هجرة الشوام إلى مصر.. موجة فكرية واقتصادية مازالت ممتدة

تميم محمود منصور | باحث ومؤرخ فلسطيني

شجع محمد علي باشا هجرة الشوام إلى مصر للاستفادة من قدراتهم، خاصة اتقانهم للغات الأجنبية، مثلاً كان أساتذة مدرسة الطب التي أنشأت عام 1827 من الفرنسيين والايطاليين، وقد أدى هذا الى الصعوبة في العمل، لأن كل فريق كان يجهل لغة الآخر، لهذا السبب لجأ محمد علي باشا إلى الشوام ليكونوا همزة وصل بين الفريقين، وللعمل معهم أيضاً في مهنة الطب .

إلى جانب الاستعانة بهم باللغات الأجنبية، ثم الاعتماد عليهم في مجالات أخرى، مثل أعمال الجمارك والترجمة وزراعة التوت، وصناعة الحرير والتجارة وكان من أشهر التجار السوريين سليم بك شديد الذي امتلك 33 ألف فدان، وحبيب باشا لطف الله.

استمرت التسهيلات أمام المهاجرين من بلاد الشام إلى مصر، فسمح لهم بتملك الأراضي وإقامة المصانع والمشروعات التجارية والمالية، إلا أن هذه التسهيلات تحولت فيما بعد إلى عقبة أمام حركة المجتمع المصري وسعيه إلى التخلص من الامتيازات الأجنبية .

ويشير المؤرخون بأن الشوام لعبوا دوراً مزدوجاً، فقد كان الأجانب بحاجة إليهم كصلة وصل مع المجتمع المصري، فقد كان هناك دوراً موكولاً إليهم في المشاريع التي وضعتها الحكومات المتعاقبة .

تضاعفت هجرة الشوام إلى مصر عند افتتاح قناة السويس سنة 1869م، في فترة حكم الخديوي إسماعيل 1854-1875م، عندها أتيحت لهم فرصاً واسعة للعمل، كما تدفقوا على مصر في الفترة التي سبقت مباشرة الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 عقب فشل الثورة العرابية .

وتعتبر هذه الفترة العصر الذهبي، من حيث العدد والنفوذ والتوزيع الجغرافي للمهاجرين، وبروزهم في كل المجالات وعلى كل المستويات. هناك مردود سلبي لمواقفهم السياسية التي كانت تنطلق حفاظاً على مصالحهم الاقتصادية، مثلاً عندما وقفت الصحافة الوطنية المصرية ضد الاحتلال البريطاني، وقفت جماعة ” صحيفة المقطم” وهما فارس نمر ويعقوب صروف إلى جانب سلطات الاحتلال البريطاني .

كانت الشركات الخاصة تزدحم بالشوام، خاصة شركة قناة السويس البنك العقاري والبنك العثماني والبنك البلجيكي وشركة السكر وشركة مصر الجديدة وشركة الترام وشركة المياه وشركة الغاز؟

كان رؤساء هذه الشركات من الأوروبيين، أما غالبية موظفيها فكانوا من الشوام، إن الغنى الفاحش الذي وصل إليه العديد من أبناء الشوام قد منحهم ألقاباً على النمط الأوروبي، كاكونت دي صعب، والكونت دي شديد، والقاباً أخرى تركية، مثل باشا وبك، ومنهم من حصل على ألقاب عربية كالأمراء من أسرة لطف الله .

كثيراً ما أثارت هذه الألقاب حفيظة الرأي العام، مع ذلك لا يمكن إنكار ما قدمه الشوام من خدمات جليلة لمصر، وخاصة في ميدان الثقافة والفنون والمسرح والصحافة، وهذا لا يمنع من القول إن بعض عناصر هذه الهجرة لعبت دوراً ضد الحركة الوطنية المصرية، فكما وجدت العناصر الوطنية أمثال: (محيي الدين الخطيب، محمد رشيد رضا، خليل مطران، داود بركات، أنطوان الجميل)، وجدت أيضاً عناصر مثل المهاجر الذي وضع نصب عينيه هدف الغنى السريع، مما يجعله أداة طيعة وعوناً للسلطة القادمة، تنفذ رغباتها، ويتزلف لها ضماناً لمصالحه وثروته، وكما عاش البعض أسير مجتمعه الخاص، انخرط البعض في الحياة السياسية، ووصل بعضهم إلى عضوية مجلس الشيوخ، كأنطوان الجميل وخليل ثابت، ودخل البعض الآخر السجون، وهم يعملون في صفوف أحزاب وطنية .

وقد أجمع الكثير من المجتهدين أن العديد من الشوام المصريين قد شاركوا بالتمهيد للثورة العرابية مثل أديب إسحاق أحد تلامذة جمال الدين الأفغاني، الذي أصدر جريدة مصر سنة 1877م، ثم انتقل إلى الإسكندرية واشترك مع سليم نقاش في إصدار جريدة التجارة سنة 1878م، وعندما تعطلت أصدر جريدة مصر القاهرة عام 1870 .

ويظهر جلياً أثر الشوام في الإسكندرية من نشأة الصحافة، فقد أسس سليم الحموي صحيفة ” كوكب الشرق” بالإسكندرية عام 1873م، وأسس سليم وشارة تقلا جريدة “الأهرام” عام 1875م، وانتقلت بعد ذلك إلى القاهرة، وما زالت حتى اليوم تتصدر الصحف المصرية، وصدرت جريدة الإسكندرية بمساهمة سليم نقاش عام 1878م، وقد أجمع الكثير من المؤرخين أن عدد الصحف التي أصدرها الشوام في مصر من سنة 1866 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية حوالي 220 صحيفة، وبرزت عدة أسماء شكلت مدارس للصحافة آنذاك منها: فاطمة اليوسف التي عُرفت باسم “روز اليوسف” وبشارة تقلا، أنطوان الجميل، جورجي زيدان، اأما ما قدمه الشوام في مصر في مجال الفنون، بعد عام 1860م، حيث كانت هناك عدة أحداث دفعت العديد من اللبنانيين والسوريين للهجرة إلى مصر، أبرزها المذابح التي وقعت عام 1860م في لبنان، وتراجع تجارة الحرير، وفرض الأحكام العرفية عقب الحرب الروسية التركية عام 1877م، هذه الموجات من المهاجرين ساهمت في إثراء الحياة الثقافية في المحروسة مصر، وكانت أولى الفرق الشامية التي هاجرت إلى مصر فرقة سليم نقاش وأديب إسحاق عام 1876م، وأحدث أبو خليل القباني تأثيراً هائلاً على المسرح، ويذكر الباحث في التراث أيمن عثمان أن الفضل الأول لتأسيس المسرح في مصر يرجع إلى الشوام، خاصة بعد أن طردت الفرق المسرحية من سوريا، إذ كانت السيدات يشتكين من أزواجهن الذين يتأخرون خارج المنزل ليلاً، وعندما كثرت الشكاوى التي وصلت إلى الوالي، عرف أن السبب يعود إلى المسارح التي أنشأها الشباب، فأصدر فتوى بتحريمها، وطردوا جميعاً من سوريا، فالتجأوا إلى مصر، وفي عام 1876م أصدر مفتى سوريا فتوى تحرم التمثيل، فوجد الشوام البيئة الخصبة للازدهار في مصر، معتمدين على تعريب المسرحيات العالمية .

عقب ثورة 1952م بدأت ظاهرة الشوام في مصر تنحسر، لكن دورهم الاقتصادي والثقافي ظل موجوداً، ومع الوقت ذابت العائلات الشامية في مصر، فلم تعد شامية بل مصرية بامتياز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى