قراءة نقدية في ” حارة العور ” لـ غالية آل سعيد .. حكاية الغربة في الوطن

وسام العاني | شاعر وناقد – العراق

لم يكن عبثاً اختيار الروائية العمانية د. غالية آل سعيد لشخصية غير عمانية لتكون الراوي العليم لوقائع روايتها الجديدة “حارة العور”، والتي نجحت بشكل لافت في لبس شخصيتها والتحدث بضميرها بتفاصيل دقيقة، يخيل للقارئ أحياناً أن كاتبة الرواية شخصية وافدة (أجنبية) لا محالة.

ولا شك أن الكاتبة انتبهت مبكراً لهذا المأزق، لأنها لم تشأ أن تقدم سردها العميق لحالة المقارنة للمجتمع العماني قبل وبعد النهضة، بلسان المواطن العماني، وإلا تحولت حينها الرواية إلى أشبه بالتقرير الإخباري أو التوثيقي. ونجحت في رسم شخصية البطلة، الوافدة الأجنبية، بأبعادها الفنية والنفسية، لتنصبها راوياً عليماً شد معه أنفاس القارئ حتى أخر سطر.

ومنذ روايتها “سأم الانتظار” الصادرة عن دار رياض الريس للكتب والنشر بجزئيها الأول والثاني، تحاول الكاتبة تسليط الضوء بعمق على الدواخل النفسية لشخصياتها، لتتخذ منها بؤرة مركزية تتشظى منها مسارات السرد. ومثلما حدث في “سأم الانتظار” من تأكيد على هشاشة العلاقة المستحدثة بين الانسان العربي والآخر، تلك العلاقة التي تناضل من أجل كسر حواجز الثقافات والطباع المختلفة بين الشعوب، لكنها تصطدم أخيراً بترسبات فكرية وسلوكية عميقة حافرة في الوجدان يصعب معها التغلب على الأثر النفسي الذي يغور عميقاً في الذات الإنسانية، نرى في “حارة العور” تشخيصاً عميقاً وجريئاً لعلاقة الانسان العربي مع أخيه العربي في الأوطان التي يفترض أنها، بسبب ما تشترك به من مقومات اللغة والدين، مستعدة لاستيعاب العنصر العربي بغض النظر عن لون جوازه ورقم وثيقته. وتستمر الكاتبة في هذه المكاشفة إلى درجة عالية من الوضوح في المعنى، رغم المواربة الظاهرية في المبنى، ليكتشف القارئ، مواطناً كان أم أجنبياً، أنه يقرأ سيرته في هذه الرواية من خلال حكاية الغربة في الوطن.

تبدأ الكاتبة سردها المتصاعد بشكل عمودي، من لحظة شعور بطلة الرواية المعلمة المصرية (غنوة) بالفرح الغامر لحصولها على فرصة عمل في الخليج، في سلطنة عمان تحديداً، وقدومها رفقة مجموعة من المعلمين والمعلمات إلى السلطنة للعمل في مجال التعليم. ولأن الكاتبة نوهت لنا مسبقاً عن شخصية (غنوة) المولعة باستكشاف الآخر من خلال فصول علاقتها بصديقتها (هدى) التي تنتمي إلى مذهب آخر، لم يكن غريباً أن نراها توغل عميقاً مرة أخرى في رحلة استكشافها للمجتمع العماني منذ لحظة وصولها إلى (مسقط) بادئة بأقربهم من العاملين في مجمع المعلمات السكني. واستثمرت الكاتبة بشكل ذكي فصول السرد المتعلقة بعلاقات البطلة بالشخصيات العمانية وتوغلها أكثر في تفاصيل المجتمع، لتبرز لنا الكثير من إيجابيات هذا المجتمع الذي ما زال يتمسك بتقاليد وموروثات متجذرة في الوجدان العماني الجمعي، بالرغم من المدنية السريعة والتطور الكبير الذي طرأ على حياة العمانيين في فترة زمنية قصيرة. كما لم تتردد بسرد الكثير من المقارنات والمقاربات بين مرحلتين مهمتين من تاريخ عمان المعاصر، هما ما قبل وبعد النهضة العمانية الحديثة، لتقدم لنا نقداً سردياً هادئاً ومتزناً للسلبيات التي ظهرت على سطح المجتمع بعد انفتاحه بشكل واسع على العالم، وكأنها تفتح جروحاً ما زالت طرية، لكن بمشرط الكاتب الواعي، محاولة إبراز غربة المواطن الفقير ذي الدخل المحدود في وطن يحلم الكثير من فقراء الدول المجاورة في الوصول إليه والحصول على فرصة عمل ثمينة في ظل ظهور البترول وتطور صناعاته، لترسم لنا في النهاية، صورة عن تهاوي أحلام المواطن والأجنبي على حد سواء.

وتستمر الكاتبة د. غالية آل سعيد بسردها المتصاعد حول متانة العلاقة المتشكلة حديثاً بين البطلة (غنوة) وأصدقائها العمانيين من ذوي الدخل المحدود، كما قدمت لنا صوراً جميلة عن عمق ودفء هذه العلاقة الإنسانية التي تشكلت بروابط وثيقة من المحبة العابرة للجنسيات والهويات، لا نلبث بعدها أن نصدم بعلاقة جديدة بين البطلة وبين أحد العمانيين الأغنياء ذوي النفوذ، تنكشف من خلالها أسرار المجتمع العماني المخملي وتفاصيل تحكّمه برؤوس الأموال من خلال شبكة علاقات قبلية ومجتمعية معقدة.

لم تكن هذه العلاقة السريعة، المبنية على إعجاب رجل الأعمال (غالب) أو (الرجل الغريب) بالبطلة وبقدراتها ومهاراتها، والتي تطورت إلى علاقة حب تقارب على الزواج، لم تكن غريبة في سياقات سوق العمل الخليجي، بل هي نموذج واقعي لشكل العلاقات النفعية التي تحكم السوق. ولكنها كانت غريبة فعلاً في سرعة تهاويها بعد أن اكتشف (غالب) مذكرات (غنوة) عن أيامها في سلطنة عمان والتي كتبت فيها الكثير عن تفاصيل معرفتها به منذ اللحظة الأولى، مما اعتبره خيانة ومكيدة تسعى لتدبيرها هذه (المرأة الأجنبية) لتوقع به الأذى وتجبره من خلالها على قبول ابتزازها، في صورة سوريالية مريرة عن واقع صعب تصطدم به أحلام البسطاء وتتهاوى أمانيهم الضالة على عتباته القاسية.

ولم يكن الفصل الأخير الذي يروي لنا عن استقرار (غنوة) المعلمة العربية في بلد أجنبي بعد خروجها من سلطنة عمان إثر انهيار علاقتها بغالب، وختم جواز سفرها بمنع الدخول إلى السلطنة، إلا صورة مريرة أخرى عن تشظي الأحلام وسفرها في عوالم الغربة اللامتناهية، لتكشف لنا الكاتبة بقدر من الجرأة عن حقيقة مريرة في نهاية الرواية، أن (حارة العور) ليست البقعة التي تقع في (مسقط) بأبعادها الجغرافية، بل الوطن العربي الأكبر الذي يسحق كفاءاته البشرية تحت أقدام المتنفذين من أصحاب رؤوس الأموال الذين ينشغلون ببناء (ثرواتهم) على حساب بناء أوطانهم.

تؤكد الكاتبة د. غالية آل سعيد في (حارة العور) على امتداد العلاقات الإنسانية بين البسطاء من خلال تشاركهم الأفراح والأتراح بغض النظر عن الجنسية، وقدمت لنا نموذجا رائعاً عن حالة التكافل فيما بينهم عندما جعلت البطلة (الأجنبية) تمد يد العون وتتبرع براتبها لإطفاء ديون متراكمة للبنك على (مواطن) فقير هو (مطلوب) ابن صديقتها العمانية (سليمة) مقابل الحفاوة الكبيرة التي استقبلها بها أصدقاؤها العمانيون البسطاء بكرم بالغ، لدرجة إدخالها بيوتهم ودعوتها إلى مشاركتهم حياتهم البسيطة بكل عفويتها وبساطتها. هنا تقدم الكاتبة رؤيتها من خلال الرواية، أن العلاقات الإنسانية بين البسطاء لا تحكمها عناصر النوع والجنسية والهوية بقدر ما تتشارك بهموم العيش والسعي إلى الاستقرار المادي في أوطان تعودت مجتمعاتها على مواصلة الحياة بطبقتين من البشر لا تكاد الواحدة منهما تعلم ما يحدث للأخرى، وكأن لكل طبقة عين واحدة وتلك هي حارة العُور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى