الفَلسَفة البابليةُ تأملات بلا فَيْلَسوف

د. موج يوسف | أكاديمية وناقدة عراقية

عندما تتوارد لفظة الفلسفة بين المتلقين يعود بهم اللاوعي إلى موطنها التي انطلقتْ منه الإغريق واليونان، وتلهج الألسن بذكر فلاسفتها سقراط، افلاطون، أرسطو ومنهم من يتذكر الفارابي وابن الرشد وحديثاً هيغل وعمانوئيل .

وكلّ هؤلاء قد نَظَّروا لها بأفكارهم وثبتتْ نظَرياتهم وصارت منصةً فكريةً ذّات جدلٍ مستمر. لكن التساؤل هل هناك جذوراً قديمة لهذه الفلسفة؟ وهل لها فلاسفة مشهورين؟ هذه التساؤلات وغيرها يجيبنا عليها د. حسين الهنداوي في دراسة له بعنوان (الفلسفة البابلية) الصدارة مؤخراً عن دار المدى.

يرى د. الهنداوي إنَّ الفَلسَفة كان لها جذراً في الحضارات العراقية القديمة ، لكنَّها لم تكن وليّدةً على يدٍ شخصٍ أو منظومةٍ ، بل انبثقتْ بنفسها ككلِّ المنظورات البابلية الأخرى بهيئة تأملات عقلية أولى متصاعدة التطور عن الوجود واللاوجود، والعالمين والإلهي والطبيعي وعلاقاتهما. ويشير الباحث إلى ما يعزز ويدعم برهانه بأصالة هذه الفلسفة البابلية وكان في طليعتها ( المصادر الأساسية) 

من بين أهم المصادر التي تؤكد أصالة وجذور الفلسفة البابلية التي بقيتْ موضعَ ريب عند المؤرخين ومنهم بن خلدون الذي أطلق السؤال الحاسم ( أين هي علوم أهل بابل)؟ ويقصد العلوم الفلسفية ، فتأتي الترجمات التي نُقلتْ إلى العربية لتكون المنبع الأول لها وفي مقدمتها ما نقله الفيلسوف العراقي (أحمد بن علي المعروف بابن وحشة النبطي الكلداني) والذي ترجم مجموعة مؤلفات فكرية وعلمية منقولة عن كتب بابلية وأوّلها أسرار الفلك ، وأحكام النجوم وكتاب معرفة الحجر والفلاحة النبطية الذي نالَ شهرةً واسعةً في العصر الحديث وكذلك كتاب ( المعجم الطبي) الذي ألفه قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة عالم الطب العراقي إيسكال كين أبلي المكتوب في أربعين لوحاً طينياً والمسمى( ساكيكو) . ومن بين أولى الدراسات التي كشفت عن وجود الفلسفة عند أهل بابل بعد ألفي سنة هي دراسة المفكر الهولندي ( اوتون فان هيون) الذي سعى إلى اثبات هذه الفكرة في كتاب باللغة اللاتينية بعنوان(الفسفات الأولى) والذي حمل عنواناً أخر في الطبعة الثانية( الفلسفات البابلية والهندية والمصرية) . كذلك مؤلفات اغريقية ذكرتْ أسماء مفكرين بابليين من بلاد الرافدين هاجروا إلى بلاد الاغريق . 

تضمنتْ الدراسة الجواهر الأساسي لهذه الفلسفة والتي كانت النواة الأولى لتنطلق من باقي الفروع وأهم وأوّل هذه المضامين بحسب رأي المؤلف هي (الوجود) وقد وردت نصوص في الألواح القديمة في ملحمة (الأينوما إيليش) التي تقول إنَّ ( الماء أصل الوجود) وقد وردت حرفياً ( ومصدر الوجود تيامات الخصوب متحدين ماءً واحداً) ص60 وهذا المبدأ بحسب الدراسة يعدّ إقراراً مطلقاً بأن الماء موجود وجوداً أقدم على الوجود وعلى الآلهة وهذه أقدم محاولة كونية لتقديم تفسير فلسفي لنشأة الوجود المادي والروحي . ومن الأفكار الفلسفية الأخرى التي وردت عن المفكرين البابليين وقد ذكر الباحث لأهميتها في نظره هي إن ( الله محرك التاريخ) حيث إن الغاية الجوهرية للتاريخ الإنساني هي (غاية ميتافيزيقية) ومستمد من المبدأ القائل (من الموت تولد الحياة) وهذا أساسي في الفلسفة البابلية إلى جانب مبدأ الصراع و التناقض وبحسب رأي د. الهنداوي إن الأخير قد أسس لمفهوم الجدل الذي يعبر عن الصراع او التناقض في سيرورة التاريخ ، وهذا البعد الجدلي ، والصراع ، والثورة والتمرد قد ورد في نصوص سومرية وبابلية ولا سيما المتعلقة بأصل الوجود وهذه المضامين قد تسربتْ إلى باقي الفلسفات وتحديداً الإغريقية عند فيلسوفها بهيرة قليطس.

ومن المضامين التي وجدت ملامحها في الفلسفة الهيغلية هي الإنسان والجوهر الإلهي وقد بوبها الباحث بمسمى (فلسفة إنسانية) والتي تعني إن الإنسان لم يُخلق من جوهر إلهي محض وإنما من جوهر يتضمن الجوهر الإلهي في ارتباط معه وقد ذكرَ الباحثُ إن هذا ما ورد على إلهة الحكمة البابلي إنكي من حيث إن الإنسان يحمل مكوناً إلهياً في ذاته وهو سبب وجود الوجود أصلاً كما خطاب الإله نفسه باقي الآلهة العظام قائلاً: (سوف نضحي بأحد الآلهة ونعجن طين الإنسان بلحمه ودمه) ص67 . وهذا ما تم التعبير عنه بالمعنى الهيغلي (حيث الطلق يستخدم الجزئي التام والله يستخدم الإنسان لتحقيق أهدافه في التاريخ) .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى