صبرة محمد العارضة

خالد جمعة | فلسطين

نمرُّ ـ نحن المترفون ـ على بائعي الفاكهة في الشوارع، الشوارع بالذات وليس المحلات أو الأسواق، وربما لا نلتفت إليها، وإذا التفتنا، نبدأ بالأسئلة للبائع، من أي قرية هذه الفاكهة؟ هل هي مرشوشة أم “أورغانيك” بلا زغرة، ثم نبدأ في مفاصلته ليخفض لنا السعر، لأننا نفترض أنه دائما يضع سعراً أعلى، ونمضي حاملين الفاكهة، ونحمّل البائع “جميلة” أننا اشترينا منه.

من اليوم فصاعداً، لن أفاصل بائع “الصبر” في الشارع مهما طلب، سأعطيه ما يطلبه دون أن أنبس بحرف، حتى لو ضحك على سذاجتي، فهناك من دفع ما لا يقدر بمال، مقابل أن يأكل حبة صبر واحدة، لم يذقها منذ اثنين وعشرين عاماً.

لا أدري إذا شعر محمد العارضة بالأشواك تنخز كفه فيما يقطع حبة الصبر عن أمها، ولا أستطيع أن أصف إغماضة عينيه وهو يقضم أول قضمة منها بعد أكثر من عقدين من الاشتهاء، ربما دارت حياته أمامه مثل فيلم سينمائي سريع وهو يقرش بتلذذ مذهل الحبات القاسية داخل الصبرة، ويعيده الطعم إلى يد أمه التي كانت تقشر له الصبر بخبرة “أهل البلاد”، ومن المؤكد أنه فكر “كيف لم أكن أعرف أن للصبر هذه القيمة من قبل”؟

قال لي كاتب كبير ذات مرة: أكتب الواقع بحساسية، يسقط الرمز نفسه من تلقاء نفسه، وتعالوا نطبق مقولته على ما فعله محمد العارضة: صبارة، إحدى رموز فلسطين الأبدية، مرج ابن عامر، أخصب أراضي فلسطين على الإطلاق، يد مناضل عفية وصلبة كالصخر “تخدش من يلامسها” على حد تعبير درويش، واحتلال يجنّد الأخضر واليابس ليعثر عليه، أي رمز يمكن أن يعبر عن الحالة الفلسطينية أكثر من هذا المشهد؟ رجل يختطف حبة صبر رغم الطائرات والجنود والكلاب والتكنولوجيا والمثيولوجيا والإذاعات… هذا هو الحال الفلسطيني بالضبط، قليل من السكر العذب في حبة صبر، مع كثير من الشوك والأعداء.

لدي يقين أن محمد سوف يتذكر حبة الصبر هذه إلى الأبد، سواء ظل في الأسر أم تحرر منه، ستبقى الصبرة هي تجربته الأثيرة، التي سيحكي عنها، وربما يكتب رواية كاملة حولها، إنها ليست صبرة عادية من ضمن الصبر المكوم في الطرقات، والذي نراه كل يوم، إنها صبرة فلسطين، صبرة الانتصار، صبرة انتزاع الحرية، صبرة كل شيء، وباختصار: إنها صبرة محمد العارضة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى