يوميات فلسطيني في بلاد العم سام (3)

جميل السلحوت  القدس العربية المحتلة | عاصمة فلسطين

في المسرح

           مساء السّبت ١٣ حزيران ٢٠١٥، اصطحبنا ابن العمّ وزوجته جويس إلى مسرح قديم صغير، لحضور مسرحيّة جميلة استغرق عرضها ساعتين ونصف، وسبق لجويس وابن العمّ  قبل أربع سنوات أن اصطحبانا أنا وابني الحبيب قيس وابنتي الحبيبة لمى لحضور عرض “أوبرا” في مدينة سانتفييه في ولاية نيو مكسيكو الأمريكيّة،  وذاك هو عرض الأوبريت الوحيد الذي شاهدته في حياتي. وجويس زوجة ابن العمّ مثقّفة تطالع كثيرا، لم تجد مكانا شاغرا في المسارح الكبيرة؛ لتحجز لنا فيه أثناء رحلتنا القصيرة إلى هيوستن، والتي تستغرق أسبوعا واحدا فقط، في هذا المسرح القديم الصّغير والذي لا يتّسع لأكثر من ماية وعشرين شخصا أمور لافتة، ثلاث قاعات للحضور تحيط بخشبة المسرح من جهات ثلاثة، ولخشبة المسرح ثلاث شاشات تفتح وتغلق في آن واحد، غرفة “الكواليس” من خلف الخشبة في الجهة الرّابعة لا يتعدّى عرضها المتر، وهي مكشوفة للجمهور. وقد أذهلتني المسرحيّة باخراجها وإضاءتها، وديكوراتها، والسّرعة الهائلة في تغيير الدّيكورات، وانتقال الممثّلين من مشهد إلى آخر وتغيير ملابسهم، ولهذا المسرح ممرّان لدخول قاعات العرض فيهما غرف صغيرة، يستعملها الممثّلون لاستبدال الملابس ووضع متطلبات الدّيكور. وهذه المسرحيّة شارك فيها أكثر من خمس عشرة ممثلة وممثلا.

جاء في المنشور الذي يوزّعه المسرح عن المسرحيّة: “هذه المسرحيّة مموّلة من رجل الأعمال…..لعرضها كلّ مساء في هذا المسرح لمدّة عامين.”

محاضرة

           مساء الأحد ١٤ ـ ٦ـ ٢٠١٥ كان موعدنا في إحدى قاعات مطعم فادي لالقاء محاضرة عن معاناة القدس الأسيرة، تلبية لدعوة من المجلس الثّقافي الفلسطيني الأمريكيّ، وهذا المطعم العربيّ الذي يملكه الّلبنانيّ فادي خليفة الذي يفاخر بقرابته بالفنّان الشّهير مارسيل خليفة، ويفاخر بأنّ أصولهم من اليمن، هاجر جدّهم الأوّل إلى لبنان، وتنصّر أحفاده هناك. ومطعمه هذا واسع، فيه عدّة قاعات، يغصّ بالزّبائن الذين يصطفّون على الدّور لكثرتهم، ولا يقدّم سوى المأكولات العربيّة التي يتقن طبّاخوه اعدادها وطبخها. للمطعم موقف واسع للسّيارات، ونظرا لنجاح هذا المطعم، فقد افتتح ثلاثة فروع في هيوستن، وثلاثة أخرى في مدينة دالاس التي تبعد عن هيوستن مسافة ساعتين سفرا بالسّيّارة.

          كان الحضور الذي شارك فيه العشرات مميّزا، ومنهم عبلة الأمين، محمّد موسى السلحوت، ايمان الفارس، عباس يعقوبي، بكر ماضي، قاسم قاسم، حكم قاضي، د.سمير توما وآخرون، تكلّمت في المحاضرة عن المدينة المقدّسة، منذ وقوعها تحت الاحتلال الاسرائيليّ في حرب حزيران ١٩٦٧، وما تبع ذلك من هدم لحارتي الشّرف والمغاربة، ومسح ألف واثني عشر بناء تاريخيّا عن الوجود، تمّ تشريد مالكيها الذين يبلغ عددهم ستّة آلاف نسمة، هدمت  بما فيها من مدارس ومساجد ومعالم تاريخيّة تشكّل ارثا للحضارة الانسانيّة، لبناء حيّ استيطاني يهوديّ مكانها، كما تحدّثت عن تهويد المدينة الذي لم يتوقف يوما منذ احتلالها، وما صاحب ذلك من حفريات استلّت أحشاء مدينة التّعدّديّة الثقافيّة التي أقلّ ما يقال عنها أنّها جنّة السّماوات والأرض، تطرّقت إلى تهويد الجهاز الصّحيّ والتّعليميّ واغلاق المدينة أمام مواطنيها الفالسطينيّين منذ نهاية آذار ١٩٩٣، والذي اكتمل عام ٢٠٠٧ بجدار التّوسّع الاحتلاليّ الذي ابتلع ٦٪ من مساحة الضّفّة الغربيّة. وانتهاك الحرّيات الدّينيّة المتمثّل بمنع المصلّين من بقية الأراضي المحتلّة للوصول إلى دور العبادة، وفي مقدّمتها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة لآداء الصّلوات. وتحدّثت باسهاب عمّا يتعرّض له المسجد الأقصى من اعتداءات مستمرّة تهدف إلى تقسيمه، أو هدمه بالكامل لبناء الهيكل المزعوم مكانه. وتحدّثت عن سرقة تاريخ المدينة وثقافتها العربيّة ومحاولة تزييفها، كما تحدّثت عن معاناة المؤسّسات الثقافيّة وأزماتها الماليّة.

       لفت انتباهي اهتمام أبناء الجالية الفلسطينيّة والعربيّة بالقدس الشّريف خاصّة، وبالقضيّة الفلسطينيّة بشكل عامّ…ممّا أدخل الفرحة إلى قلبي.

مركز هيوستن الطّبّي

         يوم الاثنين ١٥ ـ ٦ـ ٢٠١٥ اصطحبنا ابن العمّ محمّد موسى السّلحوت في جولة في مركز مدينة هيوستن حيث ناطحات السّحاب، وجال بنا في مركز هيوستن الطّبّيّ، أكبر مركز طبّي في العالم، والذي يعمل فيه مائة وعشرون ألف شخص، وهو الآخر مدينة بحدّ ذاته، فيه عشرات المستشفيات والمختبرات وغيرها، وفيه فندق ينزل به المرضى الذين يؤمّون المستشفى طلبا للعلاج، ويتمّ أخذ الفحوصات منهم داخل غرفهم في الفندق؛ لتشخيص حالاتهم المرضيّة قبل أن يناموا في المستشفى، والّلافت أنّ لهذه المستشفيات فروع أخرى في ضواحي هيوستن لتخفيف الضّغط عليها، مررنا بالبناية التي يزيّن سطحها القرميد الأحمر، والتي توفّي في أحد غرفها الشّاعر الفلسطينيّ الكونيّ محمود درويش…لم نحاول دخول البناية لكنّنا ترحمنا على شاعرنا العظيم.

متحف الأطفال

               انتقلنا لزيارة “متحف الأطفال” في هيوستن كنت معنيّا بزيارة هذا المتحف، لرؤية ما بداخله، وهو متحف حديث لا يتجاوز عمره السّنوات العشرة. ويوجد شبيه له في المدن الأمريكيّة الكبرى مثل نيويورك، واشنطن، لوس أنجلوس وشيكاغو، ولا أعلم إن كان له شبيه خارج أمريكا، وهذا المتحف يحوي في جنباته وبطريقة منظّمة مختلف الألعاب التي يمكن للأطفال أن يلهوا بها. وفيه جناح يعرض لهم ما يمكن أن يكونوه عندما يكبرون، فمثلا هناك مكتب لبنك أمريكا فيه موظّفات حسناوات يجبن على أسئلة الأطفال فيما يتعلق بالبنوك وعملها، وفيه قسم للحاسوب، وقسم للبقّالات الكبيرة”السوبر ماركت” وفيه مجسّم لسيّارة شرطة، ومختبر طبّيَ وغير ذلك، وفيه قاعة مسرح وعرض سينمائيّ، حضرنا فيها عرضا مسرحيّا رائعا للأطفال…أذهلني فيه تفاعل الأطفال مع الممثّلين.

جامعة هيوستن

         كما زرنا جامعة هيوستن وهي الأخرى مدينة قائمة بذاتها…دار بنا ابن العمّ في جنبات الجامعة، ومررنا بكلّيّة الهندسة الكهربائيّة حيث درس، وفي هذه الجامعة درس أخي احمد الصّيدلة أيضا. كما دار بنا إلى البيت الذي سكنه هو وأخي أحمد عندما كانوا طالبين في الجامعة.

عواصف ماطرة

             تساقط الأمطار في هيوستن صيفا ظاهرة طبيعيّة مألوفة، أمطار دافئة تنزل بشكل مفاجئ، لكنّ المخيف هو العواصف الماطرة التي تحذّر منها دائرة الأرصاد الجوّيّة، والدّفاع المدنيّ، فهي تحمل أمطارا غير متوقّعة…تغرق الشّوارع في دقائق معدودة…تأتي الغيوم السّوداء المحمّلة بالأمطار وتلقي بحمولتها كما فيضان الأنهار، ورغم البنية التّحتيّة المتقنة، واتّساع المجاري، إلا أنّها لا تستوعب غزارة وكمّيّات الأمطار الكبيرة… وفي هيوستن قنوات مائيّة ضخمة، عرض الواحدة منها  يزيد على المئة متر، وعمقها يزيد عن السبعين مترا…تخترق المدينة من غربها إلى شرقها…عندما تغزو العواصف الماطرة المدينة فإنّ هذه القنوات قد تفيض أيضا لعدم قدرتها على استيعاب هذه الأمطار…أمّا العواصف المدمّرة فتصاحبها رياح وأمطار عاتية، سرعة الرّياح قد  تتجاوز المئة وعشرين ميلا في السّاعة، وهي قادرة على اقتلاع الأشجار وحتى بعض البيوت، وقد تحمل السّيارات وتسوقها معها…وتدمّر خطوط الماء والكهرباء والهاتف….الأرصاد الجوّية الأمريكيّة ترصد العواصف قبل وصولها للأماكن المأهولة بأيّام، وتحذّر المواطنين منها.

      قبل وصولنا هيوستن بحوالي ثلاثة أسابيع ضربت عاصفة ماطرة المدينة، أوقعت خسائر بشريّة ومادّيّة، وتسبّبت بقطع الماء والكهرباء والهواتف عن حارات بكاملها، لكن استعدادات السّلطات المحليّة كبيرة، فهي تعيد اصلاح ما دمّر بسرعة فائقة.

          مساء الاثنين ١٥ ـ حزيران أعلنت وسائل الاعلام عن عاصفة ماطرة ستضرب هيوستن خلال الاربع وعشرين ساعة القادمة…فاتّخذ ابن العمّ محمّد موسى اجراءاته الاحتياطيّة بتموين يكفي لأسبوع…واصطحبنا إلى مطعم فاخر لتناول العشاء قبل وصول العاصفة…كان النّاس يصطفّون في محلّات السوبرماركت والمخابز؛ ليحتاطوا على مؤونة تكفيهم حتى انقشاع العاصفة….التزموا بيوتهم وكادت الشّوارع تكون خالية، تساقطت أمطار عاديّة تلك الليلة ونهار اليوم التّالي..أمضيت يومي أنا وزوجتي في القراءة والكتابة، كانت فرصة لي كي أواصل الكتابة عن انطباعاتي عمّا شاهدته في هيوستن، وكتابة أشياء أخرى. كان ابن العمّ قلقا علينا ودائم السّؤال عنّا…في المساء أعدّ لنا هو وزوجته وجبة شواء في بيته. بعدها أعلنت دائرة الأرصاد الجوّيّة والسّلطات المحليّة أنّ العاصفة انحرفت إلى ضواحي هيوستن…وأنّها لن تضرب المدينة…محطّات التّلفزة واصلت بثّها تغطّي الأماكن التي ضربتها العاصفة، وما ينتج عنها من أضرار. فهل جاء انحراف العاصفة عن مسارها استجابة لدعوات ابن العمّ الذي ردّد كثيرا: “الله لا يورّيكم إيّاها”؟

   في المركز العربيّ في هيوستن

           يوم الخميس ١٨ حزيران ٢٠١٥ زرنا بصحبة ابن العمّ مركز الجالية العربيّة في هيوستن وهو الأكبر من نوعه في أمريكا، افتتح في نيسان ـابريل ـ ٢٠٠١…بناؤه من طابقين مساحة الواحد منها حوإلى ٨٠٠ متر مربّع… في الطّابق الأوّل صالة مرفوعة فيها أعلام الدّول العربيّة، على يمينها صالة اجتماعات، وعلى يسارها صالة الضّيوف التي تتصدّرها لوحات نحاسيّة تحمل أسماء المؤسّسين، ولوحات تحمل أسماء أعضاء الهيئة الاداريّة، ومن ضمنهم ابن العمّ محمّد موسى السّلحوت، أحد المؤسّسين الرئيسيّين، ورئيس أوّل هيئة إداريّة للمركز. وهو صاحب فكرة انشاء المركز، وهناك مكاتب للسّكرتاريا، حيث تداوم شابّة مصريّة كما يتّضح من لهجتها.

         في الصّدارة قاعة واسعة تحمل اسم رجل الأعمال الفلسطينيّ ابن قرية بيت عور قضاء رام الله الملياردير فاروق الشّامي، الذي يتنقل في أمريكا بطائرة خاصّة، ويملك مصنعا لموادّ التّجميل يصدّر إلى ١٣٢ دولة. ويتمّ تأجير القاعة لأبناء الجالية العربيّة في المناسبات المختلفة، كالأفراح والمآتم واللقاءات والمحاضرات والاحتفالات بالمناسبات الوطنيّة المختلفة، في الطّابق الثّاني غرف صفّيّة لتعليم اللغة العربيّة للأطفال وللكبار يومي السّبت والأحد من كلّ أسبوع، يرتادها العرب من مختلف أرجاء المدينة…كما فيه غرفة كمبيوتر لتعليم الأطفال والكبار أيضا…يحيط ببناء المركز أرض مساحتها ٤٥ دونما”١٠ هكتار” قرب البناء حديقة للأطفال فيها مراجيح مختلفة… في الأرض أكثر من ثلاثة ملاعب لكرة القدم…يتمّ تأجيرها أيضا، وغالبا ما يستأجرها مهاجرون مكسيكيون.  يحيط بالمركز سور جميل…له مدخل…وشارع معبّد حتى باب البناء، وموقف للسّيّارات.

مطاعم هيوستن

         يحرص ابن العمّ وزوجته الرّائعة جويس، أن نرى ما يسمح به وقتنا من معالم حضاريّة في هيوستن…وهما يغمراننا بكرمهما الذي يعجز القلم عن وصفه، ومن هذا الكرم حرصهما أن نتناول طعام الفطور والعشاء في مطاعم هيوستن الرّاقية والمختلفة، لنتذوّق طعام مختلف الشّعوب التي تنتشر في المدن الأمريكيّة، وكما هو معروف أنّ لمختلف الشّعوب والأمم أطباق طعامهم المختلفة التي تتناسب مع أذواقهم، وقد تناولنا طعامنا في مطاعم عربيّة، ايطاليّة، أمريكيّة، مكسيكيّة، أرجنتينيّة، صينيّة، وهناك مطاعم خاصّة بجنوب الولايات المتّحدة الأمريكيّة، مثل مطاعم تكساس الولاية التي توجد فيها مدينة هيوستن حيث نقيم…وتتميّز المطاعم الفخمة الرّاقية بأنّ روادها من الأثرياء، يظهر ثراؤهم من خلال السّيّارات الفاخرة التي يملكونها، ومن خلال الملابس الفاخرة أيضا التي تظهر جمال نسائهم وطريقتهن اللافتة في وضع موادّ الزّينة، وخدمة الزّبائن الزّائدة… وقد لاحظت أنّ ابن العمّ وزوجته معروفان من نوادل المطاعم وإداراتها؛ لكثرة تردّدهم عليها. ومن المطاعم التي تناولنا عشاءنا فيها مطعم راق للشّواء…يحرص مالكوه أن يتّخذ مقرّه طابع حياة رعاة البقر الأمريكان، وهو معروف على مستوى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، يفاخر مالكوه أنّهم يقيمون حفلات شواء في البيت الأبيض بناء على طلب رؤساء أمريكيّين، وأنّ اليزابيث ملكة بريطانيا قد استدعت طاقما من طبّاخي هذا المطعم؛ لعمل شواء في أحد قصور الملكة في إحدى مناسباتها الاحتفاليّة.

        يلاحظ أنّ هناك مطاعم تقدّم وجبتي الفطور والغداء فقط، وتغلق أبوابها في الثّالثة بعد الظهر، ومساء أمس احتسيت وابن العمّ قهوة ما بعد العشاء في مقهى معلق على مدخله الدّاخليّ منجل حصاد وعدّة الحراثة على الدّواب، وضمّة سنابل قمح جافّة. 

     أثناء خروجنا من أحد المطاعم في اليوم الثّاني لوصولنا هيوستن، أشارت لنا جويس زوجة ابن العمّ إلى سوبرماركت ضخم وقالت:

 هذا كان مكتبة ضخمة قبل عدّة سنوات، لكنّ ابن العمّ أشار في المركز التّجاريّ المجاور لمكان اقامتنا إلى مكتبة ضخمة أيضا.

الليلة الأخيرة في هيوستن

       مساء يوم الخميس 18 حزيران 2015 هذه هي ليلتنا الأخيرة في هيوستن، حيث سنغادرها إلى شيكاغو، ابن العمّ وزوجته الانسانة الرّائعة جويس، عملا حفل عشاء وداعيّا على شرفنا أنا وزوجتي، دعا إليه عددا من أصدقائه المقرّبين وهم: الدّكتور جورج الحاجّ من حيفا وزوجته الألمانيّة،” الدّكتور ميشيل كردوش من النّاصرة وزوجته المصرية هدى، رجل الأعمال عماد صقر وشقيقه الدّكتور رزق صقر رئيس جمعيّة الأطبّاء العرب الأمريكيين، وهما فلسطينيّان لاجئان ولدا في مخيّم عقبة جبر قرب مدينة أريحا.

       تسامرنا وإيّاهم أكثر من ثلاث ساعات…ضحكنا…تناقشنا وتبادلنا الرّأي حول تطوّرات القضيّة الفلسطينيّة، وما يجري في العالم العربيّ من خراب ودمار…ورغم بعدهم عن أرض الوطن وسنوات الغربة الطّويلة التي عاشوها في الغربة، فالدّكتور جورج الحاجّ غادر الوطن عام 1952 إلّا أنّهم يحملون هموم وطنهم وشعبهم وأمّتهم…ويعبّرون عن حزنهم بسبب الانشقاق على السّاحتين الفلسطينيّة والعربيّة.

          ودّعنا جويس زوجة ابن العمّ التي احتضنتنا بعاطفة أخويّة صادقة، فمن يعرف هذه المرأة لا يتمنّى فراقها لرقّتها وطيبتها وصدق تعاملها…وهي لا تتصنّع ذلك بل هي مفطورة عليه… يظهر ذلك على تعابير وجهها السّموح…حمّلتنا تحيّاتها لابننا قيس وزوجته وطفلته الأمّورة لينا، ولشقشقينا داود وراتب وزوجتيهما وأبنائهما في شيكاغو، ولجميع أفراد العائلة في الوطن الذّبيح.

         صباح اليوم التّالي أوصلنا ابن العمّ إلى مطار هيوستن…شكرناه بعمق على حسن الضّيافة والكياسة الّتي يتحلّى بها، والحفاوة البالغة التي أحاطنا بها. وهذا ليس غريبا عليه، حقّا إن الكلمات تعجز عن شكره هو وزوجته.

        كان الفراق صعبا علينا…لكنّها ضرورات الحياة التي شتّتنا، وابن العمّ هذا الذي غادرنا شابا يافعا في بداية العام الدّراسي عام 1962 للعمل كمدرّس في السّعودية…كنت وقتها طفلا لا أتجاوز الثّانية عشرة من عمري…التقيته في هيوستن عام 1984، كان لا يزال في بداية حياته العمليّة، والتقيته في لاس فيجاس عام 1999، والتقيته في سنتافييه في نيو مكسيكو ثلاث مرّات منذ العام 2006، واحدة منها كان بصحبتي شقيقي الغالي داود، وابن العمّ محمّد اسماعيل السلحوت، ومرّة كان بصحبتي ابني الحبيب قيس، وابنتي الحبيبة لمى، وها نحن نلتقي في صيف هذا العام وقد احتلّ الشّيب شعرنا…وابن العمّ قد حقّق طموحاته بجدّ واجتهاد…ولا يزال بكامل قوّته وعنفوانه ووسامته المعهودة…وكلّما التقيته أكتشف فيه صفات حميدة جديدة…فأمنياتنا له ولزوجته بالصّحّة والسّعادة وطول العمر…وقد لاحظت أنّ ابن العمّ المشهود له بالذّكاء محبوب وسط الجالية العربيّة، بل هو واحد من رموزها…تماما مثلما هو محبوب من معارفه الأمريكان وهم في غالبيّتهم من النّخبة العلميّة والاقتصاديّة…لكن الحبّ الأكبر له هو ما تختزنه قلوب عائلته في الوطن.

الطّبيعة في أمريكا

             هذه هي المرّة الثّالثة والعشرون التي أزور فيها أمريكا، وفي كلّ مرّة أكتشف أشياء جديدة، أو تتاح لي الفرصة لمشاهدة أشياء جديدة، ولا عجب في ذلك، فأمريكا امبراطوريّة خرافيّة، متقدّمة علميّا، صناعيّا، زراعيّا عمرانيّا حضاريّا وعسكريّا…الخ. وهي تسيطر على اقتصاديّات العالم بقوّتها العلميّة والعسكريّة، لكنّ هذه الامبراطوريّة سبب تعاستنا وشقائنا كفلسطسينيّين وعرب، فهي تدعم اسرائيل لترسيخ احتلالها لأرضنا، ومنع شعبنا من حقّه في تقرير مصيره واقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشّريف. وهي من تسيطر على منابع البترول العربيّ، ومن دمّرت العراق العظيم واحتلته في العام  2003 وقتلت أكثر من مليون مدنيّ عراقيّ، وهي من تموّل وتسلّح وتدرّب جماعات القتل والارهاب والتدمير من المتأسلمين الجدد في سوريا والعراق وليبيا وغيرها عن طريق وكلائها في المنطقة؛ لتطبيق مشروعها “الشّرق الأوسط الجديد” لاعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة متناحرة.

 ما علينا فنحن لسنا في مجال الحديث عن السّياسة.

       يلاحظ أنّ أمريكا التي تحرث الكرة الأرضيّة بقرنها العسكريّ، وقرنها الاقتصاديّ الهائل، فإنّها أيضا تعمل على بناء امبراطوريّتها الدّاخليّة أيضا…فالمدن والقرى الأمريكيّة منظّمة بشكل لافت، فهناك شوارع طولها مئات الكيلو مترات في المدن الكبرى تسير بخطّ مستقيم، لا ينزاح سنتيمتر واحد، وهناك الجسور التي يصل طولها إلى مئات الكيلومترات أيضا، وبعضها من طبقات، جسور فوق جسور أخرى، الشّوارع الواسعة التي يفصل بين اتّجاهيها جزر مزروعة بالورود وأشجار الزّينة…الحدائق العامّة التي تتوسّط المدن، وكلّ واحدة منها تقوم على مئات الدّونمات…الأشجار المعمّرة من بقايا الغابات….الغابات الصّغيرة حيث تعيش أعداد من الظّباء والأرانب وحيوانات أخرى دون أن يمسّها أو يعكّر صفوها أحد. الملاعب الرّياضية للغولف وغيره.

      ويلاحظ أنّ حارات ضواحي المدن فيها بحيرات صغيرة تتوسّطها نوافير المياه، وبرك للسّباحة وأندية رياضيّة…وحدائق أشجار وورود تحيط بالشّوارع والبيوت.

طيور شاهدتها

            الحفاظ على البيئة وحماية الطّبيعة ثقافة سائدة، لها قوانينها التي تحميها، فالبيت الذي لا يعنى صاحبه بحديقته، ويراعي قصّ أعشاب الزّينة فيها، فإنّ البلديّة تخالفه بما لا يقلّ عن خمسمائة دولار، وتلزمه بقصّها باستمرار حفاظا على جمال الطّبيعة، وهناك حيوانات وطيور تتواجد في الأماكن المأهولة كالأرانب والإوزّ والبطّ والسّناجيب، وغيرها.

         في شيكاغو رأيت أرانب تدخل حدائق البيوت وتلد فيها، ولا يجرؤ أحد على إيذائها، ورأيت أسرابا من البطّ بالآلاف تعتاد النّوم في ملاعب المدارس أو الحدائق الواسعة بأمان واطمئنان، وهناك غزلان في الغابات الصّغيرة التي تخترقها الشّوارع المعبّدة لسيّارات الزّائرين، تمشي كما تريد، ويمنع استعمال زوامير السّيّارات لعدم ازعاجها.

مشاهدات

          شاهدت في حيّ  Bridgeview في شيكاغو حيث بيت شقيقي داود، وهو حيّ غالبيّة سكّانه من العرب والمسلمين، فيه مسجد ومدرسة اسلاميّة مجموعة من طيور الإوزّ تتمشّى على الرّصيف بحرّيّة تامّة، وبحانبها أرانب تقفز من مكان إلى آخر، لا تخاف من يقترب منها. وفي حيّ Schawmburg حيث يسكن ويعمل ابني قيس، أشاهد من برندة البيت وأنا أحتسي قهوة الصّباح أو المساء ـ إن لم يكن الجوّ ماطراـ شاهدت أرانب تصل عتبات البيوت، وسناجيب تتقافز على الأشجار والأرض…لفت انتباهي طائر أكبر حجما من العصافير العاديّة اسمه Red Winged Blackbird ولا يعيش إلا في أمريكا الشّمالية….ريشه ملوّن غالبيّته سوداء…منقاره رفيع بطول حوالي 2 سنتيمتر، يصفر صفرة واحدة عذبة ممجوجة  مرّتين، تأتيه أنثاه…ترقص أمامه وهو يعزف لها، وبعد الوصال ينامان متّكئين على بعضهما البعض.

حمام هيوستن

             في زيارتنا أنا وزوجتي لهيوستن في ولاية تكساس، حيث ابن العمّ محمّد موسى السّلحوت، وبينما كنّا نتناول طعام عشائنا ابن العمّ وزوجته جويس، وأنا وزوجتي، في مطعم شواء شهير يحافظ على طابعه الشّعبيّ لرعاة البقر، اقتربت منّا حمامة…حاولت أن تنقر الطّعام من صحوننا…دفعناها بلطف…وضعت لها نوعا من الحلوى فيه ما يشبه السّميد…أكلت وجاء عدد آخر من الحمام…انتعف الطّعام على الطّاولة…جاء النّادل يمسح الطّاولة…لم يحتجّ عل ما فعلتُه، فقط رفع يده ليبعد الحمام عن الطّاولة…وضعت للحمام قطع خبز على الأرض تناولها وهو يمرّ من بين أرجل الزّبائن بأريحيّة تامّة.

      قلت لابن عمّي: لو أنّ هذا الحمام في بلادنا، لما تجرّأ على الاقتراب من أيّ منطقة مأهولة، لأنّه يدرك تماما بأنّه سيكون وجبة طعام إضافيّة شهيّة.

21 حزيران 2015

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى