كنه الحقيقة (قصة قصيرة )

مريم أديب كريم | لبنان

تململت الأوراق من تحت يدين لا تشي حرارتهما إلَّا بهديرٍ صاخبٍ يعتمل الذَّات. وعلى غفلة من سيل المشاعر الهائجة، تملَّص القلمُ من مسؤوليَّاته متذرَّعًا بنفاذ طاقته. اضطربت حواسي وكأنَّ قوى خارقةً لجمت كباح الحاجة الملحَّة لإفراغ من في الجبَّة، فوجدتُني أحدِّق في العبارة الأخيرة التي خطَّتها أنامل روحي قبل الأصابع: قلوبنا الطريَّة هذه لا تليق بهذا العالم المتحجِّر، وهذا العالم لا يليق بها!

   وعلى حين غرَّةٍ من إدراكي، قادتني قدماي ناح السَّرير وقذفتني سحابةٌ ملبَّدة من أحاسيس رماديَّة الطِّباع، فألِفتُني مرميًّةً بثقلي على وسادتي الحنون، تتجاذبني أطرافها وكأنَّها تريد التهام ما فاض من أمتعة دماغي، مخفِّفة بسعيها وطأة الازدحام، مشبعةً كذلك تطفُّلها المعهود وغَيرتها المدفوعة بوفاء العِشرة.

   تواترت أمامي ناظري المشوَّش تلك الثَّواني بكل تفاصيلها المكتظَّة؛ كيف أنَّي اشتريت صينيَّة صغيرةً من الحلوى المفضَّلة لديَّ والعين تتراقص سعادةً، وكأنَّ زادي هذا يضاهي الكون بكل إغراءاته وصفقاته المربحة. حالةٌ شبيهةٌ بحالة طفلٍ يتضوَّر جوعًا، وإذ به يرى قنِّينة الحليب متَّجهةً ناح فمه. أحسست أنَّ الكون بضخامته المرعبة قد اختزِل في علبةٍ تكاد تتعدَّى حجم راحة اليد بقليل. 

   تستلذُّ المخلوقات بالطَّعام، إنَّها غريزة البقاء، تلك المطعَّمة بهروبٍ روتينيٍّ نعيشه في كلِّ آنٍ وفي كلِّ زاويةٍ من زوايا لا وعينا، هروب الحياة من فم الموت والخيال من سطوة الواقع، هروب الذَّات من الذَّات ومن الحقيقة المبهمة المركونة في بقعةٍ خفيَّةٍ، تبدِّل ألوانها وأشكالها، أو أنَّها بلون اللَّالون وشكل العدم، تعي كيف تلاعبُ زوَّارها وتنتشي بالحيرة المطبوعة على جبين الدَّهر. 

    النَّاس من حولي لاهثون أمام صفِّ الحلويَّات، والاستذواق اللَّحظويُّ، صاحب الخطاب الفصل، يمتدُّ لاختيار الأصناف. “كم نحن سعداء وكم نحن بلهاء!”، ومضت هذه الفكرة في رأسي، شعرت بأّنَّها جزءٌ من تلك الحقيقة الغائبة، أجل، كم نحن سعداء بهروبنا هذا! نتمسَّك بأسمال المغريات، معلَّقين وسط عنق زجاجة التَّفاصيل الخارجة عن نطاق تأمُّلاتنا، طالبين خلود اللَّحظة علَّنا نحظى بذاك البقاء السَّرمديّ.

   ركنت صينيَّة الحلوى على المقعد الخلفيِّ من السَّيَّارة، ركنة المتقزِّر النَّافر؛ كلُّ ذاك المدى الذي كان منبطحًا أمامي انطوى على ذاته مبتلعًا كلَّها. لا أبصر سوى كائنات بشرِّيَّةٍ تسير على قدمين، تلتصق بالأرض بفعل الجاذبَّية، كائناتٍ برؤوس تتحاشى النَّظر ناح أغوار ذاك البعيد، حيث المجهول يتلهَّى بخوف هذه الأفراد الضَّعيفة. “لا، لسنا ضعفاء نحن! نحن حالمون، والحالم قطعة من الإله على هذه الأرض! نحن نتنفَّس! أجل، ونفكِّر! ههههه كم نحن حمقى وكم نحن أذكياء! “، حدَّثت نفسي وهممت بالانطلاق لأعود إلى جحري. 

    سقطت صينيَّة الحلوى من على سلَّم الاغراءات، وبقيت هناك ابتسامةٌ بطعم الحلوى، مرسومة على وجه المقعد الأسود لسيَّارتي؛ ربَّما كان يعي ذاك الجامد كنه الحقيقة! ومن يدري؟! ربَّما علينا نحن البشر أن نقوم بعمليَّة كشطٍ تطيح بما على بلاط الذَّاكرة من حلويات نتمسك بأسمالها؛ فقد تبدو الصُّورة عندها أكثر جلاءً!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى