الموسيقى عارية

المتوكل طه | فلسطين المحتلة

.. لا أعرِفُها

سأغادرُ هذي الغابةَ  للنَّهرِ الأوّلِ ،
حيثُ الفَرَسُ تخوضُ  لِتَخْرجَ  نحوَ التلِّ ،
وتصهلُ  بالفِضَّةِ ،
أو تنشرُ ما ظَلَّ  من البَرْقِ على الأحياء .
غبارٌ هذي الغابةُ  أو غَبَشٌ  أسودُ ..
وأرى أنَّ  سَبيكَتَها  انكسرتْ ،
أخَذَتها السّاحرةُ  إلى  بئرِ مغارتِها السوداء .
سأغادرُ هذي المُتَصابِيةَ  الرَّخْوةَ ..
مَنْ  تَضَعُ  قِناعاً  تلوَ  قِناعٍ
وتُراقِصُ أشْباحَ  الرأسِ المقطوعِ
وتخفي  سِحْنَتَها  العجفاءَ ..
سأتْرُكُ  سُوقَ  نِفاقِ  الأخوةِ ؛
مَن  كانوا في الخندقِ  أو في البَيْرقِ أو خلفَ القُضبانِ ..
وراحوا للسوقِ ،
اندفعوا مثلَ الثيرانِ الوحشيّةِ
لمذاوِدِ  ربِّ  القُطْعانِ  السائبةِ ،
أُطْعمَهُم  وَهْمَاً ،
وتّزَيّا  فوقَ  رِقابِ  الخَلْقِ
وكانَ الآكِلَ  والطاعِمَ  والكاسيَ  والسّادرَ  في  السِّيركِ الوطنيِ
المُغْلَقِ  مِن  كلِّ  الأنحاءِ ..
كلابٌ  تنهشُ  في لحمِ غزالتِنا ، اجتمعتْ
لترى ما  في القَصْعةِ  من  مَرَقٍ
خَثّرهُ  الجَمْرُ،
لتملأَ جَوْفَ  جنَّهمَ ،
وتنامَ على  رِيشِ  نعامَتِنا  الخرقاءِ.
وأَمْعَنَ  سيّدُهُم  بالسَّلْخِ  وبالطَّبْخِ ،
تَلَمَّظّ ، وامتلأَ  البطْنُ ، وأيْقَنَ  أنَّ
القُطْعانَ  الموسومةَ  تأتيهِ
بلا  تَعَبٍ ،
فَلْيَذْبَحْ  ما  شاءَ  من  الصُّوفِ ،
عدا  الكبشِ المكحولِ ..
فهذا  مَن  باعَ  حظيرَتَه  للذّئبِ ،
وصالَحَ غِربانَ  البيداء .
سأترُكُ هذا الطَقسَ الوثنيَّ  وأزلامَ  المَعْبدِ  وعُكاظَ  الخُطَبِ  المكرورةِ
وقوافلَ  داحِسَ  والغبراء .
لقد كذبوا !  مِن  أوَّلِهِم
حتى آخرَ  مَن  تاجرَ بالنّارِ  وبالأوجاعِ   وبالنسْوَةِ  حينَ  رَقَصْنَ
بمنديلِ  الأعراسِ  المُذْهلةِ  ..
وكَذَّبَ  ثانيةً ..
فَالكافِرُ مَن  رَفَعَ  البُهتانَ
وصدَّقَ ما قالَ  مُسيلمةُ  الكذّابُ ،
وعادَ مع الصَّنَمِ  المهدومِ  ..
لأرضِ الرّومِ ..
سأتْرُكُ  مملكةَ  الخَوفِ
أو الزّيفِ
وأَهْجرُ هذي المنهوكةَ  والمذبوحةَ
بسيوفِ  أشقائي الأعداء .
وأتْرُكُ  هذي الكُثبانَ  القاحِلةَ
المَذْرورَةَ ،
مَن  يختَبئُ  بها  الثعبانُ  أو العقربُ  والغولُ  أو  المَمْسوخُ ..
سأترُكُ  هذا التصفيقَ  الفجَّ  ،  وصوتَ  العتمةِ 
والجدرانَ  المثقوبةَ ،
لفضاءِ  السِّجنِ
ومقصلةِ  الطّاغوتِ
وقُبَّةِ  صخرتِنا الشقراء.
سأترُكُ هذي الهاويةَ  الفاغرةَ  الأنيابِ ،  الشائخةَ  الرّيحِ ، العاجزةَ  ببيتِ الضّبْعِ ، وتبدو الضائعةَ  الدَرْداء .
سأترُكُ  أنفاسَ  المَوْتِ  ورَملَ  الوَقْتِ  ولمْعةَ  نيِشانِ  الجنرالِ  المهزومِ ،
سأترُكُ هذه  الُلعبةَ ؛
مَنْ  أرْبَكَتِ  الأطفالَ
وبدَّلَتِ  الأحوالَ
وقالتْ  ما قالَ  القاتلُ ..
وأغادرُ هذا السِّحرَ الأسودَ  والترقيصَ على الأحْبالِ ، وعِطرَ الغانيةِ المأجورةِ ، ورقابةَ  أجهزةِ  التسجيلِ ،  وخنجرَ أصحابِ  التأويلِ ،
وخيطَ  عناكِبنا  المسمومةِ ..
سأغادِرُها ..  لدَمٍ  يتفجّرُ
في  أوردةِ الحقلِ  المنسيِّ
وفي  الزَّهرِ الشتويِّ ،
وأُترُكُ هذي المعركةَ  الخاسرةَ
إلى قلبِ  فلسطينَ ؛
لأوَّلِ  ما  خلقَ  اللهُ  وآخرُ  ما  يبقى  في  الأرضِ
من  الحِنّاء.
سأترُكُ هذا  المرْقصَ
فالإيقاعُ  غريبٌ
والليلُ  بهيمٌ
والموسيقى  عاريةٌ
لا أعرفها ،
لا تعرفني ،
غرباءٌ  نحنُ   بهذا  المحْفلِ..
ما عاد  لنا  ما  نطرحُه
بِمَزادِ  السيّدةِ  العمياء .
سأترُكُ  هذا  الكأسَ ،
فيكفي ما فعلتْهُ  الخمرُ  الفوّاحةُ
في  الرّوحِ ،
ولا ينقُصها الدَّنَّ  النازفَ
مِن  أعصابِ  الكَرْمَةِ ،
إذْ  سَرقَوا  العنقودَ  كما  سرقَوا  الكأسَ  وأضواءَ  المشْرَبِ  والثلجَ السائحَ  في  طَيَّاتِ  الأضواءِ  الحمراء .
انطلقوا مثلَ  جَرادٍ
جاءَ على الحقلِ ،
وغادرَ بعدَ  الجَدْبِ  لأطْلالِ  البُومِ
وجُحْرِ الحَيَّاتِ  الرّقطاء ..
سأترُكُ هذا التسْطيحَ  الساذجَ  والنوْءَ  الهائجَ  والقُبْحَ  الرائجَ   والتّيهَ الفالجَ  والصدأَ  الخارجَ   مِن  فُولاذِ  الحَجَرِ إلى  الأجراسِ ،
ونأتي  دونَ  حَمامٍ  يَزْجلُ
برسائلَ  مَن ظلّوا  فوقَ  التَلِّ
على  أُحُدٍ ،
وتساوى مَن ماتَ
بِمَن  جَمعَ  غنائمَ  معركةِ  الثأرِ ..
سواءً  بسواء !
سأترُكُ هذا البحرَ المسجورَ ،
أنا لستُ  بموسى
كي  أَملكَ  منْسَأةً  أضربُها  في  الموجِ
فيَنْشقُّ  الماءُ ،
ولستُ  بِيوشَعَ  كي  أقبضَ  بالكَفِّ
على  الشمسِ ،
ولستُ  بِمَن  يجترحَ  المُعْجزةَ
إذا جاءَ  السّاحرُ ،
أو أبعثَ  مَن  راحَ  إلى  الغَيْبِ ..
أنا الكَهْلُ  المصلوبُ  وموسى  المطرودُ  ويوسفُ  إذ  أَلْقُوهُ  إلى  الجُبِّ ..
فَيَا ربِّي ارحَمْني  من  إخوتيَ  المفضوحينَ
بهذا  الليلِ  المُشْرعِ  للأنواء .
سأترُكُ  هذا  المأتمَ  دونَ  رثاءٍ  للرّاحلِ،
فالثورةُ  في  قلبِ  التابوتِ !
وهل غادَرْتُ  لأحملَ  باقةَ  دمعٍ  للأيتامِ  ؟
هنالكَ  سادَ  الصمتُ
وغابت  ألسنةُ  الشُّعراء !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى