حفرة الأمل ونفق الحرية
المحامي جواد بولس| فلسطين
ستسجّل عملية هروب الأسرى الستة الأمنييين الفلسطينيين من سجن “جلبوع” الاسرائيلي كاحدى المحطات الفارقة في تاريخ مقاومة الفلسطينين للاحتلال الاسرائيلي؛ وقد تصبح، اذا ما وظّفت فلسطينيًا بالشكل الوطني الصحيح ، نقطة تحوّل لافتة داخل صفوف الحركة الأسيرة الفلسطينية التي يصل عدد أفرادها، في هذه الايام، داخل سجون الاحتلال، الى ما يقارب الاربعة آلاف وستمائة أسير حرية.
وقبل الغوص فيما كشفته هذه العملية المميزة على جبهات عديدة، أو ما ستفضي اليه من تبعات ونتائج، علينا أن نعترف، بدون تأتأة، أن نجاح الاسرى الستة بالهروب من احد السجون الاسرائيلية المنيعة وشديدة الحراسة، يعد نصرًا ساحقًا لارادة الاسير الفلسطيني في مواجهته الدائمة والقاسية مع عنجهية السجان الاسرائيلي؛ وتعد كذلك عاملًا ايجابيًا مؤثرًا على نفوس عائلات الاسرى وعلى سائر فئات الشعب، خاصة في زمن تسود بينهم مشاعر الاحباط، وتكثر مشاهد الانتكاسات العربية على طول الوطن العربي وعرضه. وتعتبر، من جهة ثانية، هزيمة ماحقة للمجهودات الجبارة التي وظّفتها، منذ سنوات طويلة، قوى الأمن الاسرائيلية، وفي طليعتها مصلحة سجون الاحتلال ومستشاروها، الذين استهدفوا نسف مكانة الحركة الأسيرة التاريخية وكسرها كحربة ثابتة في صدر الاحتلال، وايصالها الى حالة يأس وخنوع، والى قناعة بأن الاحتلال هو الأبقى والأدوم، وبأن ظلام سجونه سيكون قدَر كل من لا يقبل بذلك ويقاوم. لقد سجّلت، في السنوات الأخيرة، المؤسسة الأمنية الاسرائيلية نقاطًا هامة لصالحها على هذه الجبهة، ونجحت باختراق صفوف الحركة الاسيرة وزعزعة تلاحمها، حتى بزغت نقطة ضوء أيلول في نفق الحرية.
وأنا اذ أكتب بهذه اللغة القاطعة والمطلقة أريد أن أؤكد، من خلال موقعي ومرافقتي لهذه المواجهة منذ أربعين عامًا، أمام جميع من شكّك في نجاعة العملية، أو من لوّم على منفذيها بسبب افتقار تخطيطهم لخطة “ما بعد نهاية النفق”، خاصة بعد القاء القبض على أربعة من بين الاسرى المتحررين، بأن اسرائيل، على النقيض من جميعهم، تعرف جيّدًا حجم الخسائر الاستراتيجية التي تكبدتها داخل سجونها، بدايةً، وفي عموم أرجاء الاراضي الفلسطينية المحتلة؛ ولعلنا نرى بعنف ردة فعل عناصر مصلحة السجون بحق الاسرى، وباعتداءت رجالات أمنها الوحشية على الاسرى الأربعة، ساعة اعتقالهم، والتسبب، على سبيل المثال، بكسور في حنك واضلاع الاسير زكريا زبيدي، ما يشي بشعورهم بفداحة هزيمتهم، وليس فقط تعبيرًا عن غلّهم العنصري المستأصل في نفوسهم المريضة.
لقد انتشرت، منذ اللحظات الأولى لافتضاح عملية الهروب، عشرات الشائعات التي تبخّر معظمها وسوف ينسى كنثار هزيل؛ ولكن بعض هذه الشائعات كان مزعجًا وسيبقى طنين أصدائه رائجًا في فضاءاتنا؛ وأقصد تلك التي انشغلت بمواقف المواطنين العرب المفترضة تجاه عملية الهروب نفسها، أو بمواقفهم ازاء الأسرى المتحررين وواجبات هؤلاء المواطنين في عدد من الحالات الوهمية أو السيناريوهات المتخيّلة. ليس من الصعب أن نخمّن من يقف وراء شائعة مغرضة معينة ومن هو المعني بها أو بغيرها؛ وعلى الرغم من انني لا اتعاطى، على العموم، مع الشائعات، إلا انني اعترف ان تطرق بعضها لما قام به المواطنون العرب، في بعض محطات عملية هروب الاسرى، وما رافقها من اخبار وشائعات وملاسنات، حول مساعدة الهاربين أو “خيانتهم” ، قد مسّ بعصب مسألة حقيقية حسّاسة وخطيرة، لا يمكن لقياداتنا ومؤسساتنا الريادية والنخبوية الاستمرار في تغاضيها بالمطلق وإلى الأبد.
فمن منّا لم يسأل نفسه، بعيدًا عن الشائعات، أو ربما بسببها، أو من لم يُسأل من قبل صديقه أو ولده، ماذا كان سيفعل لو طرق الأسرى الستة، أو بعضهم، باب بيته وطلبوا مساعدته أو ايواءهم حتى مرور العاصفة؟
لقد كان كل ما قرأناه على لسان قادة الاحزاب والمؤسسات العربية عبارة عن بيانات عامة، تعاطف ناشروها مع أسرى الحرية الفلسطينية، وأكد مطلقوها على حقوق هؤلاء الأسرى، وشجبوا قمع الاحتلال وسجونه لهم؛ وكانت، من الجهة الثانية، تعبيرًا عن رفضهم لجميع محاولات التهجم المزايد على المواطنين العرب داخل اسرائيل وخاصة على اهل الناصرة؛ لكنّهم لم يتطرقوا الى القضية الاساسية التي يمكن اعتبارها، بدون ادنى شك، واحدة من المعضلات الصعبة التي تستدعي مواجهتها وتفكيكها كما يتوقع من قيادة يجب أن تقف أمام شعبها وتقوده الى دروب الكرامة والسلامة على حد سواء.
لقد انقذتنا، في الواقع، رؤية الاسرى الصادقة، انفسهم، ونباهتهم اللافتة وحسهم الوطني المسؤول؛ فهم لم يكتفوا بنقل تحيّاتهم الى كل من ساندهم وتعاطف معهم، بل أوضحوا، كما سمعنا، انهم لم يحاولوا، رغم قساوة ما واجهوه ومعاناتهم، التواصل مع اخوانهم العرب داخل اسرائيل، وذلك “ليس خوفًا منهم بل خوفًا عليهم”؛ فهم لم يريدوا، كما قرأنا، زج اخوانهم في مواقف ملتبسة أو محرجة قد تضعهم تحت طائلة القانون الاسرائيلي؛ فهل ستسلم جرّتنا في كل مرّة؟
سوف يستمر تفاعل ذبذبات هذه “الخبطة” داخل دهاليز المؤسسة الاسرائيلية وذلك ليس فقط من اجل استخلاص المسؤولين في مصلحة سجون الاحتلال للنتائج، ووقوفهم على الثغرات التقنية والأمنية التي ادت الى نجاح عملية هروب الاسرى ومعاقبة المسؤولين عنها، بل، وبالاساس، من اجل تقييم فداحة الخسائر التي تكبدوها، واين وكم تراجعت منجزاتهم التي احرزوها داخل صفوف فصائل الحركة الاسيرة وخارجها.
لقد كان رد فعل السلطات الاسرائيلية على عملية الهروب عنيفًا ومتوقعًا، حيث شرعت ادارات جميع السجون بمعاقبة جميع الاسرى، وخاصة اسرى حركة الجهاد الاسلامي. لم تقف، بالمقابل، الحركة الاسيرة مكتوفة الايدي، فبعد مناقشة قيادات جميع الفصائل مجمل المستجدات، اعلنوا عن شروعهم باتخاذ خطوات احتجاجية تدريجية، وبضمنها اعلنوا عن قرارهم لخوض اضراب تصاعدي مفتوح عن الطعام، ويرافقه ايضًا حل جميع هيئاتهم القيادية.
مع اطلاق موقف الاسرى واعلانهم عن مسيرة الاحتجاج، تحركت قيادات الفصائل في الضفة المحتلة وفي غزة واعلنت مساندتها لمواقف الحركة الاسيرة ودعمها غير المشروط لها؛ وتصاعدت، بالتوازي، وتائر التعاطف الشعبي مع الاسرى المتحررين، وبدأت ميادين فلسطين المحتلة تشهد حراكات ونشاطات شعبية ملموسة ؛ فأحست المؤسسة الاسرائيلية بأخطر تداعيات عملية الهرب المحتملة، من وجهة نظرهم، وهي عودة قضية الأسرى الى صدارة الهم الفلسطيني، وشعر خبراؤهم بنشوء علامات تدل على امكانية اعادة بناء وحدة الحركة الأسيرة، وتباعًا، استرجاعها لمكانتها التاريخية، كضابط لنبض الشارع الفلسطيني الوطني الموحد.
لم تكن اسرائيل مستعدة لهذه التطورات الصاخبة التي من شأنها تقويض منجزاتها داخل صفوف الحركة الاسيرة ونسف حالة “الستاتوس كوو” المريح لها على جبهتي الضفة والقطاع، فسارعت ادارة مصلحة سجون الاحتلال، رغم شعورها بالهزيمة وحاجتها لاستعادة قوة ردعها، الى محاورة قيادات الأسرى والتوصل معهم الى تفاهمات ادت الى تعليق خطواتهم التصعيدية والى عودة حياتهم داخل السجون والمعتقلات الى ما كانت عليه قبل السادس من سبتمبر؛ وذلك كما جاء في بيان صادر عن قيادات أربعة فصائل فلسطينية داخل السجون.
لم ينضم قادة اسرى حركة الجهاد الى البيان المذكور؛ ولعل ما جاء في بيان رئيس “نادي الاسير الفلسطيني” القيادي الفتحاوي، قدورة فارس، ما يوضح حساسية الموقف الحالي وخطورته، فلقد أكّد على “ان قرار الاسرى بتعليق الاضراب الجماعي عن الطعام الذي كان مقررا لمواجهة الاجراءات القهرية التي تعرضوا لها في اعقاب عملية نفق الحرية لا يعني انتهاء المعركة”. وأوضح في معرض تأكيده على أن هذه المعركة لن تضع أوزارها حتى تنتهي كافة الاجراءات القمعية بحق الاسرى، فادارة سجون الاحتلال “ما زالت تتخذ اجراءات عقابية بحق أسرى حركة الجهاد الاسلامي وما زال بعضهم في الزنازين والعزل والتحقيق …” ولذلك دعا الجميع الى مواصلة مساندة الاسرى.
لقد كانوا ستة فلسطينيين مقاومين، أحرارًا وعاديين. جاؤوا من أرحام القهر ومن تناهيد التراب، ولم يكونوا من أولاد الاساطير؛ حفروا في عروق الندى لغدهم طريق، وزحفوا على ايقاعات فجر ضاحك في عيونهم يفيق، وأهدوا للريح رقصة وحفرة، ولأمة العرب المهزومة بعضًا من عزة وكثيًرا من وحي لكتابة فصل في الرواية، وخيالات للشعر وللأناشيد.
لن أقامر على ما سيحصل في الأيام القادمة، لكنني أجزم أن لا أحد يستطيع حجب حزمة الضوء التي زرعها “نفق حريتهم” في عتمة الزنازين، ولا أن ينتزع من أغمادهم وأغماد الفلسطينيين سيوف الاصرار والأمل التي حاول السجانون، بخبث، نزعها منذ سنين، وطمرها في دامس الليل وتحت رمال الفرقة والتدليس ..
ستة ستبقى تقاسيم وجوههم يافطات معلقة على صدر التاريخ وسيبقى القلق في عيونهم منائر تنير طرقات الحق وتفزع المستحيل.
ستة سحروا الأنام، وأغاظوا بعض الشياطين؛ فهل سيبقى عطر عرقهم ضوٰاعًا يملأ الاثير ؟ لننتظر ونأمل؛ فأنا أشم رائحة غبار صحراوي عتيق، وأرى، في آخر النفق، رؤوس رماح مجنّدة من أجل عودة “أمجاد” عصر مقيت!