حين كنا أطفالا !!

خالد جمعة | فلسطين

لا يستقر في يدي قرش إلى اليوم، لا أشعر بقيمة المال حقيقةً، وتقول لي أمي أنني عندما كنت طفلاً، كان يأتي زوج أختي إلى بيتنا، ويعطيني “بريزة”، ويعطي أختي مثلها، وبعدها يركع على يديه ورجليه ويقول: من يركب على ظهري ويدفع بريزة؟ تقول أمي أنني كنت أرمي له البريزة وأصعد مباشرة إلى ظهره، أما أختي فكانت تضم يدها على البريزة وترفض هذه المتعة، وهذا حالي إلى اليوم بالمناسبة.

في الطفولة، كنا نتسلق الأشجار ولا تعنينا الخدوش، نقفز من بين ضلوع الصبار لكي نسرق سبلاً “سنابل القمح الخضراء”، أو نسرق برتقالة، أو لوزاً أخضر، ورغم أن أبي كان يعمل في بيارات البرتقال، إلا أنني لم أكن آكل مما يأتي به إلى البيت وهو كثير لدرجة توزيعه على الجيران، ولكني كنت أدخل إلى البيارات وأقطف برتقالة آكلها بنهم، أمسك بي أحد أصحاب البيارات مرة، وعندما رأى وجهي قال لي: إنت مش ابن محمود سليم، فقلت نعم، فقال: أبوك عنده في الدار برتقان أكثر من اللي في بيارتي، لشو ناطط تسرق برتقانة؟ فلم أعرف بم أجيبه.

في الطفولة كنا نذهب إلى المدرسة كسالى، ونعود منها نشيطين على عكس كل المتوقع، ونتلكأ في الطريق إلى البيت إلا في حالة الجوع الشديد الذي لم يكن مشكلة بالنسبة لنا، وكان أبو فتحي البواب “هو من عائلة البواب وكان بواب المدرسة أيضاً”، يخيفنا، لكننا نشعر بطيبته دائماً، فكثيراً ما غض النظر عن قطفنا لوردة أو خربشتنا على حائط الفصل الخارجي، ولم يبلغ المدير عن فعلتنا، أحببناه دائماً وخفنا منه في نفس الوقت، لا أزال أذكره إلى اليوم، أسمر قمحي، طويل القامة، هادئ دائماً.

في الطفولة كنا نمزق الكتب في آخر يوم في المدرسة، ربما لأننا كنا نخاف أن تلاحقنا في الإجازات، وربما لأننا كنا ننتقم منها لعذاب ألم بنا طوال تسعة أشهر، فقد كنا نبغض إجازات نصف السنة لأنهم يعطوننا واجباً لا تكفيه الأسابيع الثلاثة، أما إجازة الصيف الممتدة لثلاثة أشهر، فلا شيء فيها غير اللعب والنوم والأكل.

في الطفولة كان موعد الحمام الأسبوعي “يوم الجمعة” رعباً خالصاً، لأننا كنا “نطلع عيون أمياتنا طوال الاسبوع”، وتمسك بنا يوم الجمعة، خصوصاً عندما كنا أطفالاً جداً، وتبدأ في تحميمنا بالماء الساخن والوجه الخشن من الليفة، حتى نخرج بجلود حمراء من تحت يديها، ولم يكن غناؤها أثناء تحميمنا يخفف من وقع ذلك علينا “طالع من الحمام عريق وندوي”.

في الطفولة كانت أم إبراهيم بياعة الجبجب، وأبو علي بياع البراد صيفاً وبياع المهلبية شتاءً، يقايضوننا بنصف رغيف خبز أو بيضة مقابل أن يبيعونا ما يبيعون، لم يكن المال متوفراً دائماً، وكثيراً ما كان أولاد يقفون وهم يتلمظون أمامهم لأنهم لا يملكون ما يقايضون به، لكنهم في الغالب كانوا يشفقون عليهم ويعطونهم ما يريدون.

في الطفولة كانت الوكالة تجبرنا على شرب الحليب وزيت السمك، وكنا نتحجج بالصيام، لكن معلمينا كانوا من نفس المخيم، وعلى مين بدك تلف يا ولد، في النهاية تذهب كل حججنا أدراج الرياح، ونشرب الحليب وزيت السمك برقابة مباشرة من المعلم.


في الطفولة، لم نكن نفهم شيئاً في السياسة، كنا نحب جمال عبد الناصر، وصورته المعلقة في البيت كأحد أفراد العائلة الغائبين، وصورته على علبة الملبس المكتوب عليها “نادلر”، وحزنّا مع من حزنوا يوم أن مات، دون أن نعرف لماذا، وكنا نردد دائماً: إذا أبوك جمال عبد الناصر بتوكل قرن الفلفل، إذا أبوك جمال عبد الناصر بتنط عن الحيط، إذا أبوك جمال عبد الناصر بتطلع لحالك في الليل، إذا أبوك… إلخ، قبل أن تتغير العبارة لاحقاً لتصير: إذا أبوك ياسر عرفات…

في الطفولة، لم تكن هناك حدود للأشياء، أبواب البيوت في معظم الوقت مفتوحة على غاربها، تستطيع أن ترى ماذا تطبخ النساء، أو ماذا يفعل الرجال، أو كيف تتصرف القطط، لم يكن هناك ما يخاف الناس عليه ليخبئوه، ربما اليوم الوحيد الذي كانت تغلق فيه أبواب البيوت هو يوم “الصرة”، والصرة هذه كانت تصرف مرة في العام من قبل الأمم المتحدة، في سنتر التموين، وتحتوي على ملابس تبرع بها أوروبيون للاجئين الفلسطينيين، ولم يكن أحد يرغب في أن يرى الآخرون صرته، وكنا نعثر على أشياء غريبة وعجيبة لا نعرف ما هي، مرة عثرنا على بدلة عرفت بعد عشرين عاماً أنها بدلة للتزلج على الجليد، الأوروبيون لم يفهموا معنى أن تكون لاجئاً وليس لديك ثلج لتتزلج عليه.

في الطفولة كانت الأعراس فرصة مناسبة لأن نفعل ما لا يمكننا فعله في الأيام العادية، فالأهل يصبحون فجأةً متسامحين، ويمكنك أن تصعد إلى السطح مثلاً، أو تذهب إلى بيارة الرميلي لتسبح في حوض السقاية، أو تفعل أي شيء لتبتعد عن هذا الجو المشحون والمشغول باللاشيء.

في الطفولة، وحتى بلغت الثامنة، كان القطار يمر من أمام بيتنا، حاملاً جنوداً إسرائيليين من وإلى سيناء، توقف هذا القطار بعد حرب 1973، كان الجنود يلقون إلينا بألواح المرغرينا، وأكياس الخبز المقطع، وذات يوم، فكرنا أن نقوم بعمل بطولي، فسرقنا الصابون النابلسي المربع من بيوت أهالينا، ووضعناه على سكة الحديد، لكي ينقلب القطار بمن فيه حين “يتزحلق” على الصابون، وهربنا بعيداً لكي لا ينقلب القطار علينا، وقمنا بتحذير أولاد الحارة لكي لا ينقلب القطار عليهم، ومر القطار، ولم يتزحلق، فدهشنا كثيراً، فنحن كنا نتزحلق بسهولة على الصابونة إذا كانت على أرض الحمام، فلماذا لم يتزحلق القطار؟ وفهمنا عندما كبرنا أن القطار بحاجة إلى أكثر من قطعة صابون مسروقة لكي يتزحلق.

في الطفولة، هدم أرئيل شارون بيتي الذي كان في مقدمة المخيم على شارع صلاح الدين، هكذا ببساطة أكلت الجرافة الصفراء الغرف والذكريات وأعواد الذرة النابتة حديثا، يومها مدّ جندي مدجج بالسلاح يده إلينا بحلوى “طوفي”، جميعنا بلا استثناء رفضنا أخذها دون أن نعي ما نفعل، لكن رؤوسنا الصغيرة كانت تعي بشكل غير مفهوم أن البيت يساوي أكثر من قطعة حلوى طوفي يقدمها لك من هدم البيت، الغريب في الأمر، أنني والأولاد الباقين لم نأخذ الحلوى حتى حين ألقاها الجندي على الأرض ومضى.
بالمناسبة، عملية الهدم شملت شوارع بطول نصف كيلو متر، وعرض 55 مترا، 3 شوارع في رفح، وشوارع في خانيونس والنصيرات ودير البلح وجباليا، عرف هذا المشروع باسم: مشروع شارون، وحدث ذلك عام 1971.

من الطفولة لا زلت أذكر بعض أسماء أصدقائي: بسام جمعة، جواد القيسي، أيمن البردويل، طه رصرص، نافذ أبو خاطر، صلاح السيد، هشام حرزالله، محمد حرزالله، نبيل حرزالله، باسل اليازوري، خالد منصور، إبراهيم عفانة، جميل القيق، وآخرين تفاوتت علاقتي بهم بين الطويلة والمؤقتة، لكنهم ما زالوا في الذاكرة.

في الطفولة، كنا أطفالاً، بعضنا كبر، وبعضنا ما زال هناك يرفض أن يغادر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى