سياسة

لماذا لم يفُز أردوغان من الجولة الأولى؟

مقال تحليلي

 الدكتور: وسيم الجَنَد
تبادر هذا السؤال إلى أذهان الملايين عند ظهور نتائج انتخابات الجولة الأولى في الخامس عشر من هذا الشهر، وهذا السؤال المركزي مبني على عدة أسئلة أخرى فرعية إليكموها مُجْملة:
*لماذا لم يفُز أردوغان* وهو الذي حقق لبلاده خلال (21) عاماً ما لم تحققه الحكومات العلمانية المتعاقبة طيلة (80) عاماً؟!
*لماذا لم يفُز أردوغان* وهو صاحب المشروعات الكبرى كالطرق السريعة، والقطارات الحديثة، والجسور العملاقة، والأنفاق البحرية، والسدود الكبرى، والمطارات الضخمة، والمدن الطبية، والجامعات الراقية؟!
*لماذا لم يفُز أردوغان* وهو الذي رفع صادرات تركيا قرابة (10) أضعاف خلال مدة حكمه(قد تناهز(300) مليار دولار بنهاية هذا العام)؟!
*لماذا لم يفُز أردوغان* وهو الذي شهد عهده تطوراً كبيراً وغير مسبوق في مجال الصناعات الدفاعية أثار إعجاب المهتمين بالشأن التركي، وأضحى مصدر فخر لمحبي تركيا في الوطن العربي من عُمان إلى المغرب، وصار حديث المسلمين من أندونيسيا إلى البوسنة؟!
*لماذا لم يفُز أردوغان* وهو الذي رفع نسبة الاكتفاء الذاتي في صناعة الأسلحة من(20٪) إلى أزيد من(80٪)، وبعد سنوات قليلة ستتخطى هذه النسبة حاجز ال(90٪) ؟!
*لماذا لم يفُز أردوغان* وقد باتت تركيا في عهده تصنع الدبابات والمدافع والصواريخ والغواصات والسفن الحربية والطائرات المسيرة والطائرات الحربية وحتى حاملات الطائرات؟!
*لماذا لم يفُز أردوغان* وهو الذي ارتفع دخل الفرد في عهده بنسبة تزيد عن(300٪)، وتضاعف الناتج القومي لتركيا عدة أضعاف خلال حكمه(حجم الاقتصاد التركي يقف على عتبة الترليون دولار الآن)؟!
*لماذا لم يفز أردوغان* وهو الذي رفع اسم بلاده عالياً في المحافل الدولية وصنع للأتراك مكانةً ومجداً، وجعل لهم حضوراً ووزناً في القضايا الإقليمية والملفات الدولية(كان التركي في الخارج يخجل من الإفصاح عن هويته قبل عهد أردوغان)؟!
وللإجابة عن هذا السؤال المحوري والأسئلة المتفرعة عنه نقول:
إنّ فهم طييعة المجتمع التركي والإحاطة بتكويناته المختلفة وتوجهاته المتعددة هو المدخل الأنسب للإجابة عن جميع التساؤلات السابقة، والسبيل الأرشد لإدراك خفايا المشهد التركي المعقّد والمليء بالتناقضات، وهذه الاختلافات موجودة في معظم دولنا العربية؛ لكن بدرجة أقل وبزخم أضعف(باستثناء تونس صاحبة الإرث العلماني البورقيبي المتشدّد).
ويمكننا أن نسلّط الضوء على هذه التباينات الكائنة في بلاد الأناضول والفئات التي يتكوّن منها الشعب التركي، وبيان ذلك كما يأتي:
*أولاً: الأكراد* .
يمثل هؤلاء قرابة(20٪) من أبناء الشعب التركي ويتركزون في جنوب شرق تركيا، وهم قوة انتخابية مؤثرة وكتلة تصويتية منسجمة، ولهم موقف معروف من الدولة التركية، ولديهم طموحات قديمة في الانفصال وتأسيس دولة كردية مستقلة(بإسناد مباشر من الدول الكبرى)؛ لذلك فإنّ أصواتهم لن تذهب في معظمها لأردوغان بالتأكيد؛ بل لمنافسه الذي يعِد بمنح الأكراد المزيد من الحقوق في حال فوزه(يفعل ذلك لأجل الظفر بأصواتهم وإلا فتاريخ حزبه مشهور بالعداء لهم والتنكّر لمطالبهم؛ بل وسحقِهم). وللأكراد كذلك حضور سكّاني مؤثر في المدن الكبرى غرب تركيا(إسطنبول وأنقرة وإزمير) ويكادون يكونون هم سبب خسارة العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية التي أُجريت عام2019م في أنقرة وإسطنبول(حدث هذا رغم أن أردوغان قد منح الأكراد كثيراً من الحقوق، ووضع عنهم معظم الآصار والأغلال التي كانت عليهم في العهود السابقة). ويطمح الأكراد كذلك لإطلاق سراح زعيمهم التاريخي عبد الله أوجلان المسجون منذ1999م، وهو ما لا يقبله أردوغان وحلفاؤه القوميون بزعامة دولت بهشلي.
*ثانياً: الكماليون والعلمانيون المتشدّدون.*
نصّب هؤلاء أنفسهم حرّاساً للإرث الأتاتوركي العلماني المنحرف، وهو الإرث الذي كان سبباً لأكثر الإخفاقات التي شهدتها تركيا الحديثة منذ (100) عام، وهؤلاء هم ألدّ أعداء الإسلام وأشدهم خصومة له، ومرشحهم المفضّل ليس أردوغان بالتأكيد.
*ثالثاً: العلويون.*
ونسبتهم في تركيا(20٪) تقريباً، وينتمي منافس أردوغان لهذه الفئة؛ لذلك فمن الطبيعي أن تصوّت أكثريتهم لكمال كليجدار أوغلو لا لإردوغان الذي ينتمي إلى المذهب السّني.
*رابعاً: الشيوعيون الماركسيون*.
وهؤلاء أضعف الفئات الأربع وأقلها عدداً، ولكنهم يمثلون كتلة متماسكة وأيدلوجيا صارمة ومنظمة تجاهر بالعداء لكل ما هو إسلامي، ولن يصوّت هؤلاء لأردوغان بل لخصمه اليساري العلماني، وقد يقاطع بعضهم الانتخابات بالكلية. وأما اليساريون المعتدلون فقد ضعف شأنهم وتشتت أصواتهم بين العدالة والتنمية، وحزب الشعب الجمهوري، وبقية أحزاب المعارضة.
وحين نتناول أسباب الخسارة المرحلية والجزئية للانتخابات الرئاسية هذا الشهر(تعبير الخسارة مجازي هنا) لا يجوز لنا أن نتجاهل دور *الإعلام المضلل* الذي يشوّه صورة أردوغان ليل نهار، ويسيء إلى حزب العدالة والتنمية طوال الوقت، مستغلاً أجواء الحرية الموجود في تركيا؛ فبسبب هذا الإعلام السلبي الموجّه خسر الأردوغانيون جزءاً مقدّراً من شعبيتهم، ولا يفوتنا أيضاً أن نورد سبباً آخر مهماً لتراجع أصوات العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية هذا الشهر وهو استخدام المعارضة لقضية *اللاجئين* *السوريين* كسلاح في المعركة الانتخابية، إضافة إلى المصاعب الاقتصادية التي مرّت بها تركيا في السنوات الأخيرة(بعد أزمة كورونا تحديداً)، ويأتي *التضخّم* في طليعة هذه الإشكالات التي جعلت حياة الأتراك أكثر صعوبة.
*الكتلة التصويتية لأردوغان ولحزب للعدالة والتنمية:*
وعِماد هذه الفئة هم المحافظون أي أبناء التيار الإسلامي، وإضافة لهذه الكتلة الصلبة هناك القوميون والمعتدلون من العلمانيين والكماليين واليساريين وهناك المستقلون، ومجموع هؤلاء يساندون أردوغان وحزبه لما أحدثه في تركيا من نقلة هائلة في مجال التنمية، ولا ننسى هنا أنً العدالة والتنمية يُعدّ نفسه حزباً علمانياً لا إسلامياً، وهو ما ساعده على كسب أصوات هذه الفئات المهمة في كل الاستحقاقات الانتخابية منذ 2001م وحتى الآن(كما ساعده على تفكيك روابط الدولة العميقة وتحييد الجيش وتنحيته عن ميدان السياسة). ويُحسب لأردوغان أنه استطاع اختراق هذه الشرائح وكسب ثقتها ودعمها، وهو ما لم يتيسّر لأستاذه نجم الدين أربكان من قبله.
وخلاصة الجواب أن الأتراك لا يصوتون بناء على عامل واحد هو عامل الإنجازات ومستوى التطوير والتحديث لبلدهم؛ بل إنّ قسماً كبيراً منهم يصوتون لاعتبارات عرقية (الأكراد)، وفكرية وعقائدية(العلمانيون والكماليون والشيوعيون)، فهؤلاء لن يصوّتوا لأردوغان مهما صنع لهم أو نهض ببلادهم؛ لأنهم على خصومة أيدلوجية معه، ولديهم مشكلة كبيرة مع نهجه الإسلامي وخلفيته الدينية المحافظة.
*وختاماً:*
تُعدّ الجولة الثانية لانتخابات تركيا الرئاسية مصيرية وحاسمة، ويُفترض أن تؤسس لتركيا الجديدة التي تحترم ذاتها وتعتز بثقافتها ولا تتنكر لماضيها وتاريخها، تركيا القوية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً والمؤثرة إقليمياً وأوروبياً وعالمياً، كما يُتوقع أن تتراجع القوى المعادية للإسلام خطوات جديدة إلى الوراء من دون أن تتلاشى، وستنشأ مع السنين أچيال جديدة ترفع السقف وتزيد من المطالب، ولا ترضى بغير تحقيق النصر النهائي على كل التيارات والأفكار المعادية للإسلام، ليُحشر هؤلاء الموتورون في الزاوية وينكفئون على أنفسهم، ويمتنع عليهم التوالد والتكاثر إلى أن ينقرضوا ذاتياً مع الوقت؛ ولا سيما في حال الاهتمام بالتعليم الحكومي وأسلمة المناهج المدرسية والجامعية والاهتمام بالتاريخ الإسلامي وبالتراث العثماني، وفي نهاية المطاف ستلفظ الكمالية آخر أنفاسها بفضل هذا التغيير التدريجي المنظم للمجتمع التركي الذي يُعد بمنزلة ثورة صامتة، غير أنّ الأمر قد يحتاج ل(30) سنة ليصبح التنافس الانتخابي بعدها بين الإسلامين أنفسهم(كما هو الحال في إيران)، وينحصر السباق بين فئاتهم المختلفة وأجنحتهم المتعددة التي تختلف في الوسائل لا في الغايات، وتفترق في الجزئيات لا في الكليات.
باستمرار حكم حزب العدالة والتنمية يمكن أن تدخل تركيا قائمة الدول العشر العظمى في العالم خلال عشر سنوات، وأما التحاق تركيا بنادي الدول النووية فقد يحدث خلال الفترة الجديدة لرئاسة أردوغان(أي خلال ال5 سنوات القادمة)؛ لتصبح الدولة الإسلامية الثانية بعد باكستان التي تمتلك السلاح النووي وتحوز القنبلة الذرية، وهو ما سيساعدها على إصلاح الأمم المتحدة وتعديل نظام مجلس الأمن بالاشتراك مع بقية الدول الصاعدة كالبرازيل والهند والمكسيك وجنوب أفريقيا(وسيصبح لتركيا مقعد دائم في مجلس الأمن)، وسيؤهلها كل ذلك لقيادة العالم الإسلامي وتحقيق مزيد من التكامل الاقتصادي والسياسي بين دوله ال(57) على نمط الاتحاد الأوروبي.
إنّ الصراع بين الإسلام والعلمانية في تركيا سيستمر لثلاثة عقود أخرى على الأقل – هذا إن بقي الصراع على المستويين الثقافي والفكري ولم يحدث انقلاب عسكري- وسيخرج الإسلام منتصراً من هذه المعركة ذلك أنه القوة الروحية والثقافية التي لا تُقهر أو تنفصم، *وستكون علامة هذا النصر المبين:* تحطيم تماثيل أتاتورك المنتشرة في كل ميادين المدن التركية على أيدي الأتراك أنفسهم تلقائياً وجماعياً(كما حطّم الألمان جدار برلين أواخر القرن المنصرم)، ولن يتسنى للأتراك ذلك إلا بعد أن يعرفوا حقيقة أتاتورك وخبث مراميه وفداحة إجرامه في حقهم وفي حق خلافتهم وأمتهم وأمجادهم.
(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) صدق الله العظيم.
قد تكون صورة ‏شخص واحد‏
كل التفاعلات:

Adnan Komayha و٤٠ شخصًا آخر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى