قصة قصيرة: قـــَاهِرُ العُصْملِّي

الدكتور موسى رحوم عبَّاس | الرياض

        اسمع يا عبد الحميد، ياولدي، حلب أم الدنيا، حلب أمُّ الدُّنيا، هكذا كان يراها بدو منطقتنا في عمق بادية الشَّام والرِّيفيون من جيرانهم في قرى تدمر ومزارعها، مع بدايات القرن العشرين كانت المرابع الليلية في بداياتها، يؤمُّها الميسورون وبعض أبناء الشُّيوخ والإقطاعيين، وحول فندق بارون وفي بهوه الواسع تقام حفلات الرَّقص، وتُرمى الأموالُ بين يدي الرَّاقصات خلال نوبات السُّكر. جدُّنا عبد الحميد كان واحدا من هؤلاء، ولأنَّه الوحيدُ الذي يتقنُ الكتابةَ والقراءة كان يُكلَّف بيع المحصول من السَّمن والصُّوف وغير ذلك من منتجات القبيلة، وهاهو ذا يعود من إحدى غزواته – كما كان يسمِّيها – ولكنه وجد أباه الحاج حميدي ينتظره، فعاجله بحركة خاطفة،  ووضع الجزء المعقوف من العصا التي لا تفارق يده على رقبته، وسحبه خلفه كم تُسْحَبُ الخِرافُ، وانتهرَ الصِّبيةَ الذين انطلقت ضحكاتُهُم المكبوتةُ سخريةً بعمِّهم عبودي، وتشفِّيًا به.

– كم مرة أخبرتك ألا تذهب إلى حلب دون علمي؟!

– وما بها حلب ؟

– أنت تعلم ما بها، لقد خذلتنا ومرَّغت سمعتنا بالتراب، لقد أصبت مني مقتلا! دمرت كلَّ ما بنيته أنا وأجدادك من مجدٍ، يعرفه القاصي والدَّاني من البصرة حتى بادية الشَّام،

وسُمِع صوتُ ارتطامٍ قويٍّ، وربَّما صفعة، ساد الصَّمت بعدها، لا يقطعه سوى همهماتِ الصِّبْيَة وتدافعِهم حولَ المضافة الكبيرة، مضى على هذه الحادثة شهران، ومع نهاية الربيع فُقدَ أثرُ عبد الحميد، وكَثُرَ السُّؤالُ عنه، وكان جواب والده الشيخ حميدي: الغايب حجته معه؛ فيبلع الجميع ألسنتَهم، حتى حصول ذلك الأمر الجَلَل مساءً، حين توقفت خيول  الدَّرَكِ بباب المضافة، وطلبوا من الجميع الابتعاد، دون أن يطلبوا العلف والماء لها كما جرت العادة، بل قام كبيرهم بدسِّ مُغلَّفٍ عليه أختامٌ بيد الشَّيخ، وامتطوا ظهور خيولهم، وقفلوا من حيث أتوا، وتغيَّرَ بعدها كلُّ شيء، غادر عددٌ من أبناء القبيلة فورا، واشتغلت النِّساء بتنظيف محيط المَضَافة، وترتيب البسط والوسائد، وتلبَّد الجوُّ بالصَّمت.

عندما وصلت الجِنازة إلى المسجد المجاور للمضافة، وقبل الصَّلاة على الميت، نهض الشيخُ واستندَ إلى عصاه، وارتجل:

أيها الأخوة، يا شيوخ المِنْطقة، يا وجوه الخير، هذا ابنكم المجاهد عبد الحميد الذي كان يقارع العثمانيين الذين يحتلون بلادنا، وينهبون خيراتنا، وقد قاد فصيلا من الشَّباب الغيور وقتلوا مقتلةً كبيرة من جنود العصملي في (أقجة قلعة) لكنه وقع في كمينٍ نتيجة لخيانة؛ فاستشهد بطلا مغوارا، وهاهو مسجَّى أمامكم فداءً للوطن، تعالت التكبيرات، وضجَّ المكان بالصراخ!

بعد الدَّفن وُزِّعتْ مئاتُ الصُّور للبطل، وأطلق اسمه على المسجد الذي صار اسمه مسجد البطل الشهيد عبد الحميد، وأنشد الشُّعراءُ قصائدَهم الحماسيةَ التي تُمجِّدُ قاهرَ العُصْملِّي:

                   ” عبد الحميد قاد الغارة         ياشوكة بحلْق السُّلطان

                   دايم دُوم يجدِّي(1) ربْعَهْ           ويرمي العِدا بالخُذلان ”

ومازلنا نعلق تلك الصُّور في واجهات بيوتنا جيلا بعد جيل، وننشد تلك القصائد في أعراسنا ومناسباتنا إرثا وطنيا نباهي به.

من ضمن التُّحف والخناجر التي ورثتها كانت حقيبة جلدية صغيرة، قالت أمِّي أنَّها ربَّما تكون ” كُوشان” لآرض أو بيت، قمت بشقِّها بسكين واستخراج المغلَّف ذي الأختام الذي اصفرت أوراقه، وبهت حبر كلماته،  وقرأتُ فيه:

” إلى مقام …………………. بعد التحية والسلام ، فقد وجدتْ جُثَّة المدعو عبد الحميد الحميدي ……… في مدخل فندق بارون ، إثر شجار جماعي بين رُوَّاد المرقص، وبعد خلاف بين المغدور وشخص آخر حاول التحرُّش بالرَّاقصة صافيناز التي كانت على علاقة وثيقة بالمغدور، …………………………………… وعليه أُغْلقَ المحضر”

……….

   يجدِّي ربعه: يقود رفاقه

اللوحة: للفنان والنحات السوري حسن حمام

      

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى