كيف شكّلت القصص العالم؟!
مارتن بشنر | bbc.com – ٢٣ أبريل ٢٠١٨
ترجمة: أنغام عبد الرازق شعيب | شاعرة ومترجمة
من الأساطير القديمة، وصولًا إلى الروايات الحديثة، وكيف أثرت القصص على تشكيل وعي الأجيال..
منذ طفولته، كان الإسكندر الأكبر يُهَيأُ ليصير قائداً لمقدونيا، مملكة صغيرة بشمال اليونان في حروب دائمة مع جيرانها على كل المساحة أعلى بلاد فارس، مما يعنى أن على الصغير أن يتعلم كيف يقود الجيوش في المعارك. بعد اغتيال والده واعتلائه العرش خليفة له، سرعان ما جاوز كل التوقعات! فهو لم يؤمّن مملكته فحسب، بل ألحق الهزيمة بامبراطورية فارس كلها، وغزا عالماً شاسعاً امتد من مصر حتى شمال بلاد الهند.
الحقيقة أن الاسكندر كان شغوفاً بسلاح إضافي بخلاف سلاح الجيوش وهو: إلياذة هوميروس!
فبينما كان صغيراً.. تعلم الاسكندر القراءة والكتابة عبر دراسة تلك النصوص، وبفضل معلمه الفيلسوف (أرسطو) فقد قام بذلك بإجادة كبيرة.
وعندما شرع في غزواته، كانت قصة لهوميروس عن رحلة استكشافية لآسيا الصغرى بمثابة مخطط لرحلته، حتى أنه توقف في طروادة رغم انعدام الأهمية العسكرية لتلك المدينة، فقط ليعيد تمثيل ما حدث بها وفقا لما ورد بالإلياذة!
طوال مدة غزواته لم يكن ينام إلا وبجواره نسخته من الكتاب.
وعلى الرغم من مكانة الإلياذة في الأدب إلا أن الأسطورة كان لها تأثير وتداعيات تجاوزت جدران المكتبات ونيران المعسكرات في اليونان القديمة، حيث ساهمت في تشكيل المجتمع اليوناني بأكمله وتشكيل أخلاقه.
قال الكاتب هاورد كاناتيلا: ”إن هوميروس رسم -بالإضافة لأشياء أخرى عديدة- شكل الفكر وكون باكورة الثقافة اليونانية القديمة. هذه القصص تشير إلى تأثر وتفاعل وعيش المجتمع لأحداث قد صممت لتبث في جمهورها وازعاً لتفضيل الاختيارات الأخلاقية والأعراف التي يجب أن يكون عليها المجتمع ويتبعها كالشجاعة مثلا، وهي بذلك تعطي فكرة عن مدى تأثيرها على الناس بشكل عام.“
مع الإسكندر كان التأثير متبادلاً، فبينما كانت الأسطورة بمثابة إلهام له، فقد رد هو إليها الفضل عندما جعل من اللغة اليونانية لغة سائدة على مساحات شاسعة من العالم، بما مهد الطريق للإلياذة لتصير أدباً عالمياً! ثم بنى خلفاؤه من بعده مكتبات عظيمة كمكتبة الإسكندرية وبيرجامون فصارت بذلك الأسطورة خالدة.
كان ذلك دليلا على أنه يمكن للقصص أن تحظى بأهمية بالغة على أرض الواقع خارج صفحات الكتاب، وقد رفع أفلاطون التحدي ليشمل الفنون أيضاً.. حيث يثبت بذلك أنها لا تمنح المتعة فحسب بل يمتد تأثيرها ونفعها إلى وضع الدساتير البشرية وإلى حياة الناس.
وكما ذكر كاناتيلا، فإن الشعر بالنسبة لأرسطو -كما هو الحال بالنسبة لأفلاطون-
لا ينحصر تأثيره في أن يثير العاطفة، بل إنه يلهم الناس ليصبحوا أشخاصاً أفضل!
كانت الإلياذة هي النموذج الأول والذي تبعته أعمال مثل ملحمة جلجامش ببلاد ما بين النهرين وكتاب البوبول فو (الذي سمي بكتاب النصيحة أو كتاب المجتمع أو الكتاب المقدس لشعوب المايا بأميركا الوسطى، ويعتقد أن أول نسخة من البوبول فو كُتبت حوالى سنة 1550م- المترجمة).
فهذه الأساطير من الأدب الملحمي تعتبر مرجعيات مشتركة لثقافات بأكملها، تخبر جماهيرها عن حقيقتهم وأصولهم وهويتهم.
لكن ليست كل الأدبيات التقليدية تبدأ بروايات ملحمية عن الملوك وغزواتهم!
فالأدب الصيني مثلا قد بدأ بكتاب (الأغاني)، وهو عبارة عن مجموعة من الأشعار بسيطة الألفاظ مخادعة المعنى، بحيث تراكمت عليها منذ ذلك الوقت مجموعة هائلة من التفسيرات والتعليقات.
والشعر في الصين لم يكن يختص به الشعراء المحترفين فحسب، بل كان على الموظف الحكومي الطموح أن يمر عبر اختبارات إمبراطورية صارمة تتطلب معرفة تفصيلية بالشعر، حتى أن كبار المسئولين الحكوميين كانوا قادرين على الاندفاع نحو كتابة الشعر بشكل عفوي لمجرد نزوة أو هوى في أي وقت.
فكتاب الأغاني قد كرس الشعر ليكون أهم صورة أدبية على الإطلاق عبر كل شرق آسيا، وإن تمتعت اليابان باستقلال ثقافي عن الصين فإنها قد قامت بذلك بخلق مجموعتها الشعرية الخاصة.
تجلت أهمية الشعر أيضا في تكوين واحدة من أُوَل الروايات العظيمة في الأدب العالمي وهي قصة (جنجي). فمؤلفتها السيدة (موراساكي شيكيبو) اضطرت لتعليم نفسها الشعر الصيني عن طريق التجسس دروس شقيقها وجلساته مع معلمه الخاص، حيث لم يكن مسموحا للنساء لتعلم الأدب الصيني.
استغلت السيدة تلك المعرفة لتكوين صورة عن الحياة في البلاط الملكي ممتلئة بالتفاصيل وببصيرة نافذة على أسرار النفس البشرية، خالقة بذلك قطعة فنية أصلية تجاوزت صفحاتها الألف صفحة، لتضفي بذلك مكانة عالمية على روايتها التي تضمنت ما يقارب الثمانمئة قصيدة.
(رواية جنجي من الأدب الياباني تعتبر أول رواية طويلة في العالم تتضمن مقومات الرواية الحديثة، وقد كتبت منذ ما يقارب الألف عام، وقد كتبتها السيدة موراساكي شيكيبو لتسلية النساء في البلاط الملكي- المترجمة)
ومع انتشار التعليم عبر أجزاء أكثر من العالم، كان هناك تقنيات حديثة أهمها صناعة الورق والطباعة ساعدت في توسيع رقعة انتشار القصة المكتوبة وكذلك تأثيرها.. قلص الاختراعان تكلفة الأدب وصار يمكن لعدد أكبر من القراء الوصول إليه حيث صار مكتوباً، وقراء جدد كان معناه ظهور قصص جديدة تناسب ذائقتهم واهتماماتهم.
ذلك التطور ظهر تحديداً في العالم العربي، الذي استطاع الحصول على سر عملية صناعة الورق من الصين وحولها إلى صناعة مزدهرة للمرة الأولى.
للمرة الأولى تتحول القصص الذي تناقلتها الألسن طويلا إلى مجموعات قصصية مجمعة، مثل ألف ليلة وليلة.
بشكل أكثر تنوعاً مما كانت عليه القصص والأشعار الملحمية التاريخية، قدمت ألف ليلة وليلة الترفيه والتعليم بالقدر نفسه! مؤطرة جميعها بقصة شهرزاد الخالدة والملك الذي أقسم على قتل كل امرأة يلقاها بعد ليلة واحدة يقضيها معها، ولمواجهة الموت المحتم بدأت شهرزاد تقص الحكاية بعد الحكاية، حتى أحل الملك نفسه من قسمه، لتصير شهرزاد بذلك مليكته وأيضا بطلة الحكايات.
تحررت الرواية من الشكل القديم المرتبط بالنماذج الأدبية القديمة، فسمحت بظهور أنواع جديدة من القراء والكتاب على الساحة، خاصة من النساء.
وقد ألقت المجموعات الشعرية والقصصية والحكايات الملحمية بظلالها على التاريخ التاريخ الأدبي اللاحق لها، فعندما شرع الشاعر الإيطالي (دانتي أليجييري) في تصوير وتبيين وجهة النظر المسيحيية للجحيم والمطهر والجنة فقد اختار أسلوب الشعر الملحمي، وبالتالي تنافس مع المدرسة الكلاسيكية حيث ألقى بهوميروس طي النسيان بذكاء شديد، ذلك لأن هوميروس -من سوء حظه- قد وجد قبل المسيح!
(الجحيم والمطهر والجنة هم أقسام كتاب الشعر الملحمي: الكوميديا الإلهية، الذي يعتبر إنتاج أوروبا الأدبي الأعظم خلال العصور الوسطى وقاعدة اللغة الإيطالية الحديثة، وقد انتهى دانتي من كتابتها عام ١٣٢١م)
كتب دانتي كوميديته بلاتينية متقنة للغاية، لكن باللهجة المنطوقة لإقليم توسكانا، وكان هذا القرار سببا في أن تعتبر تلك اللهجة هي اللغة الشرعية والتي نطلق عليها اليوم (اللغة الإيطالية) لتكون بذلك رمزا لأهمية الأدب في تشكيل اللغة لا الثقافة فقط.
أما التغيير الأعظم بالثروة الأدبية العالمية كان عند اختراع الطباعة في شمال أوروبا بواسطة جوهانس جوتنبرج (بالاعتماد على التقنية الصينية)، ذلك الاختراع الذي بشر بحقبة الإنتاج الأدبي الضخم والانتشار الهائل للتعليم كما نعرفه اليوم.
الاستقلال السياسي يتطلب الاستقلال الثقافي، والرواية أثبتت أنها الطريقة المثلى للحصول عليهما.
تعتبر (فرانكشتاين) للكاتبة ماري شيلي بداية ما سمي بعد ذلك بقصص الخيال العلمي.. حيث التمزق بين وعود العلم العظيمة وبين إماكاناته المدمرة (دستوبيا جورج أورويل السياسية (١٩٤٨) و(حكاية الخادمة) لمارجريت أتوود هي أحدث الأمثلة لهذا التقليد)
وفي الوقت نفسه فقد استخدمت الرواية من قبل الدول الناشئة لتأكيد استقلالها كما حدث في الستينيات مع (مئة عام من العزلة) لجابرييل جارسيا ماركيز، فيما سمي بعصر ازدهار أميركا اللاتينية.. رواية متعددة الأجيال تأمل في تصوير ثقافة أمة كاملة، واستقلال سياسي منشود أثبتت الرواية أنها الطريقة المثلى للوصول إليه.
وبينما استفاد هؤلاء والعديد غيرهم من عصر محو الأمية الجماعية باختراع الطباعة، فقد سهلت الطباعة أيضا التحكم في الأدب والرقابة عليه، حيث صارت تلك مشكلة مؤلفي وكتاب دول الأنظمة الشمولية كألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي، فتطورت بذلك أنظمة النشر السرية وطرق التهرب من الرقابة.
واليوم نحن نعيش عصر ثورة جديدة فيما يخص تكنولوجيا الكتابة، ثورة لا تقل أهمية عن ثورة اختراع الكتابة أو اختراع الطباعة في الصين أو ثورة إعادة اختراع الطباعة في شمال أوروبا..
الإنترنت يغير اليوم كيفية كتابتنا وقراءتنا، وكيفية انتشار الأدب ومن يحصل عليه!
نحن نقف على عتبة حقبة جديدة للكتابة والقراءة، حيث يوشك العالم المكتوب على التغير مجدداً!
((مقال لمارتن بشنر/منشور على موقع bbc.com/ ٢٣ أبريل ٢٠١٨))
لطالما ما نلاخظ في التاريخ مدى تأثر الزعماء والملوك والأساطير بالمفكرين والفلاسفة..
اما عن كيفية انتشار و توصيل الفكر والأدب فإنها تزداد وتصبح أكثر إتاحة بتطور الوسائل السمعية والبصرية، فاختراع الترنزيستر على سبيل المثال كان وسيلة هتلر الثقافة والإعلامية لغزو العالم، فقد كان يبث اكثر من أحد عشر ساعات يومياً بعد اتاحته لجميع أفراد الشعب بسعر رمزي، لنشر الثقافة النازية.