بالحبر الأبيض.. سيرةٌ صحفيّةٌ (١٧) الزعيم وبديل الرئيس

علي جبار عطية| رئيس تحرير جريدة أوروك العراقية

جاء الفنان عادل إمام إلى بغداد في شباط عام ٢٠٠١ م ، وكان النظام يُحتضر ، وفُسرت زيارته على أنَّها دعمٌ للنظام برغم أنَّه دافع عن ذلك فيما بعد بأنَّه لا يدعم الأنظمة، وإنّما يدعم الشعوب العربية.

 

وقد صرح بذلك بعد نحو سنتين وأربعة أشهر حين زار الكويت فقد نشرت صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية في عددها الرقم (٨٩٥٢) الصادر يوم الاثنين الموافق ٢٠٠٣/٦/٢ م بقوله: ( إنَّه ذهب إلى العراق من أجل الشعب العراقي، ولتقديم عملٍ مسرحيٍّ ، مضيفاً : أنا لم أطلب لقاء صدام حسين ، كما لم يطلب مني ذلك، وكنتُ حريصاً أن تكون علاقتي مباشرةً مع الجمهور العراقي، مشيرا الى أنَّه رفض دخول الحرس الخاص الى المسرح ، كما رفض الصعود الى خشبة المسرح عندما حضر أبناء المسؤولين لمشاهدة مسرحية (بودي جارد) التي قدمها هناك . 

وردَّ على الصحفيين بشأن سبب زيارته للكويت بقوله: أنا مش جاي الكويت علشان أعتذر عن زيارتي للعراق، لقد قمت بزيارتي للعراق، وليس للنظام، ومفيش اي خلافات في الدنيا بين كل دولة عربية، وأخرى تمنعني من زيارة اي شعب عربي في أيًّ مكانٍ في العالم العربي .

واعترف بأنَّه ذُهل عندما شاهد المقابر الجماعية، والمجازر التي ارتكبت بحق الشعب العراقي ، لكنَّه دعا إلى المزيد من الدعم للشعب العراقي، وقال: لأنَّ العراق تاريخٌ، وحضارةٌ ضاربةٌ في عمق الزمن ، ولا يمكن أن نتركه وحده مع معاناته، وظروفه القاسية التي عاشها ، ويعيشها) . 

مع ذلك فقد علَّق بعض الظرفاء بالقول: نحتاج إلى إمامٍ عادلٍ لا إلى عادل إمام ! 

كان المتوقع أن يقدم عادل امام مسرحيته الانتقادية (الزعيم) لكنَّه آثر السلامة، فقدم مسرحية (بودي جارد) التي كتبها المؤلف الأثير لدى عادل إمام ، وأقصد: يوسف معاطي ، وأخرجها ابنه رامي إمام، وشاركه التمثيل فيها: عزت أبوعوف ، وسعيد عبد الغني ، وشيرين سيف النصر ، ونخبة من الفنانين ،  وتعد من أطول المسرحيات عرضاً ( إستمر عرضها من سنة ١٩٩٩م وحتى سنة ٢٠١٠ م)

تدور أحداث المسرحية حول سجين يدعى (أدهم) ويعقد صفقةً في السجن مع أحد رجال الأعمال الكبار في مصر، والمتهم بسرقة ٧٠٠ مليون جنيه، فيعمل حارساً شخصياً لزوجة رجل الأعمال، بعد خروجهما من السجن ، فتحبه ، وحينما يكتشف رجل الأعمال ذلك ، يقرر إعادة الحارس إلى السجن مرةً أخرى، فهي مسرحيةٌ ساخرةٌ من الطبقة الثرية التي بنت ثروتها على حساب امتصاص قوت الفقراء. 

نقل لي مَن حضر العرض في بغداد أنَّ المقاعد الأمامية للمسرح الوطني كانت محجوزةً للوزراء، وكبار المسؤولين، فهل أجبرهم صدام على الحضور؟ ربما ! 

لكنَّ المسرحية التي أود التوقف عندها قليلاً  هي مسرحية (الزعيم) لمؤلفها فاروق صبري  ومخرجها شريف عرفة، وقد عُرضت من عام ١٩٩٣ م إلى عام ١٩٩٩ م وكانت مدة العرض ثلاث ساعات و٢٢ دقيقةً ، وقد جسدها عادل إمام، ومصطفى متولي، ورجاء الجداوي ، وأحمد راتب. 

تدور أحداثها حول حاكمٍ عربيٍّ مستبدٍ، وعن مواطنٍ بسيطٍ  يشبهه تماماً يُدعى (زينهم) . وقد مرر فريق العمل شخصية الحاكم بذكاءٍ على الرقابة؛ بأن جعله يشبه الرئيس الليبي معمَّر القذافي ، مستغلاً الخلاف المصري الليبي ! 

يأمر الدكتاتور باعتقال (زينهم) ، وقبل تنفيذ الأمر يموت الحاكم ، فتقوم بطانته ـ لكي تحافظ على مغانمها ـ بتقديم (زينهم)  الذي يشبههه حاكماً بديلاً ! وفي الوقت نفسه يحصل (زينهم) على عملٍ كومبارس في السينما،  فهو من جهة زعيم دولةٍ، ومن جهةٍ أخرى كومبارس في مفارقةٍ لاذعةٍ!

في الصحافة تجد الكثير من مثل هذه المفارقات ؛ فيصطدم المحرر أو مسؤول الصفحة في الصحيفة، أو المجلة التي يعمل فيها بمستوىً متواضعٍ لكاتبٍ كان يظنه شيئاً فيتبيَّن له أنَّه ليس شيئاً مذكوراً ! ليس هذا فحسب بل يكتشف أنَّ هذا الكاتب المزعوم طفيليٌّ من الدرجة الأولى ، وأنَّ مهاراته تتجلى في أخذ الامتيازات التي لا تتناسب مع ضحالة ما يقدمه من جهدٍ بسيط ، وأنَّ هناك منْ يكتب له ، أو يعدِّل كتاباته تعديلاً جوهرياً، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ! 

ولأنَّ الحديث ذو مسرحٍ  فقد ذهبتُ ، والصديق صميم حسب الله (دكتوراه في الاخراج المسرحي، وأطروحته عن (علامات العنف الرمزي في عروض المسرح العراقي/جامعة بغداد /أكاديمية الفنون الجميلة /٢٠١٦ م) إلى مسرح الرشيد مساء الخميس الموافق ٢٠٠٣/٦/٥ م. 

رأينا صندوقاً وضعه الفنان سامي قفطان يدعو الجمهور إلى التبرع بالمال المتيسر دعماً للمسرح ، وعلى مقربةٍ منه رُفعت لافتةٌ كُتب فيها ( هنا سكن الفنان محمد مطر) وقد فتح كشكاً فيه تلفزيون أبيض وأسود يبث رقصاتٍ مسجلةٍ من قرصٍ مدمجٍ ، ويبيع  المشروبات الغازية ، والنستلات ، وكان طفلٌ من أطفال الفنان محمد مطر يسوق دراجةً من ثلاث عجلات ! 

كانت هذه بدايةٌ غير مشجعة لحضور مسرحية ، ونبوءة لما يحصل لاحقاً ، وكان جزء من المسرح إتُخذ مقراً للسكن ، وباباً من أبواب الرزق ! 

كنّا على موعدٍ لحضور عرضٍ مسرحيٍّ مؤسفٍ عنوانه (ليطع الشيطان) مستوحى من مسرحية (عطيل) لشكسبير  تقدمه فرقة تدعى (مردوخ) يجسده ممثلون يهتمون بلغة الجسد منهم  :علي طالب ، ورائد كاظم. 

وعلى مدى ساعةٍ غرقنا في حركاتٍ أجسادٍ ، وموسيقى غربية، وضاع الداس يا عباس !

قُطع التيار الكهربائي قبل ثلث ساعة من انتهاء العرض الذي سألني عنه صميم حسب الله فأجبته : الحمد لله على السلامة !

كنتُ أتوقع عرضاً يرمم شيئاً من الخراب في العقول ، والأفئدة، والأفكار فإذا بعرض يعيدنا إلى العصور البدائية، وتعاطي الانسان في فجر البشرية مع الأحداث، وتوجد نظائرٌ لهذا التعاطي في رقصات القبائل المنعزلة في أحراش أفريقيا ، وليحيا الجوبي ! 

ما أزعجني حقاً هو: أنَّ ذائقتي تربت على أنَّ المسرح كلمةٌ، وموقفٌ، فإذا بمثل هذه العروض التجريبية تطيح بكل ثقافتي المسرحية التقليدية! 

لكن دعونا من العروض التي تسبب الصداع في القدم قبل الرأس، وتعالوا إلى هذا العرض الهزلي الحقيقي الذي له علاقة بمسرحية (الزعيم) فقد التقيتُ يوم الاثنين الموافق ٢٠٠٣/٦/٩م الدكتور مسلم الأسدي في جريدة (التآخي) وهو  طبيبٌ عراقيّ كان مقيماً في إيران وقد فجر قنبلةً إعلاميةً قبل ثلاثة أشهر ( أي في شهر آذار من سنة ٢٠٠٣ م)، حين ظهر في قناة (سحر) الإيرانية، وقال بلهجةٍ واثقةٍ : إنَّ الرئيس العراقي مات منذ عام ١٩٩٩م !! 

انفردتُ بالدكتور مسلم الأسدي بعد انتهائه من الحديث مع الزميل هشام بدران (شامل حمد الله). 

قال الأسدي مُعيداً فرضيته عليَّ ، بعد أن طالبته بمزيدٍ من التوضيح : إنَّ صدام حسين كشخصٍ مات منذ سنة ١٩٩٩م ، وظلت سلطته قائمةً بفضل (البديل). 

سألته عن دليلٍ علمي مقنعٍ فقال: أنا طبيبٌ متخصصٌ، وأعرف الفرق بين صدام الأصلي، وصدام البديل، فصدام الحقيقي يختلف عن بديله حتى في ضحكته ؛ فصدام بشعٌ لا يضحك وبديله يضحك حسب الطلب ! 

وبشأن أسلوب صدام في الكلام ، ولي عنق الجمل ، والاصرار على التعبير غير الواضح ، يقول الأسدي  :إنَّ هذه كلها يُدرب عليها البديل حتى نبرة الصوت. 

ويستند الأسدي في مدعاه إلى كتاب (شبيه صدام) لـ(ميخائيل رمضان) (واسمه الحقيقي مخلف رمضان) الذي يقول في نهايته إنه ترك صدام وهو على فراش المرض ، وبقربه بديل اسمه جاسم العلي ! 

سألته عن روايات صدام (زبيبة والملك) ، و(القلعة الحصينة) ، و(أخرج أيها الملعون)؟ 

فقال: هذه الروايات جاءت تدعيماً للسلطة، ورداً على كتب الشبيه . 

أضاف: في نهاية رواية (زبيبة والملك) يموت الملك.. لقد وصل الأمر ببعض الناس إلى دفع مبلغ إلى أحد الحمايات لمقابلة صدام ! 

قلتُ له :لكنَّ (الرئيس) ظهر في منطقة الأعظمية يوم التاسع من نيسان ٢٠٠٣ م ؟ 

ردَّ عليَّ : الظاهر أنَّ مرافقه عبد حمود أوعز إلى البديل ليظهر في الأعظمية ليرفع معنويات البعثيين ! 

ثمَّ قال: سأقول لك شيئاً غريباً: توجد في  القصر الرئاسي مجموعة من السحرة يوحون لمن يدخل القصر أنَّ الذي يراه هو صدام في حين هو يرى البديل ! 

قلتُ له: هل رأيت المقابلة الصحفية التي أجراها الصحفي دان راذر قبيل حرب تحرير العراق ؟ 

قال : نعم. وكان البديل مدرباً عليها ! 

وأضاف: لقد أبلغتُ الأمريكان بكل استنتاجاتي التي توصلتُ إليها، ولم يأخذوها على محمل الجد، وتركوا الأمور على ما هي عليه لتستمر المطاردة ! 

ذكرتني حكاية استنتاجات الدكتور مسلم الأسدي بحكاية ذلك الرجل الذي سلم على أحد معارفه في الطريق قائلاً  : أنت على قيد الحياة ، لقد أخبرني رجلٌ ثقة بأنَّك متَ ! 

ردَّ عليه الشخص : لكنَّني أمامك حيٍّ أرزق ! 

علق الرجل: لكنَّ الذي أخبرني رجلٌ ثقةٌ. 

( السيرةُ مستمرةٌ ، شكراً لمن صبر معي.. يتبع) 

شروح صور 

١. عادل إمام في مطار بغداد وفي استقباله حميد سعيد ، وداود القيسي في شباط سنة ٢٠٠١ م 

٢. عادل إمام في الكويت في حزيران سنة ٢٠٠٣ مع الفنانين عبد الحسين عبد الرضا ، وخالد النفيسي. 

٣. الدكتور صميم حسب الله 

٤. عليّ جبّار عطيّة 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى