
حيث الزهزر الفاتنات تسكب الأشداء
والنّخل كالقيان في محافل الفناء
والأرض كالعروس في الغلائل الخضراء .
لذلك انزاح الرّمز الطبيعي (النخل والأرض والغلال) عن دلالته الأصلية وارتبط بمعانى الجمال التي يضفيها على الوطن، ويخرجه في صورة بهية، ويعبر – بالتالي – عن الهاجس السياسيّ والإجتماعيّ بل والإيديولوجيّ. فيترابط الشكل الشّعريّ مع المضمون الدلاليّ للقول الشعريّ في مختلف قصائد الصّقلاوي. ولعلّ هذا العدول بالرّمز الطبيعيّ جاء ليكشف عن مختلف التّجارب التي أدركها الشّاعر وتعرّف على خصائصها ومكوّناتها السياسيّة والإيديولوجيّة .ومن هنا ندرك أنّ الصّقلاوي كثيرا ما ينزع إلى الوعي بأهمية الارتباط الوثيق بين البعد الفني الشكلي الجمالي في شعره وبين البعد المضموني الاجتماعيّ السياسيّ . فالشّعر يرتبط ارتباطا وثيقا بغايات اجتماعيّة وسياسيّة دون التّخلي عن الغايات الجماليّة والمأساويّة التي تنتاب المجتمع من حين لآخر.
الدلالة في الاتجاه الرمزيّ وإشكالية التّعقيد والغموض :
لقد ذهب القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه إلى القول بأنه ” ما من شعر إلا والغموض قرين له “[26] فكأن الغموض مطلب الشاعر الذي من خلاله تتحقق للنص شعريته. ومن هنا يمكن القول بأن الغموض في شعر سعيد الصقلاوي لم يكن مجرد قناع يتخفّى ورائه للتعبير للتعبير عن موقفه السياسية بل كان اختيارا فنيا واعيا لأن الغموض يحجب الدلالة بحجاب شفيف يسمح بتعدد القراءة إثراًء للنص وإحياءً له . فالنص بالقراءة وبها يحيا ويتجدد فالقصيدة العربية الحديثة وقد اتخذت الرمز أداة فنية في تأدية الدلالة أصبحت على حد عبارة محمد لطفي اليوسفي ” متسربلة بالغموض يصعب النفاذ إلى عالمها دون جهد بل إنها قد تبدوفي نظر القارئ المتعجل طلسما لا يمكن أن يفك رموزه إلا واضعه ” [27]
ومن ثمة فإنّ الغموض أصبح صفة الشعر الحديث وقد رأى عزالدين إسماعيل ” أنه مقوم من مقومات وجوده “[28] وقادت النقد إشكالية الغموض هذه إلى تحديد طبيعته فانصب الاهتمام أساسا على اللغة الشعرية الجديدة باغتبارها لغة انزياح وعدول فكلمة مطر مثلا في الديوان سعيد الصقلاوي تحمل المعنى ونقيضه فهي تدل على الجدب والموت من ناحية وتوحي بالخصب والحياة من ناحية ثانية وهذا الغموض يتجلى في شعر الصّقلاوي أيضا من خلال الصورة الرمزية وللاستدلال على هذا الأمر أخذنا نموذجا من ديوانه الموسوم بنشيد الماء يقول في قصيدة بالنور أفرش دربا.[29]
صار اقترابك بعيدا
وهجرة لا تعد
إذا كان قلبك خلوا
ففي فؤادي وجد
عندي المحبة وصل
والحب عندك صدّ
إنّ المتأمّل في الصورة الواردة في هذه الأسطر الشعرية السابقة تصيبه الدهشة والحيرة بسبب تواتر الأضداد وتناسلها: اقتراب، هجرة، وصل، وجد، صد، فهناك انزياح بوظيفة الاختيارات المعجمية وتحولت عند الصقلاوي إلى ما يشبه الحيرة عند سعيد الصقلاوي أو هي وسيلة للإلغاز والغموض يحجب المعنى مما يجعل من النص نصا ملغزا يتطلب قارئا مخصوصا لا يكتفي بالمعنى ولا بمعنى المعنى وإنما عليه أن يظفر بمعنى معنى المعني على حد عبارة تودوروف أي المعنى الثالث فنحن لا نستطيع أن نفهم الصورة الواردة في الأسطر السابقة إلا إذا أدركنا أن لغة الصقلاوي لغة إيحائية تقوم على التلميح لا على التصريح وتدعونا إلى التأويل وممارسة لذة القراءة، فإذا حاولنا أن نجد علاقة بين المشبه والمشبهات بها لا بد أولا أن نقف عند البعد الإيحائي للمشبه قبل أن نقرنه بالمشبهات بها فقد
هكذا تتحول الأسطورة التي ننشئها الرموز المتواترة من خلال فك شفراتها وألغازها إلى احتفال بالشعر الملتزم والثورة المنشودة التي يرغب الشاعر في أن تكون سريعة حتى تطهّر الوطن من الفاسدين وقوى الردة وتبعث في شعبه حياة جديدة وهذا المنهج في رسم الصور وصياغتها يبدوشديد التوتر في شعر سعيد الصقلاوي إذ يعمد إلى المفارقة بين طبيعة المشبه وطبيعة المشبه به فلا يدرك القارئ دلالة هذه الصور إلا حدسا وتخمينا فتكون قراءته قراءة ممكنة من بين قراءات أخرى متعددة فهي قراءة لا تستوفي كل دلالات القصيدة بل تتركها نصا مفتوحا على تأويلات أخرى ممكنة من هنا ندرك أن الصقلاوي لم ينظر إلى الغموض باعتباره قناعا يتخفى وراءه خوفا من القمع السياسي بل هورؤيته فنية به تتحقق شعريّة القصيدة. فتتجاوز الخطاب التعبيري المباشر وتحجب المعنى بحجاب شفيف يسمح بتعدد القراءات. لقد جعل سعيد الصقلاوي الغموض مقوما من مقومات الشعر لأنه يقرّب الشعر من طبيعته الأصلية فالشعر يتصل اتصالا وثيقا بالخيال والمخيال الذي من شأنه أن يكون غامضا أومولدا للغموض.
الخاتمة:
لقد تبين من خلال بحثنا في الرمز والدلالة في كتابات سعيد الصقلاوي الشعرية الحضور المكثف للتعبير الرمزي فيها، بل لعل حضور الرمز هوالذي أكسب قصائدها سمة الشعرية وضمن لها الشهرة والانتشار والرمز في هذه الدواوين الشعرية بقدر ما عبر عن الرؤية الفنية للصقلاوي الذي رأى أن الواقع المادي الذي نعيش فيه قد كادت تغيب فيه القيم الإنسانية فهوواقع لا شعري مما دفعه إلى اللجوء إلى الرمز وعلى وجه الخصوص الرمز الأسطوري باعتباره منبعا شعريا لا ينضب. فقد كان حاملاً لمقاصد ودلالات جمعت بين الذاتي ( الغربة / الموت / السجن / والموضوعي ( التجربة السياسية والاجتماعية والصناعية والمهنية لسعيد الصقلاوي ) والإنساني ( التشيئ والاغتراب والضياع ).
وقد كانت الرمزية موقفاً جماليّأ في شعر سعيد الصّقلاوي أوّلا بما يكتسبه الرّمز من بعد ايحائيّ إذ يقوم على التلميح لا على التصريح فلم تعد جمالية القصيدة عند سعيد الصقلاوي متولدة عن الإنسجام بين جمال الشكل وجمال الفكرة إذ أن الفكرة عنده جميلة بالمعنى الإغريقي للجمال بل أصبحت الفكرة في عدة قصائد مرتبطة بمعاني الموت والعهر والقهر الاجتماعي فتحول الحديث عن القبح جمالا حتى أصبحنا نتحدث في شعر سعيد الصقلاوي عن جمالية القبح لكن البعد الإيحائي لم يفرغ قصيدة الصقلاوي من بعدها المضموني فالشعر عند الصقلاوي لا تتحقق جمالياته إلا إذا كان شعرا ملتزما فيتعالق الشكل مع المضمون تحقيقا للوحدة العضوية للقصيدة .
وقد أكسب البعد الرمزي قصائد الصقلاوي طابع الغموض والتعقد هذا الطابع الذي يساهم في كثرة الدلالات فتنفتح القصيدة على قراءات متعددة فلم نعد نرضى في شعر سعيد الصقلاوي بالوقوف عند المعنى ولا عند معنى المعنى بل يجب علينا الوصول إلى معنى معنى المعنى أو ما اعتبره معنى ثالثا فتكون القصيدة مع سعيد الصقلاوي نصا مفتوحا يستدعي قراءة منتجة .إنه التحول من جمالية النشأة إلى جمالية التلقي ومن لذة النص إلى لذة إلى لذة القراءة.
إن نصّ سعيد الصقلاوي بإمكانه أن يؤدي وظيفة أو وظائف مقصدية وتأويلية في عالم متغير ويحتفظ بقيمة جماليّة في الوقت نفسه، حتى لكأنّ القراءة التقليديّة التي تقوم على ربط النص الشعري بمؤلفه وبإطاره الاجتماعي والسياسي والجغرافي (مدينة صور) الذي نشأ فيها تظل عاجزة عن سبر كل أغواره وكذلك القراءة الشكلانية التي تجعل منه مجرد نسيج لغوي منغلق على ذاته فهل من سبيل إلى إنشاء نظرية في النقد تقطع مع النقد النفسي الإجتماعي والنقد الشكلاني والبنيوي تتعامل مع النص الأدبي بلاغيّا دون عزله عن القضايا الأكثر إلحاحا للحياة اليومية التي نشأ فيها .
المراجع:
[1] _ الدكتور، بلقاسم مارس، أستاذ بالجامعة التونسية .من مؤلفاته، خطاب الصمت في الرواية المصرية، فن القصة القصيرة عند محمد البساطي، الرواية والمرجع، الرواية البوليسية التوظيف والانزياح ومقالات نقدية في مجلات مختلفة .
[2] _ تباينت التعريفات المتعلقة بالرمز. ومن بين هذه التعريفات نجد :الكلمات رموز لمعاني الأشياء، أي رموز لمفهوم الأشياء الحسية أولا ثم التجريدية ثانيا، وإن الكلمات المنطوقة رموز لحالات النفس والكلمات المكتوبة رموز للكلمات المنطوقة. أما ريتشاردز وأوجدن فيُفرقان بين الاستعمال الرمزي والاستعمال الانفعالي للغة، إذ يعني الاستعمال الرمزي تسجيل للإشارات وتوصيلها إلى الآخر،أما الاستعمال الانفعالي فيقصد به إستعمال الكلمات بقصد التعبير عن المشاعر والأحاسيس، ويمكن القول: إنّ الذين نظروا إلي الرمز من حيث المستوي اللغوي لم يخرجوا عن القيمة الإشارية فيه ” يُنظر ديريكي، هيفرومحمد علي، جماليات الرمز الصوفي، دراسة التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق- سوريا ط 1، سنة 2009، ص 22.
وجاء في لسان العرب البن منظور: “الرمز تصويت خفي باللسان كالهمس، ويكون تحريك الشفتين بكلام غير مفهوم باللفظ من غير إبانة بصوت، والرمز إشارة وإيماء بالعينين والحاجبين، والرمز كل ما أشرت إليه باليد أو بعين، ورمز يرمز رمزا، وجاء في معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة أنّ الرمز”علامة تحيل على موضوع وتسجله طبقا لقانون ما. والرمز وسيط تجريدي للإشارة إلى عالم الأشياء ” يُنظر نفس المصدر ص .٢٧ وقد ورد لفظ رمز في القرآن الكريم في معرض الحديث عن قصة زكرياء عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى في سورة آل عمران الآية 41.: قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ” وجاء في قاموس أكسفورد :” أنّ الرمز عبارة عن شيء يقوم مقام شيء آخر،أو يدل عليه لا بالمماثلة،وإنما للإيحاء السريع أو بالعلاقة العرضية من ذلك الحرف المكتوب، والرسالة البريدية، والشكل أو العلامة المتفق عليهما”، يُنظر، نصر، عاطف جودة، الرمز الشعري عند الصوفية، ط1، 1978، ص 23.
[3]_ سعيد بن محمد بن سالم بن راشد الصقلاوي شاعر عربي من سلطنة عمان ولد سنة 1956 حاصل على بكالوريوس في تخطيط المدن والأقاليم من جامعة الأزهر 79/1980, والماجستير في التخطيط السكاني من جامعة ليفربول بإنكلترا 1992 . يعمل مديرًا لشركة بيسان للاستشارات الهندسية. عضوالجمعية الأمريكية للتخطيط من أبرز دواوينه الشعرية نذكر : ترنيمة الأمل 1975-أنت لي قدر 1985 – صحوة القمر 1995. مؤلفاته: شعراء عمانيون 1992 .
[4] _ نشير في هذه الدراسة إلى نماذج في الكتابة الشعرية من خلال المدونة الشعرية لسعيد الصقلاوي وقد تخيرنا الدواوين التالية :
_ ما تبقى من صحف الوجد، مطابع النهضة مسقط، سلطنة عمان الطبعة الأولى2019
ديوان أجنحة النهار : مطابع النهضة مسقط، سلطنة عمان الطبعة الأولى 1999.
_ ديوان نشيد الماء مطابع النهضة، مسقط الطبعة الأولى 2004م.
_ ما تبقى من صحف الوجد، مطابع النهضة مسقط، سلطنة عمان الطبعة الأولى2019
[5] _ ابراهيم الحاوي، حركة النقد الحديث والمعاصر في الشعر العربي، مؤسسة الرسالة بيروت، ط4، 1984، ص159 .
[6] _ ديريكي، هيفرومحمد علي، جماليات الرمز الصوفي، دراسة التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق- سوريا ط 1، سنة 2009، ص 22.
[7] _ ابن منظور، لسان العرب، مادة رمز .
[8] _ سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، الناشر: دار الكتاب اللبناني، بيروت، سوشبريس، الدار البيضاء، مادة رمز .
[9] _ قرآن، سورة آل عمران الآية 41.
[10] _ يُنظر، نصر عاطف جودة،الرمز الشعري عند الصوفية،ط1، 1978، ص 23.
[11] – أنس داود : الأسطورة في الشعر العربي الحديث منشورات المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع ( د، ت) ص 19.
[16] – عبد الواحد لؤلؤة، النفخ في الرماد دار الرشيد، بغداد 1982، ص 178.
[18] – منصور قيسومة : دلائل الإبداع والرؤيا في شعر السياب ص 34.
[21] – محمد الخبو: مدخل إلى الشعر العربي الحديث ص 152.
[22] – أبوالمطرَّف عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي القرشي (113 – 172 هـ / 731 – 788م) المعروف بلقب صقر قريش وعبد الرحمن الداخل، والمعروف أيضًا في المصادر الأجنبية بلقب عبد الرحمن الأول. أسس عبد الرحمن الدولة الأموية في الأندلس عام 138 هـ، بعد أن فرّ من الشّام إلى الأندلس في رحلة طويلة استمرت ست سنوات، إثر سقوط الدولة الأموية في دمشق عام 132 هـ، وتتبع العباسيين لأمراء بني أمية وتقتيلهم. دخل الأندلس وهي تتأجج بالنزاعات القبلية والتمردات على الولاة حيث قضى عبد الرحمن في فترة حكمه، التي استمرت 33 عامًا، في إخماد الثورات المتكررة على حكمه في شتى أرجاء الأندلس، تاركًا لخلفائه إمارة استمرت لنحوثلاثة قرون. https://ar.wikipedia.org/wiki
[24] – – منصور قيسومة : دلائل الإبداع والرؤيا في شعر السياب، تونس،دار صامد للنشر، د،ت، ص 80.
[26] – القاضي الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص 45.
[27] – محمد لطفي اليوسفي في بنية الشعر العربي المعاصر، سيراس للنشر تونس، 1985، ص 186.
[28] – عزالدين اسماعيل : الشعر العربي المعاصر، دار الفكر، ط3، 1973، ص 186.
[29] – نشيد الماء، قصيدة بالنور أفرش دربا، ص 19.