ضائع في تفاصيل الخريطة.. قراءة في ديوان (الرحيل إلى الداخل) للشاعر يوسف فودة
بقلم: طارق عبد الفضيل- شاعر وناقد مصري
تمثل ثلاثية الذات/الحبيبة/الوطن مدخلا هاما لفهم كثير من الإنتاج الشعري لهذا الجيل ويوسف فودة أحد الشعراء الذين عبروا عن اغترابهم داخل الوطن في ديوانه الأول(الرحيل إلى الداخل) الصادر عن دار لوتس للنشر الحر عام 2019م.
يمزج فودة بين غربته هو وحرمانه من حبيبته وضياع الوطن وهو يرحل في تفاصيل الخريطة بحثا عن الذات/الحبيبة/الوطن في قصيدة شعرية بديعة جمع فيها بين الشعر العمودي الخليلي وشعر التفعيلة لكن ظلت الموسيقى حاضرة بقوة لتنقل لنا أحاسيس المغني الذي جهر بصوته معبرا عن آلام أمة وجيل هو أحد أفراده.
وقد أعلن فودة من اللحظة الأولى أن القصيدة هي سلامه وسلواه. ففي القصيدة الأولى قصيدة “الشعر” عبر عن حاله مع الشعر، وقد فعل ذلك كثير من الشعراء وجملته الأولى “أقول الشعر موزونا مقفى” هي إعلان لاختيار وهوية وتعريف بذاته الشاعرة من الوهلة الأولى والقصيدة هي متنفسه الأول :
أطير في فضاءاتي جراحا
وأفراحا وآهات ونزفا
///
تراني أزرع الزيتون شعرا
تراني أحمل الكلمات سيفا
والقصيدة ستحمل أوجاعه وأوجاع وطنه وأمته:
ومن وطن تمدد في ترابي
وفي روحي فزاد الجرح نزفا
///
أصوغ الشعر من أرق الحيارى
ومن حلم تغشيناه زيفا
وتبلغ حالة الضياع ذروتها في قوله في مطلع قصيدة (يا ليل مالك تستطيب عذابنا)
للّيل من طعم الضياع كثير
والقلب من فرط الطعان كسير
///
يا أيها الجيل المسافر في الردى
إنا إلى وادي الخراب نسير
///
قدح من العار اصطفانا وامتلى
كأس على حلق الجميع يدور
وقد أهدى يوسف فودة ديوانه الأول (إلى أمي وأبي الوطن الأكثر رحابة والأكثر دفئا /إلى زوجتي وأولادي إلى وطني). وصدر قصيدته “العزف على وتر الموت” بقوله:
أعير الحرف أحزاني وأنساني
ولا أنساك يا وطني ولا أدري
///
إلام ستنزف العمر الجميل على
دروب المستحيل بأسهم الغدر
///
أميط الجلد عن لحمي فأبصر اسمك
…الغالي أيا بلدي لدى صدري
ويبكي فوده ضياع المجد:
أميط اللحم عن عظمي فأقرأ عزك
…البالي على بوابة القصر
والقصيدة كلها بكائية على حال الوطن.
ويتمثل الدمج بين الذات والوطن في قوله:(أنا وطن بلا وطن) وهي جملة صادمة تلخص ضياع الذات داخل الوطن بحثا عن الوطن الذي يفتقده فودة.
أنا يا مصر نهر من خطاياك …
التي فاضت أنا جبل من الوزر
///
ألا فتألقي وتوهجي زيفا
على زيف وعارا في فم الفجر
///
ولمي صحبة الرقص ارقصي في
.. حضرة الوالي وزفيني الى قبري
وفي قصيدة “العودة” والتي يمثل عنوانها ركيزة من ركائز الجيل الضائع وهو العودة يقول فودة معبرا عن هويته:
إني أنا الكرمات والكرّام و
..الحقل الخصيب على ربا متردم
ولفظ متردم هنا يستدعي قول عنترة بن شداد(هل غادر الشعراء من متردم) في مطلع معلقته مما يستدعي بالضرورة المجد الضائع.
ثم يستدعي قول عنترة:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
في قوله:
يا دار عزة بالبديع تلألأي
وترصعي بفصاحة المتكلم
ولأول مرة يظهر اسم عزة/ الحبيبة / الوطن لتكتمل ثلاثية الذات/ الحبيبة /الوطن
هذا تراث الأولين بقبضتي
وبقبضتي وحي القصيد وملهمي
///
من أجل عزة أستعيد ملامحي
وأعود أشتق القصيدة من دمي
واستدعاء التراث حاضر في الديوان كله ففي قصيدة ” الرحيل الى الداخل ” يقول فودة:
(سافري مرة في دموع النخيل/ وهزي إليك بجذع الليل لعل الغصون تحن عليك ببعض الثمار وفجر جديد) يستدعي قول الله تبارك وتعالى ” ﴿وَهُزّي إِلَيكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ تُساقِط عَلَيكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾[مريم: ٢٥] وقوله في قصيدة “السلك الشائك” (وأسافر سبع ليال) يستدعي قوله تعالى: ﴿سَخَّرَها عَلَيهِم سَبعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسومًا فَتَرَى القَومَ فيها صَرعى كَأَنَّهُم أَعجازُ نَخلٍ خاوِيَةٍ﴾[الحاقة: ٧] وقوله في نفس القصيدة (تروح خماصا وتعود خماص) يستدعي قول النبي(صلى الله عليه وسلم) : لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطانا) . وقوله (والسنبلة البرية تأخذها الريح الصرصر) يستدعي قول الله تعالى ﴿فَأَرسَلنا عَلَيهِم ريحًا صَرصَرًا في أَيّامٍ نَحِساتٍ لِنُذيقَهُم عَذابَ الخِزيِ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَلَعَذابُ الآخِرَةِ أَخزى وَهُم لا يُنصَرونَ﴾[فصلت: ١٦] وقوله تعالى ﴿إِنّا أَرسَلنا عَلَيهِم ريحًا صَرصَرًا في يَومِ نَحسٍ مُستَمِرٍّ﴾[القمر: ١٩] وقوله تعالى ﴿وَأَمّا عادٌ فَأُهلِكوا بِريحٍ صَرصَرٍ عاتِيَةٍ﴾[الحاقة: ٦]
وليس غريبا أن يفعل يوسف فودة ذلك وهو يلح على قضية الهوية طول الوقت.
يخاطب فوده الوطن الضائع في قصيدة “الرحيل الى الداخل” (اخرجي من غبار الردى) ويقول:
(أشعل العمر في راحتيك لقاء رغيف من الأمن أو جرعة من أمان)
ويتساءل:((من نكون؟)) وهو السؤال الرئيس، ويعلن:(ليست الخيل تجدي/ ولا سيفك النائم الآن في غمده/يكتفي برخاوته/يحتفي بطراوته/يحتمي بالصدأ/إنه الاتجاه الخطأ/هاهي الخطوات بلون الرجوع/ الخرائط باهتة / لوثت من غبار الخنوع).
تلك هي القضية المحورية عند يوسف فودة؛ المجد الضائع ، ضياع الهوية، وضياع الذات في تفاصيل الخرائط الباهتة التي لوثت من غبار الخنوع .
ثم يشير إشارة عابرة إلى الخيانة التي لعبت دورا في هذا الضياع
الخرائط تشكل الآن / حيث تشاء الأيادي الخؤون / من نكون؟
مرة أخرى سؤال المواجهة ،سؤال الهوية ,سؤال القضية برمتها…من نكون؟
في قصيدة ” السلك الشائك” وفي القسم الثاني بعنوان “الصخرة” يقول فودة:
(في أعلى الوادي تتشكل صخرة… تتشكل في هيئة ذاك الوطن المسلوب/ قال لنا المرشد: هذي الصخرة لا يمكن أن تبرح موضعها/هذا نص في العقد المكتوب).
وهي شعرية متقدة تستعر بداخلها تلك الحمى الوطنية التي تشير مرة أخرى الى الخيانة وبيع الوطن . والوطن المسلوب ليس فقط سلبا للأرض وإنما تبعه استلاب الذات / الهوية . وقبل هذا المقطع كان المقطع الثاني للقصيدة تحت عنوان “سفر” يقول فيه فودة (ألمح مئذنة في الوضع الأفقي تعلوها نجمة داوود/ يفجؤني الوجع الطيني) وهذا الوجع الطيني/الذاتي/ الوطني/ الذي يعانيه الشاعر /العاشق/ الوطني/ يقرأ تاريخ الصراع وربما يستشرف مآلات الضياع التي أفضت إلى التطبيع الكامل مع العدو/ المحتل الصهيوني الذي جعل نجمة داوود تعلو المئذنة الملقاة في وضع أفقي مخز. وعندما قفزت أفئدة تتوق الى القدس “فاجأها السلك الشائك” . وفي قصيدته “أنا” المتوقعة، فقد أسلفنا أن المسألة كلها لا تتعدى ثالوث الهوية: أنا/الحبيبة/الوطن ؛ يقول فودة تحت عنوان (حدود):
(فأنا المطلق ليس يحد حدودي حد) وتحت عنوان ” امتلاك ” يقول :
(كل هذي الأراضين لي البحار/ الرمال /التلال/الجبال/ الفضاء/ الكواكب / طيف الحبيبة لكنني لست لي) وهذه الصورة تختزل حالة الاغتراب البشعة التي تعيشها الأنا داخل الوطن ومع الحبيبة ويعيدها في قصيدة (حين دخلت دمي) قائلا (كنت قبلك لي).
ويستخدم فودة مشتقات الوطن ليعبر عن الاغتراب المفروض وبحثه الدائم عن ذاته/حبيبته/وطنه، فيقول في قصيدة “حين دخلت دمي” (وكنت أصوغ التوطن من فلوات الرحيق)، وفي قصيدة “لا تنفلتي من بين يدي” ولا تخفى الاشارة في عنوان القصيدة إلى حالة تفلت الحبيبة /الوطن يقول فودة (لا تنفلتي من بين يدي/ فأنا الوهج القادم من قيظ الترحال لأستوطن كفيك) وفي نفس القصيدة يقول:(ولأجلك رحت أدوّن هذا العشق على جدران مساجدك المسكونة بالغربة رغم توافد كل رجالات الحي).
الهوية حاضرة إذن بكل تفاصيلها الذاتية /الوطنية/ اللغوية / الإسلامية ؛ والذات ضائعة وسط ركام من هزائم ضاع فيها الوطن والحبيبة . يقول فودة في “أرذل العمر”:
(ترى أبعد ما يضيع في ربيعها ربيعنا / ومن طريقها طريقنا/ وينتهي بنا المسار للعدم/ ترى أينفع الندم)
الوطن حاضر في كل شيء في؛ حياته ومعاناته وعشقه وغزلياته وضياعه:
(أيها المارد الأولي اجتبتني الحسان لخمرهن/ فهل أصطفي خمرهن وطن؟) (قصيدة البنات)
وفي قصيدة “الليل” يقول:(فبددي خوف الضلوع من الضلوع لأنها وطن لبعض… )
وتبدأ قصيدة “عيناك السوداوان ” بجملة شارحة (عيناك السوداوان هما الجسر الواصل بيني)
في هذه الجملة تبدو هذه العلاقة الثلاثية أنا /الحبيبة/ الوطن في حالة التوحد فلا فرق بين الأنا والحبيبة والوطن إلا الفرق بين أجزاء الكيان الواحد ؛ الجسر يصل الذات بالذات وهذه الذات الضائعة تبحث عن دليل في متاهة الخريطة (من سوف يقتسم الجراح/ هنا معي/ والجرح أوسع ما يكون/ فلا الخرائط تحتويه ولا أعي) الجرح ليس جرحه وحده بل هو(جرح المدينة ألف جرح أو يزيد)( والجرح تاريخ تسطره المواجع) ولا فرق بينهما(إني هنا جرح المدينة والمدينة بعض جرحي وانهمار مدامعي)
إنها في النهاية الذات الضائعة في تفاصيل خريطة الوطن المسلوب .