فرية الإلحاد ومناهضة الفطرة والعقل

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

إلى أي ركن يأوي هؤلاء المنكرون الملحدون، بل إلى أي ملاذ من عقل يولون، وهم قد نسفوا بدعواهم كل أصل استدلالي من أصول العقل، وكل هدى دعت إليه الفطرة، وكل آية مبينة في الكون والنفس ، وقد استخدموا ما من الله عليهم به من العقل والعلم لا لتعظيم أمره والثناء عليه بما هو أهله، ولكن لجحد فضله، وإنكار وجوده.. فأنى يؤفكون؟!!

لم تعرف البشرية منذ طرأت على الكون ــ وهي آخر ما طرأ على الكون من المخلوقات ــ لم تعرف هذه اللغة المقيتة مما يسمونه (الإلحاد)، هذه الدعوة التي تتنكر لخالقها والتي ـ كما ذكرنا ـ استعملت نعمه في محاداته والترويج لكل فكرة يمكن أن يطرأ بها الكون عدا فكرة الخلق، فمن داع إلى الطبيعة ومن داع إلى الصدفة، ومن داع إلى الدهرية والقدم (تعددت الفكر والإلحاد ملة واحدة)، لم تعرف البشرية حين ندت بعقولها، ونكصت على أعقاب فطرتها، لم تعرف إلا انحراف (الشرك) عن منهج التوحيد باتخاذ أندادا من دون الله، يقرون لله بالخلق والربوبية ويدعون لهم مع الله قربى ويتقربون بهم إلى الله زلفى (تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا)..

أما أن تتردى هذه البشرية إلى مثل هذ ه المدارك من السفه ، وتسحوذ عليهم شياطين الهوى، ويصدق عليهم إبليس ظنه فيتبعوه حتى ينكروا وجود خالق للكون.. فهذا لعمر الله الأشد نكالا، والأشر مكانا، والأتعس حظا !!

نشأت هذه العقيدة الفاسدة في العصر اليوناني حين تخبط العقل فيما وراء الغيب، وحين لم يجد لنفسه هدى من الوحي أو ملاذا من الفطرة السوية فأخذ يضرب بخياله ليصنع صورة للغيب على هواه، فانقسم إلى ثلاث فرق: الوثنية وهي التي عددت الآلهة وادعت لكل فضيلة أو رذيلة إلها، والشركية وهي دين الدولة الرسمي حينها، وهناك فرقة منهم اهتدت إلى التوحيد لكنه لم يكن على غرار توحيد الوحي والشرع إنما كان اجتهاد من صنع العقل، ثلة من العباقرة كسقراط وأفلاطون وفيثاغورث الذي حاولوا ترسيخ التوحيد والتعرض لدين الدولة الرسمي بالرفض..(1)

ثم طرأ طارئ على هذه العقيدة رغم وجود ، ثم خلف هؤلاء (أبيقور) وجماعته من قبله ومن بعده وهم الذي اقترفوا فرية الإلحاد واعترضوا وجود خالق للكون ، ثم شرعوا في اختراع تصورات غيبية متعددة لفكرة خلق الكون تقبل كل هوى مخترع إلا أن تقبل بوجود إله خالق..

وقد كان من أهم عوامل فساد هذا التصور المفترى أنهم لم يقيموا دليلا أو أدلة عليه ليعتقدوه،  إنما كان مجرد رفض لكل متعلق بالغيب، وبعيدا عن مناط الحس والمدركات، وما زال ــ رغم مرور آلاف السنين ــ  لم تتفق آراؤهم على تصور منطقي للكون ينقض وجود الخالق، أو دليل علمي معتبر.

ثم توالت من بعدهم الأتباع  والأفكار كذلك لا تقوم دعواهم على ثوابت، ولا تركن إلى منطق عقلي واحد ممتد، إنما كل يضرب في عالمه المجهول والمحجوب بعقله ويدلي بدلوه ولا مستقر لهم على منطق إلا اتباع الهوى، وضرب بالظنون، وقد صدق فيهم قول القرآن “بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله” (يونس).

وإذا كان لهؤلاء بعض العذر حيث لم يبلغهم دليل قاطع من الوحي، أو أثارة من العلم الذي نجم حديثا، إلا أن صفحات الكون كانت تضج بدلائلها الباهرة القاهرة على عكس ما يدعون، أما الملحدون الجدد فلقد يحار العقل في عقولهم “أنى يصرفون”، فالوحي قد جاء من عند الله منزلا لا يمتري فيه إلا مؤفك عنه ومصروف عن صراطه، ثم العلم جاء مؤيدا للوحي وبدعة الخلق وبداية الكون ونهايته، وصدق التوحيد، وتناغم آي التنزيل مع آيات الكون، وكلها تزخر بالوحدانية فضلا عن إثبات الخالق والخلق، فكيف يزهق العقل كل هذه الأدلة ويحاول إبطالها، بل وادعاء عكس ما تثبت؟!!

يقول د. سامي عامري: “والعقيدة الإلحادية عينا تقوم على مسلمات تصديقية كثيرة تسير ضد البرهان.. ومنها:

– أن الكون أزلي أو أنه حدث بلا محدث.

– المعلومة تنشأ من الفوضى.

– النظام المبهر نشأ من العشوائية العمياء.

– الوعي نشأ من اللاوعي (من مجرد تفاعلات كيميائيات الدماغ).

– الأخلاق المدنية نشأت من طبائع الغابية الحيوانية.

– الحياة نشأت من اللاحياة . (2)

وقد كان من احتقار القرآن لمثل هذه الثلة المبطلة أن لم يلتفت لجدالها، أو يقيم لدعواها وزنا أو معتبرا، إنما جاء القرآن ليثبت لله الوحدانية، ويبطل دعاوى الشرك المفتراة، ويرد البشرية إلى أصلها الفطري التاريخي الذي كان سائدا قبل ظهور عقيدة الشرك، فيقول: “كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)”[البقرة].

أما أن يجعل القرآن لهؤلاء المنحرفين فطريا (الملاحدة) وزنا فيحاججهم أو يقارع حججهم ، أو يقيم لافتراءاتهم جدلا يفندها فيه، فهو لا يفعل ذلك، وقد جاءت كل دعاوى الرسل إلى أقوامهم ملخصة في قوله “اعبدوا الله ما لكم من إله غيره”، ولم تأت في القرآن لترد على الملحدين، لكن تضمن هذا في طيات المعاني والآيات كلها التي تدل على الكون والخلق والبداية والنهاية، تأوي كلها إلى سند العلم والعقل وتطرح كل ما سواهما .

يقول ابن عطاء الله “وإذا كان الكائن من الكائنات من هو غني بوضوحه عن إقامة الدليل (فالكون) أولى بغناه عن الدليل منها، ويقول “إلهي كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ،.. أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك؟ حتى يكون هو المظهر لك؟!!

ويقول الإمام أبو الحسن الشاذلي “ومن أعجب العجب أن تكون الكائنات موصلة إليه .. ليت شعري هل لها وجود معه حتى توصل إليه؟ أو هل لها من الوضوح ما ليس له حتى تكون هي المظهرة له؟ 

ويقول: كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف؟

أم كيف يعرف بشيء من سبق وجوده وجود كل شيء؟

“إنا لننظر إلى الله ببصائر الإيمان فيغنيها ذلك عن الدليل والبرهان “.

“وأرباب الدليل والبرهان، عموم عند أهل الشهود والعيان “.(3)

هذا هو منطق الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها، وأشد الانحراف البشري عن هذه الفطرة هي فرية الشرك التي طرأت على التوحيد، فجاء الوحي ليرد الناس إلى سيرتهم الأولى وتخليص التوحيد مما علق به، أما بدعة (الإلحاد) فهي نبتة خبيثة ما لها من قرار ، ليست انحرافا وإنما إزهاقا للفطرة ، وإهدارا لكرامة الإنسان التي كرم بها على سائر المخلوقات وهي (العقل) .. ” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)”[الإسراء].

مراجع المقالة:

– الإسلام والعقل (د. عبد الحليم محمود).

– براهين وجود الله (د. سامي عامري).

– الإسلام والعقل (د. عبد الحليم محمود).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى