السادية في السياسة اللبنانية
وفيق شومان | خبير سياسي لبناني
السؤال الذي يطرحه أغلب اللبنانيين: ماذا يدور في أدمغة أغلب أهل السياسة حين يرون الناس مهجوسين بالجوع وفقدان الوظائف والحلم بالهجرة .
يسأل اللبنانيون ولا يحصلون على إجابة .
في التاريخ القديم ، مشاهد من كلمات ومنحوتات، تُظهر كيفية سوق الناس في مصر الفرعونية إلى الموت جوعا وإرهاقا، إذ كان جلادو الفراعنة وجندهم، يُجبرون بأقواسهم ونبالهم وفؤوسهم أشباه الأموات على بناء الأهرامات، فلا يتيحون للعبيد غذاء ساعة ولا ساعة راحة، وحين تتساقط الأرواح عن الأجساد الميتة، يصار إلى قذفها في النهر محولة إياه إلى مقابر من ماء .
في مصر الفرعونية كان الصمت فضيلة، والإعتراض على الجوع من كبائر التمرد على الفرعون، وجاء في وصية الفرعون خيتي إلى إبنه: “إذا وجدت رجلا يتكلم أكثر من اللازم ويثير الإضطراب ، اقتله ، امح اسمه ، أزل جنسه ، فذاك الرجل كارثة “.
يقول فرنسيس فيفر في كتاب “الفرعون الأخير رمسيس الثالث” :
“عوضا عن السلال المليئة بالأيدي المقطوعة، جلب رمسيس معه إلى مدينة طيبة صفوفا طويلة من المساجين لضمهم إلى العبيد، هكذا يزداد غنى بهؤلاء النوبيين الذين سيهلكون في العمل في حقوله المنتشرة حول المدينة “.
المشهد الذي كان في مصر القديمة يستنسخ نفسه في لبنان الحالي.
في العراق القديم كان أكثر الناس عبيدا أو أرقاء أو أجراء عند الملوك وما يحيط بهم من حواشي وقلة طبقية مختارة .
حفر العبيد والفقراء العراقيون الأقدمون قنوات الماء، وكان الماء الصافي والنقي من نصيب البطاشين والجلادين ولأهل المُلك والإمرة، وأما الماء الملوث فكان من نصيب الذين حفروا وشيدوا وخلدوا واحدة من أعظم الحضارات في التاريخ.
الصورة نفسها في لبنان الراهن.
ينشد الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم هذه الأبيات:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا / ويشرب غيرنا كدرا وطينا.
في كتب التاريخ ومشاربها واختلافاتها وفي تاريخ مشارق الأرض ومغاربها يحفظ القراء والدارسون:
أن أهل الحُكم يأخذون ما يشاؤون، ويستولون على أرض لو أرادوها، وعلى أموال لو مالوا إليها ، وعلى أية إمرأة لو رغبوا بها واشتهوها .
في رواية “حفلة التيس” المصنفة كواحدة من أهم الروايات العالمية، يسرد مؤلفها ماريو بارغاس يوسا، وقائع من حكم رافائيل ليونيدس تروخييو، دكتاتور جمهورية الدومينكان (1930 ـ 1961)، فيقص أحداثا أشبه بالأساطير ، فقد كان الدكتاتور تروخييو يمتحن ولاء وزرائه بزيارات مفاجئة إلى منازلهم، وما أن يدخل الدكتاتور منزل الوزير المعني حتى يخلي الوزير منزله تاركا الدكتاتورعلى فراش الزوجية !!!.
امتحان الولاء
امتحان الولاء بالإنسحاق وقبول العار.
مصطلح السادية يعود بالأصل إلى روايات الفرنسي المركيز دي ساد (1740 ـ 1815) حيث تتسم مشاعر وانفعالات شخصياته الروائية بمتعة قهر الشريك، فلا يحصل السادي على لذته المطلوبة بغير إيذاء الشريك وتفجيعه وإلحاق العنف المفرط به.
هذا المفهوم توسع لاحقا ليشمل جوانب الحياة الإجتماعية والفردية والإقتصادية والسياسية، ففي العلاقات الإجتماعية يمكن أن يتعرض الأفراد لأذية أصدقاء مفترضين ، لا لسبب إلا لأن أصحاب النزعة السادية يرون تحقيق “الأنا” خاصتهم بالعدوان على غيرهم أو أذيتهم، وفي عالم الإقتصاد، ثمة من يذهب إلى إلحاق الخسائر المالية الكارثية بأبناء المهنة بغرض تحطيمهم ليس إلا، ومن دون تحقيق أرباح مقابلة، فالغرض في هذه الحالة إنتاج نصر وهمي تتحقق من خلاله الذات السادية.
في عالم السياسة، فإن حقول ممارسة السادية وتحقيق الذات، تكمن في تحويل صنف من أهل السياسة للناس إلى ميادين تجارب وضحايا، فجوزيف ستالين ( 1878ـ 1954) بحسب عالم النفس الشهير أريك فروم، يمثل النسخة الأكثر وضوحا عن “السادية السياسية” إذ أنه كان يعمل على طمأنة خصومه قبل أيام من إعدامهم، ولما يسقط الآمان الستاليني على هؤلاء، كان يأمر بإعدامهم، ثم يتتبع أفعال الإعدام وكيفية إعدامهم واللحظات الأخيرة لهم قبل الإعدام وبعده.
الشيوعي الآخر ماو تسي تونغ ( 1893 ـ 1976) رغب في تحويل الصين إلى مجتمع صناعي فعمل على إجبار مئات ملايين الصينيين على ترك أعمالهم الزراعية وإلزامهم بالأعمال الصناعية، من دون أن يعرفوا حرفا من أبجدية الصناعة ولا حرفية في عمل صناعي، فأخلى الأرياف وحشد سكانها في المدن ، فكانت النتيجة موت عشرات ملايين الصيينين جوعا وقهرا .
الشيوعي الثالث بول بوت (1928ـ 1998) رئيس كمبوديا ، سعى إلى نقيض ما فعله ” رفيقه “ماو تسي تونغ، إذ طمح إلى تحويل بلاده إلى مجتمع زراعي متخيل في ايديولوجية ذهنية، فأمر بإخلاء المدن من سكانها ، وفي طريق تحقيق ذلك ، قتل الملايين، فكانت كمبوديا هي الدولة الوحيدة التي تراجع عدد سكانها إلى نصف ما كانت عليه قبل وصول بول بوت إلى الحكم .
في التحليل النفسي لشخصية الزعيم النازي أدولف هتلر، يلاحظ علماء النفس ميله لسحق الضعفاء، ومن هنا جاءت أوامره بقتل المعوقين وأصحاب الأمراض المزمنة ومنع ضعيفي البنية من الإنجاب ويشكل ذلك ذروة ازدراء الضعفاء وهذا الإزدراء يمارسه أغلب السياسيين اللبنانيين تجاه اللبنانيين، فيتركونهم في أزماتهم يهيمون ، فلا يعالجون أزمة ولا يحلون عقدة، فيهاجر من يهاجر ، ويجوع من يجوع، ويموت من يموت على أبواب المستشفيات، وفي ذلك يتخلص السياسيون من الضعفاء والمستضعفين ، مع فارق ملحوظ عن النموذج الهتلري، فالأخير يتخلص من الضعفاء بقرار معلن، والسياسيون اللبنانيون يتخلصون من الضعفاء بقرار غير معلن .
لا شفقة لدى الشخصية السادية
والرحمة يقابلها روح الاستمتاع بعذابات الآخرين، وتحقير البشر وعدم الاعتراف بالخطأ وانعدام الثقة بالآخرين من صفات الشخصية السادية.
من علم النفس إلى لبنان: أي شعور ينتاب أغلب أهل السياسة حين يحدقون بوجوه الصارخين الذين يتوسلون أصحاب البنوك بمؤنة مالية تسد حاجة غذاء أو دواء أو كساء أو قسط مدرسي أو جامعي؟.
من يفسر مشاعر أغلب أهل السياسة؟ من يشرح عواطفهم؟ من يفند أحاسيسهم؟ من يمكنه أن يدخل إلى أعماق عقولهم ليقرأ كيف يفكرون وكيف يخططون وكيف ينظرون إلى الناس؟
سبق القول إن الشخصية السادية لا تراجع أفكارها ولا تعترف بأخطائها وتمارس الإنكار المطلق ، فلا تصوب سلوكها ولا تصحح سيرتها، وعلى هذه الحال تنتقل بها الأحوال من خطأ إلى خطأ، ومع كل خطأ مستجد ينتج مأزق مستجد، حتى تتراكم المآزق وتحل معها الكوارث والفظائع والأهوال .
ألم يحدث كل هذا في لبنان ؟
هل اعترفت غالبية أهل السياسة بخطأ ما؟ بنصف خطأ ؟ بربع خطأ؟
ماذا يبقى أمام الناس على ما يفكر أغلب السياسيين ويأملون ؟.
يبقى أمام الناس الخضوع، اليأس، الخنوع، فقدان الأمل، ويبقى أمام الناس العودة بطيبة خاطر أو بضربة فأس إلى نظام الطبقات، نظام الأسياد والعبيد، نظام يخير الناس بين الأمن المفقود والرغيف المفقود، وبين الأمن والرغيف، يختار الناس الأمن، بل الحد الأدنى من الأمن .
هكذا أحوالنا .