تحليل بنيوي/ جمالي لقصيدة (تغريبة الوحي) للشاعر محمد العياف العموش (2-2)
الناقدة والشاعرة ثناء حاج صالح| ألمانيا
” تغريبة الوحي” و “تمتماتٌ واضحةٌ لرجلٍ غامضٍ جداً”
بإيحاء من السمات والخصائص الفنية والأدبية لهذه القصيدة سنعمَد إلى فكّ شيفرات روابطها البنيوية المتسلسة عمقاً، بدءاً من البنية السطحية للنص؛ وهي التي تتمثل بالمستويات الصوتية والصرفية والنحوية والتراكيبية..إلخ وصولاً إلى البنية العميقة متمثلة بالمستوى الدلالي، والذي سيتقاطع معنا فيه التحليل البنيوي في بعض مواضعه مع التحليل الجمالي؛ وما يتيح لنا إجراء هذا التقاطع هو أننا في الحالتين (بنيوياً وجماليَّا) مضطرون للتعامل مع النص كوحدة مغلقة، لذا سنحاول ما أمكننا ذلك، أن نضع كل ما هو خارج النص جانباً (كالحالة النفسية للشاعر والبيئة الاجتماعية المحيطة به أو الظرف التاريخي الذي كُتِبَت فيه القصيدة ) وليس هذا بالأمر السهل دائما .
بنيوياً : يقوم هذا النص في بنيته الكليَّة على فكرة التلازم الوجودي بين الشاعر وشعره، وهو يحافظ على وحدة موضوعه على طول السياق العام للقصيدة ، ويتضمن أربعة أنساق تؤكد وحدته الموضوعية من أوجه متعددة .
النَسَق الأول : نَسق التحوَّلات التي يمر بها الكائن المزدوج (الشاعروشعره) منذ الولادة وحتى الموت. ويبدأ هذا النسَق مع المجيء للحياة في مطلع القصيدة (أنا والشّعرُ..أتينا للحياة ) وينتهي مع الموت بآخر أبياتها (على موتٍ بلا وطنٍ قَلِقْنَا ) إلا أنه يتوقف قبل ذلك مؤقتا عند البيت الخامس في نهاية صغرى لهما، عندما يحترقان معا ويتحوَّلان إلى رماد .
النسق الثاني : نسق التحوُّلات عبر الإسقاطات المتداخِلة (للشاعر/ النبي وشعره / الوحي ) تناصَاً مع الرموز في قصة موسى -عليه السلام- ويشمل الأبيات (السادس والسابع والثامن والثاني عشر ).
النسق الثالث: نسق تحوُّلات علاقة الكائن المزدوج ( الشاعر وشعره ) مع الحياة .
النسق الرابع : نسق المرأة/ النبوءة والتحوُّلات المرافقة لعتق الكائن المزدوج .وتشمل البيتين الثاث عشر والرابع عشر.
وَضَعَ الشاعرُ لهذه القصيدة عنوانين؛ العنوان الأول (تغريبة الوحي) تلبَسته القصيدة ببنيتها الفنية ، ليرسم لها سياق وحدتها العضوية والموضوعية، كما سنرى.
الاسم (تغريبة) هواسم المَرَّة من الفعل (غَرَّبَ: يُغرِّب تغريبا)، وتأتي بمعناها الاصطلاحي لتدلَّ على الإمعان في السفر والارتحال، والذي يكون باتجاه الغرب أو المغرب باعتبار الفعل (غرَّب) فعلا لازماً.
غَرَّب : أي اتجه باتجاه الغرب. وقياسا ً إلى التغريبة القديمة ( تغريبة بني هلال ) التي انطلقت من نجد وانتهت في المغرب العربي. وهي إحدى التغريبتين اللتين يستدعيهما عنوان هذه القصيدة إلى الذهن. وثانيتهما هي التغريبة الحديثة للشعوب العربية التي هُجِّرت عُنوةً إلى شتَّى بقاع الأرض( كالتغريبة الفلسطينية مثلا).
أما دلالة الفعل المتعدّي (غَرَّب ) فتأتي مختلفة عن دلالة نظيره اللازم؛ غرَّبَه : أي جعله غريبا ودفَعَه إلى الغربة. وباعتماد هذا الفعل تكتسب لفظة (التغريبة) دلالاتِ معاناة التغرُّب والاغتراب والغربة المرتبطة بالنفي والهجرة والشتات. وهي الدلالات التي سنختارها لشرح معنى العنوان (تغريبة الوحي) كونها تبدو أقرب إلى وصف معاناة الارتحال المتكرر في التحوُّلات المختلفة والمتوالية للشاعر مع الشعر أو ( الوحي الشعري ) ، وخاصة في النسق الثاني ، حيث تتماهي فكرة نبوة الشاعر/ موسى مع فكرة الوحي/ الشعر. وهي الفكرة التي منحت سياق موضوع القصيدة قدرته على التنامي لتتنامى معه وبموازاته الأحداث الدراماتيكية الملحمية التي عاناها الوحي الشعري المُغترِب بدءا من الولادة وحتى الموت بلا وطن.
أما العنوان الثاني “تمتماتٌ واضحةٌ لرجلٍ غامضٍ جداً” فهو أبعد عن روح النص بنيوياً وأقرب إليه جمالياً . كونه ينثر فوق النص غبارا سحرياً ويقدِّمه بوصفه (تمتمات ) والتمتمات : كلمات منطوقة غير واضحة وغير قابلة للفهم كما هي في المعنى المعجمي، ومع ذلك فإن الشاعر يتَعَمَّد وصفها بالوضوح.
لكن حتى مع جمع النقيضين ( تمتمات واضحة ) فسوف تبقى غير واضحة على الإطلاق لإن الناطق بها “رجل غامض جدا “. إذن فهنا تمويه ولعب لغوي على الدلالات المعنوية للألفاظ المتضادة يراد منه تشكيل صورة حسية تمثيلية لحالة اللاوضوح أو (الحيرة) المعنوية تعكس عدم الرغبة بقول ما يراد قوله.
ضميرالمتكلم في القصيدة يأخذ صيغة المفرد ( أنا ، والتاء المتحركة، وياء المتكلم) في ستّ كلمات فقط في قوله ( أنا ، ولدتُ قصيدتي ، وولدتً منها، جبتي ، أنا، عمري) في حين يأخذ صيغة الجمع ( نا الفاعلين ونا المفعولين ) متصلا بالفعل الماضي أو بغيره ثلاثاً وثلاثين مرة ( سرقنا ، أتينا ، نطقنا ، عققنا، خبَّأنا ، تلمَّظنا، فسيلتنا ، رؤانا ، كنا، احترقنا ، صرنا ، تماهينا، افترقنا ،أصغينا، جاءنا، انفلقنا ، لأنَّا ، صعقنا، يذقنا ، برقنا ، شاغبنا ، شاغبتنا، أفقنا ،نزاعنا، اختلفنا ، اتفقنا ، رُزِقنا، عتقنا ، لأنا ، قلقنا) فضلا عن تكرار نون المضارعة في خمسة أفعال استوجبت ضمير المتكلم المستتر نحن (نفتِّش، سنقلق ، لنصرخ ، نعلم ، نسأل ). وهذه المقارنة تكشف لنا مدى إلحاح الشاعر على تقديم فكرة التلازم المزدوج بينه وبين الشعر.
كلمات القوافي في القصيدة جميعاَ انتهت بنا الفاعلين. مما جعل القوافي على المستوى اللفظي والصرفي ثابتة الدلالة ومتوقعة من حيث الشكل؛ (فعل ماضٍ أو مضارع + نا)، غير أن المفارقات كانت حاضرة دائما وبقوة في المستوى الأعمق وهو مستوى الدلالة المعنوية لكل بيت من أبيات القصيدة.
بدأ الشاعر بتأريخ زمن تغريبة الوحي (الشعري) منذ لحظة ولادته هو كشاعر من القصيدة التي وَلَدَها هو؛ فهو الوالد والمولود في الوقت نفسه، وهي كذلك الوالدة والمولودة في آنٍ معاً . وقد أرَّخَ لهذه العلاقة (الديالكتيكية) للتَّشكل والانبثاق المتبادل والمزدوج إلى الوجود، في ممارسة الفعل الإبداعي وتأثيره الرجعي في صدرَي أول بيتين من القصيدة؛ (أنا والشّعرُ منْ عُمري سُرقنا) ( ولدْتُ قصيدتي ، وَوُلدْتُ منها).
أنا والشّعرُ منْ عُمري سُرقنا
أتينا للحياةِ فلم تطقْنا
ولدْتُ قصيدتي ، وَوُلدْتُ منها
ومِنْ جهتينِ لا جهةٍ عُقِقْنا
تزدوج شخصية الشاعر باقترانها مع الشعر، الذي يظهر لنا نِدَّاً للشاعر من حيث استقلالية الوجود، ومنفصلا عنه ككائن قائم بذاته، فهما كائنان اثنان ( أنا والشعر )، وعندما يأتيان للحياة يقول الشاعر ( أتينا ) بصيغة الجمع. ولو كان الشاعر قد جاء إلى الحياة وحده ثم أصبح بعد ذلك يكتب الشعر ، لما تأنسن الشعر ولما تشخصن، ولما ظهر كائناً مستقلَّا فاعلاً يأتي إلى الحياة فلا تطيقه، كحالها مع رفيقه الشاعر الذي رافقه في المجيء، وفي تلقِّي رد الفعل نفسه من الحياة . أما وقد أتيا اثنين، وكل منهما قام بفعل المجيء منطلقا من إرادته الخاصة ومعتمدا على نفسه، فهذا يؤنسن الشعر ويجعله فاعلا واعياً لا مفعولا به. ويمنحه حق مقاسمة صاحبه الخيبة التي تسببت لهما بها الحياة معا عندما لم تطقهما ( أتينا إلى الحياة فلم تطقنا). لكن هذا لا يمنع أيضا أنهما كلاهما سُرِقا من عمر واحد (مفرد ) هو عمرالشاعر. فتعيدنا دلالة نسبة ياء المتكلِم في لفظة ( عمري) إلى ضرورة فهم هيمنة الشاعر على شعره وكونه في النهاية هو المتضررمن تلك السرقة.
سرقة الشاعر من عمره (عملية خطف في حالة الإنسان) تحوِّله إلى شيء قابل للنهب والسرقة ، وتجعله يبدو ضحية سلبية غافلا عن مجرى مصيره، غير أن إشراك الشعر معه في مواجهة المصير ذاته يوضِّح لنا سبب تلك السرقة، ونفهم أنهما مقصودان معاً، ولو لم يكونا معاً لما سُرِقَ أحدهما.
ولدْتُ قصيدتي ، وَوُلدْتُ منها
ومِنْ جهتينِ لا جهةٍ عُقِقْنا
جهة الشاعر وجهة القصيدة جهتان للكائن المزدوج تتلاقيان وتلتحمان في المنتصف ، ولذا فإن العقوق الذي يأتي من كلتي الجهتين يبدو مطبقا عليهما من كل الجهات الممكنة. مفاجأة التركيب اللغوي في الصدرتعتمد على تقديم الصورة الصوتية نفسها للفعل ( ولدتً) والتي تتكررمرتين إحداهما ببناء الفعل للمعلوم والأخرى ببنائه للمجهول.مع فارق بسيط يتمثل في ضم الواو في إحداهما.
على الرغم من علاقة التضاد الأصلية بين الفاعل الإيجابي للفعل المبني للمعلوم، ونائب الفاعل السلبي (المشتق أصلا من المفعول به) للفعل المبني للمجهول ، فقد اتفق للشاعر أن يلد ويولد عبر صيغة صوتية واحدة للفعل الماضي ( ولدتُ) ، وهو ما يعكس ويمثِّل هذه العلاقة الوجودية الجدلية العجيبة بينه وبين القصيدة.
ولأن العلاقة العضوية والبيولوجية بين الشاعر وقصيدته علاقة تداخل وجودي غير قابل للتأصيل زمنياً بهدف تحديد صلة القربى بينهما، أو غير قابل لتحديد أسبقية الوجود لأيٍّ منهما ، فستبقى معضلة الحكم على نوع الصلة بينهما مشكلة غير قابلة للحل.
بيد أن احتمالا وحيدا واستثنائيا يقدمه لنا الشاعر عبر هذا البيت يعيننا على تشكيل تصوُّر تجسيمي/ تشكيلي ما لهما ، هو هذا العقوق الذي واجهاه من جهتيهما. ما يعني أن العقوق عقوقان ، فثمة عقوق للشاعر ، وثمة عقوق للقصيدة . وعلى الرغم من أن عقوق الشاعر مختلف عن عقوق القصيدة إلا أن ضمير (نا المفعولين) في الفعل (عُققنا ) يوحِد المعاناة بينهما؛ ويؤكِد أن عقوق الشاعر وجه آخر لعقوق القصيدة ، والعكس صحيح.
وخبّأنا فسيلتَنا شتاءً
تَلَمَظّنا الرّبيعَ ولم يذقنا
بعد الولادة ومعاناة العقوق من الجهتين، يخبِّئان ( الشاعر والشعر ) فَسِيلَتَهما المشتركة التي هي قطعة من جسديهما المتحدين، لتكون امتدادا حيويا لهما إذا زُرِعت ونَمَت في الزمن القادم . فهما يخبئان هذه الفَسيلة خوفا من برد الشتاء القارس الذي يهدِّد بإتلافها ، ويتلمَّظان إذ يخبئانها الربيعَ اشتهاءً له على أمل الوصول إليه والحياة فيه ، ثم تكون النتيجة أن يأتي الربيع فلا يجدهما ولا يكون له أن يتذوقهما. لأن الفسيلة ببساطة قد تَلِفَتْ في الشتاء وانتهى أمرها.
لو أسند الشاعر فعل الذوق لهما ( الشاعر والشعر ) لما أوحى بموت الفسيلة وتلفها في الشتاء، وذلك لأن من يتلم°ظ ويتوقع منه أن يذوق، يفترض به أن يكون حيا ، ليتمكن من الذوق ، فكيف سيحدث ذلك والفسيلة التي كان يُعقد عليها الأمل بالبقاء حية حتى الربيع قد تلفت في الشتاء ؟
وها نحن نراقب تحوُّل ( الشاعر والشعر ) من مرحلة الولادة المتبادلة، إلى مرحلة الفسيلة التي تلفت في الشتاء. وبما أن الفسيلة نفسها قد اقتطعَت من جسديهما فسنراقب ما حدث لجسديهما المتصلين ( الشجرة) التي اقتطعَت منهما الفسيلة.
وكنا في الهوى حطباً وزيتاً
وكان الوجدُ جمراً فاحترقنا
لقد تحوَّلا في الهوى إلى وَقود ( حطب وزيت ) تضرم به نار الهوى التي يزيدها الوجد اضطراما لتودي بهما إلى الاحتراق ،هنا نلاحظ التوازي بين إيحاءات المستوى الدلالي للمفردات المترابطة منطقيا بعلاقات السبب والنتيجة والتشكيل الجمالي في رسم الصورة الشعرية؛ فالحطب المشبعة خلاياه بالزيت هو جسد الشجرة اليابسة القابلة للحرق بهدف التدفئة، فإذا اجتمع الحطب/ الشاعر والزيت/ الشعر مع الوجد المتقد كاتقاد الجمرفلا بد إذن من احتراقهما معا ، فيحترق الشاعر ويحترق الشعر( فاحترقنا ) ويمران بعدها بتحوُّل آخر هو التحوُذل إلى رماد. ولا بد أن نلاحظ السلسلة الكاملة للمفردات المترابطة منطقيا والتي شكَّلت هذا المشهد الشعري المهيب والضارب جذوره في البنية العميقة للنص على المستوى الدلالي وعلى المستوى السطحي أواللفظي ( فسيلة تالفة – حطب وزيت – جمر الوجد – احتراق – رماد )
نَعم ، صرنا رماداً غيرَ أنّا
تماهينا ، لذلك ما افترقنا
يتماهى الشاعر مع الشعر في مرحلة الرماد وتختلط ذراتهما الناعمة الدقيقة معا إلى درجة أنه لم يعد من الممكن الفصل بينهما ، لذلك ولأنه يصعب فصل رماد عن رماد، فقد أصبح مكتوبا لهما أن لا يفترقا بعد ذلك أبدا.
وهنا ينهي الشاعر الأحداث الدرامية المتنامية لنسقه الأول ، ويبدأ من جديد في نسج أحداث النسق الثاني والتي تبدو وكأنها تحدث في كون آخر موازٍ لهذا الكون، أو في بُعد زمني آخر ذي إحداثيات جديدة . لأنه سيقدم لنا ذينك الكائنين ( الشاعر والشعر ) باسم واحد وليس باسمين فهما الآن ( البحر) .
وكنا البحرَ ، أصغينا لوحيٍ
فلما جاءنا الأمرُ انفلقنا
(وكنّا البحر ) البحر الذي مثَل أرضيَّة مسرح الحدث في قصة موسى -عليه السلام – اختاره الشاعر لكي يمثلهما معاً هو والشعر .( كنَّا) نحن الإثنان شيئا واحدا ممتدَّا ومتَّصلا ( البحر )، لكننا عندما أصغينا للوحي كنا اثنين في إصغائنا. فلما جاءنا الأمر استجبنا له ونفذناه معا وفي الوقت نفسه. وكان الأمر أن ننفلق فانفلقنا . على أنه انفلاق وليس انفصالا . فالشاعر مازال متحدا مع شعره ومتصلا معه في هيئة البحر وحالته. و نرى أن هذا البحر أصبح أساسيا في عملية التغيير وله الدور الأساسي في إنقاذ المؤمنين العابرين فوقه؛ فهو يشكِل مركز الثقل، وله درجة الأهمية الأولى في البيئة الداخلية للحدث ، وهو بطل القصة في الحقيقة، وليس موسى عليه السلام وأتباعه المؤمنين؛ وذلك لأن انفلاق البحر هو الحدث في القصة .
ويقودنا هذا الدور البطولي للشاعر والشعر ( البحر ) إلى تأويل الهدف البعيد من هذا التناص مع القصة القرآنية . ففي كل زمان ومكان ثمّة موسى وأتباعه المؤمنون الهاربون من البطش، وثمة فرعون ومَلَؤه الطغاة في الأرض . وينبغي أن يكون للشعراء وشعرهم دور البطولة في إيصال المؤمنين إلى بر الإيمان عبر حدث انفلاق البحر في الوقت المناسب والمكان المناسب . أي أنه يجب أن يلتزم الشاعر وشعره بأداء هذا الدور وتنفيذ أمر الوحي. والشاعر محمد العموش يخبرنا بأنه لم يتخلَّ عن مسؤوليته تلك .
غير أننا ونحن نقرأ هذا الإسقاط نشعر بأنه مؤقت وغير ثابت في علاقته مع بقية أحداث القصة القرآنية ، وذلك لأن هذا المشهد سينقطع فجأة وتسدل عليه الستارة ، لننتقل فجأة إلى مشهد آخر مواز في القصة نفسها، غير أن الشاعر وشعره فيها يلعبان دورا آخر هو دور موسى النبي عليه السلام . فهنا تنزاح الدلالات كاملة مع انزياح الألفاظ عن دلالاتها في القصة الحقيقية ونشعر أننا في كون مواز آخر فيه كائنات مشابهة لكائنات القصة ولكنها ليست في بُعد آخر من الدلالات .
سَلوا عمّا رأى جبلَ القوافي
لأنّا بالتجلّي قد صُعِقْنا
جبل القوافي الذي يقابل طور سيناء في القصة القرآنية سيشهد حادثة الصعقة . لذلك يوعز الشاعر بإحالة الأسئلة إليه ، فما الذي قد رآه جبل القوافي ؟
لقد رآهما مصعوقين ( صعقنا ) في لحظة التجلي للجبل. فهما الآن متقمصان شخصية جديدة هي شخصية النبي موسى -عليه السلام- حينما تجلّى ربه للجبل فخرَّ موسى صعقا . لكن بما أن الجبل هو جبل القوافي فهذا العالم مختلف والتجلي فيه مختلف والنبي موسى المصعوق بالتجلي مختلف كذلك. ولفهم معنى هذا الاختلاف وما يراد قوله من خلاله نحتاج إلى طاقة ذهنية روحانية تمكننا من تصور الكائنين المتحدين واللذين صعقا معا في شكل رؤى مجسدة قابلة لأن تبصر وتنعكس في مرآة الصورة الشعرية وتدرك بالحواس.
فما في جبّتي إلا رؤانا
ولا مرآة َ إلا ما عشقنا
على مستوى الدلالات المعجمية للألفاظ تبرز في هذا البيت لفظة ( جبَّتي ) التي تقودنا للتأويل من خلال وميضها الإشاري إلى التأويل الصوفي . وذلك لأن (الجبَّة ) في عصرنا تمثّل لباسا دينيا على وجه الخصوص ، وبعيدا عن الدلالات التاريخية والاجتماعية لهذه اللفظة يبقى لدينا هيكل الصورة الشعرية الذي رسمه الشاعر فراغياً بأبعاده الثلاثة حينما نصب المرآة العاكسة في مواجهة لابس الجبة (وهو الشاعر) لوحده مع الانتباه إلى ياء المتكلم التي تقصُر نسبة الجبة على الشاعر فقط ( جُبّتي ). فالجبة جبَّته . وهذا يعني أنه ظاهرا هو من يرتديها . بيد أن الحقيقة الأعمق من الظاهر هي أن ما يوجد داخل الجبّة ليس سوى الرؤى المشتركة للكائنين المتحدين معا ( رؤانا ) وهما الشاعر وشعره.
، يجب علينا كقرَّاء أن نخرج الآن من القيود البنيوية لنقرأ النص وفقا للمعايير الجمالية لأن هذه التقنية من التناص التي استخدمها الشاعر لتوليد وإنتاج نصه تمتنع على التحليل البنيوي الذي لا يعترف بانفتاح النص.
في حين أننا نقف فعلا أمام نص مفتوح أو لنقل (كامل الانفتاح) من خلال تعدد وتداخل تقنيات التناص التي استخدمها الشاعر معاً وفي الوقت نفسه حينما دمج بين ثلاث تقنيات هي (التوسع أو التضخيم للنص القرآني ، وقلب الوضع الدرامي للنص الأصلي القرآني ، وقلب القيمة الرمزية للرموز المستهدفة من النص القرآني) .
لكن قولنا ” قلب الوضع وقلب القيمة الرمزية ” لا يعني أنها عملية عكس للمعنى أو الموقف الأصلي بحيث يتحول الإيجاب إلى نفي أو بالعكس ؛ وإنما هي عملية انزياح تتضمن إجراء التغيير والتحويل والتحريك للموقف فقط ، لأن التوافق في الموقف ظلَّ مستمرا بين النص الأصلي ونص القصيدة.
ولشرح تقنية الدمج هذه سنعتمد كقرَّاء على معلوماتنا السابقة المرتبطة بالنص القرآني : فالصعقة التي حدثت في النص لم يتعرض لها الشاعر فقط ، مقابلة مع موسى عليه السلام الذي تعرض بمفرده للصعقة . وإنما تعرَّضت لها رؤاهما المشتركة التي كانت محتواة في الجبَّة بوصفها ناتج الاتحاد بينهما.
ونحن نقبل هذا التضخيم والتحويل في الرمز( في مسألة من الذي تعرَّض للصعقة لحظة التجلي) على أنه انزياح يحدث في كون موازٍ آخر في داخل النص الشعري .
أن يكون حلول الشعر في الشاعر / النبي قد أنتج رؤىً مجسدة قابلة للانعكاس والإبصار. لدينا تناص موازٍ آخر في الرؤية مُستَقىً من الصوفية ؛ فالحلول كان منذ بدء القصيدة واضحا من خلال حلول الشعر في الشاعر ليتحدا ويصبحا كائنين ملتحمين. لكن الشاعر مع هذا البيت يصبح أكثر تحديدا وتأطيراً وتثبيتاً لفكرته ، وخاصة مع قوله في العجز ( ولا مرآة إلا ما عشقنا ) لأن المرآة التي تعكس الضوء قد عكست لهما ما عشقاه معا عندما نظرا إليها ، إذن، فإن ما عشقاه هو ناتج كيانهما المتَّحد ، لأنه هو ما سيظهر وينعكس في المرآة ممثلا برؤاهما ( رؤى الشاعر ورؤى الشعر ) .
ومع هذا البيت يتوقف النسق الثاني ( نسق التناص مع قصة موسى عليه السلام ) . قبل أن يختمه في البيت الثاني عشر .
ونعود لمتابعة التحول من جديد ، في النسق الأول الذي يعود به الشاعر وشعره إلى الحياة الواقعية .
لنا من سُمرةِ الأحداقِ بُنٌّ
وكانَ الليلُ فكرةَ أنْ أرِقْنا
كذلك تفرض القراءة الجمالية نفسها علينا عند قراءة هذا البيت والذي يربط فيه الشاعر بين لذة الخلق الإبداعي والتشكيل الجمالي كمُنتَج للخيال الشعري من جهة، وبين موضوع اللذة الجمالية عند الشاعر، فاللون البني للأحداق وبسبب سمرته الداكنة التي تجمع بينه وبين مادة البُن (وجه الشبه) ، سيتحوَّل إلى مشروب بصري تستقيه عين الشاعر وشعره، وهذا يعني أن الشاعر إنما يتّخد من سمرة الأحداق المادة الأوليَة الخام فقط (البن) وليس المشروب المصنوع منها (القهوة)، ويكون عليه هو أن يستخدم هذا البن ليعيد صياغته جماليا بطريقته الإبداعية الخاصة حتى يصنع منه المشروب الجاهز للشرب.
ويؤكد الشاعر أن الذهن أو الخيال الشعري هو مصدر الحدث في الشعر على الرغم من أن أساس العملية الإبداعية قد يقوم على الإلهام أو الاستيحاء. وذلك لأن الليل لم يكن سوى فكرة في الذهن تشكلت مع خبرة الشعور بالأرق الذي يمعن فيها الشاعر بالإحساس بالليل .
وكانَ الليلُ فكرةَ أنْ أرِقْنا
ومن منطلق كونه في الأصل مجرد فكرةٍ أو إحساسٍ ذاتي وداخلي، يصبح الليل شيئاً قابلا للتصوُّر، ليشهده الآخرون خارج الذهن والخيال الشعري. لذا فلا بد له وكي يتمكن من التجلّي للآخرين كحالة فلكية، لا بد به من أن يمرَّ في مرحلة الصياغة والتشكَّل من قِبَل الشاعر ليتحول من فكرة وإحساس إلى صورة حسيّة قابلة للمشاهدة من قبل الآخرين.إنها وظيفة الشعر وإنها مهمّة الشاعر وعمله.
وشَاغَبْنا الحياةَ وشاغَبتْنا
وطالَ نزاعُنا حَتى أفَقْنا
كانا أكبر من الأحداث التي تجري في واقع الحياة، لأنهما لم يأخذا ما يجري فيها على محمل الجد؛ فما يقومان به في علاقتهما مع الحياة ليس سوى (مشاغبة) من قِبَل الشاعر وشريكه الشعر، مشاغبة متبادلة بينهما وبين الحياة نفسها. لكنها مع ذلك وعلى الرغم من كونها غير جديّة، فهي تتمثَّل ظاهريا بصراع ونزاع طويل الأمد بين الأطراف.
يعتبر الشاعر كل تلك المشاغبات وكأنها نوع من النزاع الخيالي الذي قد يحدث في النوم/ الحلم ثم، ما يلبث أن يتوقف عندما يستيقظان من النوم معا ( الشاعروشعره ).
الشاعر إذن لا يعير هذا النزاع الذي يشارك فيه اهتماما كبيراً. بل إنه في قرارة نفسه لا يجد له أسبابا حقيقيّة، ولا يهتم حتى بالبحث عن أسبابه. وتبدو الغاية منه غامضة إلى درجة أن أحداً من الأطراف المتنازعة لا يعلم سرّه . فالكل مشارك فيه ولكن أحداً لا يعلم حقيقته.
ربما هي مسألة وجوديّة غير قابلة للتعريف ولا جدوى من البحث فيها . قد يلمِّح الشاعر هنا إلى مسألة القدر والتي يكون على الإنسان أن يخوضها واعياً وغير واعِ ، مجبرا ومخيّرا ، فاعلا ومفعولا به في الوقت نفسه. لذلك يقول:
فلم نعلمْ على ماذا اختلفْنا
ولم نسألْ على ماذا اتّفقْنا ؟
يدلُّ السؤال الذي لا يُطرح في بعض الأحيان على عدم أهميّة جوابه. فالأمر سيَّان أيَّا كان الجواب. وكأن الاختلاف مع الحياة أوالاتفاق معها لم يكونا نابعين من عمق الإرادة الذاتية . وإنما كانا مواجهة لا بد منها للأمر الواقع المفروض فرضا، على الرغم من ممارستهما وأدائهما (الاختلاف والاتفاق ) كما هو مخطط ومقرر .
ولكن الشاعر لم يقل على الإطلاق إنه دورٌ عبثيٌ هذا الذي يتم تمثيله عبر كلٍّ من الاختلاف والاتفاق عديمي الأهميَّة ؛ فـ(العبثية) غير محتملة في تقييم الشاعر للأمر، على الرغم من الجهل بأسباب النزاع، وذلك لأن الشاعر مع شعره ينفذان النزاع ويخوضانه من منطلق التسليم والرضا به كقرار واجب التنفيذ، وليس من منطلق التمرُّد والاعتراض عليه. فهذا هو الدور نفسه الذي كانا يؤديانه عندما كانا (بحرا) فجاءهما الأمر بالانفلاق فانفلقا في الحال ودونما اعتراض.
أثر حقيقي وقوي من آثار الإيمان بالله يظهر في تصوُّر الشاعر لنفسه ولشعره، ويؤكد الشاعر عليه من خلال ألفاظ عديدة وردت في النص ( أصغينا لوحيٍ ، التجلي ، صعقنا ، جبتي ، محراب صبر، ثمر النبوة ) ،فكلاهما مؤمنان وكلاهما يصلّيان في محراب الصبر:
أنا والشّعرُ في مِحراب ِ صَبرٍ
ومن ثمرِ النبوءةِ قد رُزِقنا
ولأن الصبر لا يكون إلا على الشِدة ولأنه يقتضي التسليم والرضا بالقدر وكظم النفس عن الاعتراض حتى تنقضي الشدة وتزول. فإن هذا وغيره يُعد من ثمرات النبوة التي مُنِحها الشاعر. غير أنها ليست وحدها ما حازه الشاعر من ثمرات النبوة . وربما يدخل في تلك الأعطيات العلم الشرعي الذي حصَّله الشاعر في الحياة الواقعية والذي انعكس على شعره وترك أثره فيه أيضا . بيد أن الشاعر يذهب بنا إلى نوع مختلف ومدهش من ثمر النبوة يتجلى في قدرته على التنبؤ.
وهو موضوع النسق الرابع في هذه القصيدة : نسق المرأة/ النبوءة والتحوُّلات المرافقة لعتق الكائن المزدوج . فنبوءة الشاعر ربما تعني قراءته لمستقبل ما قد يتحقق يوما وفي أحد أعوام القحط، لذا فإن الشاعر يخاطبها من زمن سابق لحضورها ، وهي ما تزال في علم الغيب:
إلى امرأةٍ ستأتي عامَ قحط
تُفتّشُ في السّحابِ وقد بَرِقْنا
تُؤوِّلُ آلَنا ماءً زلالاً
لنصرُخَ في الفيافي : قد عُتِقْنا
ستأتي تلك المرأة في سنة جفاف ويباس ( قحط) فتبحث عنهما ( الشاعر والشعر ) في الغيوم التي تعد بالمطر، ويكون مجيئها متزامنا مع لحظة أصابتهما بالبرق الذي يأذن للسحاب بأن يمطر. فتمطر السحب وينعتقان مطرا، وتشهد المرأة ذلك المشهد فتفسّر أصلهما/ مصدرهما ( آلنا: من الآل) بأنه الماء الصرف العذب الزلال، ويكون هذا التأويل منها بمثابة تحقيق لحقيقتهما ، لأنها تردُّهما بتأويلها إلى أصلهما المائي العذب فهما من سلالة الماء العذب ونسلها، وكونهما قد احتجرا لفترة في السحاب يعني أنهما قد فقدا سيولتهما، وسوف تستفيد تلك المرأة في الوقت المناسب من حادثة البرق التي تبعث الشرارة الكهربائية التي ستصهر بخار الماء في الغيوم لتعيدهما إلى أصلهما السائل، وعند ذلك يصرخان فرحاً بالحرية والانعتاق في الفيافي/ الصحاري بأنهما قد انعتقا من أسر مرحلة الجمود وسيتابعان منذ الآن دورة الماء الطبيعية بدءاُ من لحظة الهطول في الفيافي أوالصحراء القاحلة التي تحتاجهما أكثر من أي مكان آخر. ولا شك أنها ليست مصادفة أن يكون الهطول في الصحراء.
المرأة النبوءة في هذا المشهد هي المفتاحٍ في حركة انعتاقهما ، فهي على الرغم من كونها ليست سبب البرق الذي أشعل شرارة الكهرباء في السحاب الذي سيمطر ويحررهما، فقد شاركت في فعل التحرير من خلال تأويلها لآلهما ( أصلهما ) ومن خلال حضورها كشاهدة على الحدث وسيرورته.
ونلاحظ كيف أن الشاعر يعود مرة أخرى إلى تغليب الخيال الشعري على الواقع ويجعله مصدرا له مع الدور الذي منحه لمهمة التأويل الذي مارسته المرأة ، فالتأويل ليس مجرد فكرة بل هو الفكرة الخلاّقة التي تتحوَل بها الكائنات وتتشكل من جديد . وهذا يذكرني بجزء من حديث شريف يقول ” إن الرؤيا تكون على ما يعبِّرها صاحبها. ” فالتأويل هنا يشارك في تحقيق الحدث وينقله من صورته الخيالية إلى صورته الواقعية.
سنقلقُ راحةَ المنفى لأنّا
على موتٍ بلا وطنٍ قَلِقْنَا
سين التسويف في ( سنقلق ) تدل على استمرار التنبؤ من قبل الشاعر، بيد أن هذه النبوءة لا تأتي في سياق تنبؤات المرأة. وإنما في سياق آخر ينتمي إلى النسق الأول الذي افتتحه الشاعر بالولادة وسينهيه الآن بالموت. سيقلق الشاعر وشعره على موت يحدث بلا وطن أو بعيداً عن الوطن. والقلق من الموت بعيداً عن الوطن يضيف نبوءة أخرى وهي أن الشاعر وشعره لن يتخذا من المنفى وطنا جديدا أو بديلا للوطن الحقيقي، حتى وإن عاشا فيه وتوقعا الموت فيه. إنهما منفصمان عن المنفى وغير منتميين إليه. وهذا هو بالضبط ما سيقلق راحة المنفى الذي لن يكون مسرورا بموقف الشاعر وشعره.
القصيدة عميقة المضمون تجلَت فيها عبقرية الشاعر ورؤيته الشخصية وتقييمه لجوهر الفعل الإبداعي وما يتركه من آثار نفسية عميقة ودقيقة في تكوين شخصية المبدع/ الشاعر، كما تجلت فيها قدرته على استقلاب المحتوى الثقافي الديني والجمالي من خلال عمليات وتقنيات الدمج المعقدة التي استخدمها في التناص مع القصص القرآني. ومن خلال الانزياحات المعنوية في الرموز الدينية .
وعلى الرغم من هذا المحتوى المعنوي الثقيل فقد كانت اللغة بسيطة غير معقدة واضحة الإيحاءات صريحة الإشارات(على مستوى الألفاظ والتراكيب وأساليب صياغة الجمل الإنشائية والخبرية، وكذلك بيانيا وبلاغيا) بيد أنها تمتعت بخصوصية وحساسية تتناسب مع حقولها الدلالالية وتوظيفاتها في السياق ، وقد ابتعد الشاعر الألفاظ الصعبة وتجنب الزخرفة البديعية المبالغ فيها. لكي يبقى جوهر المعنى هو الأكثر لفتا لاهتمام القارئ. لذا فقد حافظت المعاني على شفافيتها على الرغم من عمقها وجنوحها إلى الأسلوب الرمزي الفلسفي .