النمط الأمريكي! في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط
د. أفنان القاسم
كتبت منذ عشرة أيام عن بديهيات النمط الإسرائيلي والنمط الحماسي في تعامل نتنياهو وحماس مع قضاياهما، وأكتب اليوم عن بديهيات النمط الأمريكي في تعامل بايدن مع قضايا الشرق الأوسط، لأن بايدن خير من يمثل “الإستبلشمنت”، وبالتالي خير من يمثل هذا النمط ببنيته التقليدية التي دامت عشرات السنين في السياسة الأمريكية، والتي لن تصمد طويلاً لشيخوختها أمام دينامية الصعود المتزايد الصعود المتواصل “للمجموعة التقدمية” في الحزب الديمقراطي ـمن واحد بالمئة عام 1945 إلى 23 بالمئة عام 2021- المكونة من نواب الكونجرس الشبان والسود والإسبانيين والآسيويين، هذه المجموعة التي تنادي بالعدل والإنصاف بين الفلسطينيين والإسرائيليين ذاهبة إلى أبعد بكثير مما كان متوقعًا عندما طالبت بإنزال عقوبات بإسرائيل لاعتدائها، وبمنعها من طرد سكان حي الشيخ جراح من بيوتهم، كما جاء من طرد واعتداء في الحلقة الأخيرة من مسلسل “التيلي رياليتي” للنمط الأمريكي، وهي لا تتجاهل معاناة الفلسطينيين وسلب حقوقهم كما دأب عليه المتشددون في الكونجرس ديمقراطيون وجمهوريون من تجاهل، مشبهة الفلسطينيين بالسود في معاناتهم وسلب حقوقهم على خلفية تصفية إسرائيل العرقية، وما مظاهرات الدعم في المدن الأمريكية إلا خير مثال على تبديل النظرة إلى المسألة الفلسطينية داخل الكونجرس وخارجه، وكأني ببايدن بعد تصريحاته صار يريد حلاً لها من واقع الحل الإثني الأمريكي، فلا يكون هناك انفصال في حزبه وفي مجتمعه، غير أن حله يظل من تفصيل بنيته التقليدية وتفاصيل نمطه الأوبامي الديني الحربي بالوساطة في الشرق الأوسط (إسرائيل) وبالقذارة (الدكتاتوريون العرب)، حل قوامه تمكين الإخوان المسلمين، فلمؤشرات ما بعد الاشتباكات بين إسرائيل وحماس أبعاد تدلل على بسط سلطتهم كحركة تتعدى حماس “التنظيم” والقطاع “المصري” إلى الضفة “الفلسطينية”، وذلك بتهيئة الأجواء لتكون الوريث الأوسلوي لنظام عباس الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، والدلائل على ذلك كثيرة : تأجيل الانتخابات اللاشرعية تحت الاحتلال التهاوش مع مفتي القدس الاعتداء على مركز للشرطة في قضاء نابلس قطع الكهرباء في الأردن اتفاق مبس والحوثيين وقبوله بكل شروط الإيرانيين الاعترافات العربية السابقة في الإمارات والبحرين وغيرهما واللاحقة في قطر وفي السعودية قبل قطر وغيرهما إلى آخره إلى آخره… وإلى الأردن “الهاشمي”، وذلك بتسليم السلطة للإخوان المسلمين بإرادة ملكية، فيرمي عبد الله الثاني عن كاهله مشاكل جهنم الأردنيين، لهذا جاء انقطاع الكهرباء لإثارة قضية الغاز الإسرائيلي بقوة واستثماره في صالحهم… وإلى السعودية “المبسّية”، عمه أو ابن عمه شيء ثانٍ وكله مطروح، وذلك باتفاق سعودي إيراني حوثي يكون بمثابة تدشين لمرحلة جديدة “معتدلة” لنظامها من وهابي إلى إخواني، الإصلاحات الخجولة تفسيرها في هذا السياق كذلك، أقول خجولة لأن الإصلاحات تكون جذرية أو لا تكون وفي الوضع السعودي بتبديل النظام… وإلى أفغانستان “الطالبان”، وذلك بالانسحاب الأمريكي إلى الدول المجاورة، فيكون المارينز الرادع لطالبان في أي وقت إن لم يتصرف كالإخوان إلى آخره إلى آخره… إذ بعد تقسيم الشرق الأوسط “الجديد” بين إيرانيين وإسرائيليين يريد الأمريكان، والدافع نمطهم القديم، تعميمه بالإخوان المسلمين.
لكن بايدن لا يفهم ولن يفهم لبنية “الترقيع” التي له أن الإخوان لن يبقوا بقوة الأشياء تحت القدم الأمريكية، التجربة الإسلامية في مصر “ميد إن يو إس إيه” كانت من أقصر التجارب مع الرئيس مرسي الذي اعتبر المصريين، وذلك منذ خطابه الأول، “أهله وعشيرته”، وحاد بهذا البعد الشخصي لطموحاته عن الخط المرسوم له في بيئة مليئة بالتناقضات السياسية والاجتماعية والثقافية تفرض التعاطي مع الحريات كل الحريات بما فيها الحرية الدينية وليس الحرية الدينية فقط، فكانت بالتالي تمثيلية انقلاب السيسي على أول رئيس مصري في تاريخ مصر تم انتخابه بشكل ديمقراطي، وكان بالتالي سيناريو قتله العلني في مسلسل “التيلي رياليتي” للنمط الأمريكي، بينما هو الآن في هذه الساعة يتشمس مثلما يتشمس الباقون من زملائه الأموات الأحياء في ميامي. إذن الحل الإخواني ليس بحل بنيوي يقوم بهدم القديم ليبني الجديد، الحل الإخواني حل إيديولوجي يهدم الجديد ليبني القديم، تونس أفضل مثال، المغرب، تركيا، السودان، إيران، الصومال، موريتانيا، حتى الجزائر في يوم مضى وفي يومٍ لم يمضِ ليبيا، وكذلك الضفة عندما أنهى الأمريكان (أقول الأمريكيين لا الإسرائيليين) الدور الذي كان لعرفات زلمتهم القديم لينصبوا عباس زلمتهم الجديد، والحال هذه كانت تمثيلية تسميمه ومن ثم نكتة موته في المسلسل إياه مسلسل “التيلي رياليتي” للنمط الأمريكي، فماذا فعل عباس غير تمديد مهلة عدم الحل ليس إلى ما لا نهاية، وهو بأمر أمريكا اليوم قابل (ما فيش رغم أنغه أقول قابل فما عليه إلا أن يقبل) بتبديل نظامه الأوسلوي بنظام دومًا أسلوي تحت غطاء حماسي (والا يا عمي مكاسب إسرائيل بنصبها واحتيالها شيء سهل التخلي عنه؟)، إنه الغطاء إياه كما سبق وحصل بين فتح وحماس في القطاع، لأن ما وقع كان باتفاق “بين” عملاء، وما سيقع سيكون باتفاق “مع” عملاء، بلينكن ليس هنا لتثبيت وقف إطلاق النار، هكذا يجدد المنهزمون أنفسهم بالهزيمة انتصارًا، ولكن ليس إلى ما لا نهاية.
أنا لم أسمع في حياتي ولم أر كبايدن رئيسًا للولايات المتحدة يسمح بشن حرب خلال أيامه الأولى في البيت الأبيض، ولغايات لم تعد استراتيجية، لا بخصوص الانتخابات الأمريكية، وقد ثبت للعالم أجمع في الانتخابات الأمريكية الأخيرة أن أصوات اليهود الأمريكيين لم تذهب “على العميان” إلى ترامب، رغم نقل السفارة رغم الضم رغم الاعترافات، هناك من الناخبين اليهود الأمريكيين الليبيراليون الذين نبراسهم العقل لا القفا (نتنياهو) العلاقات الدولية المنتجة لا الألاعيب الإسرائيلية غير المنتجة (أيضًا نتنياهو) ألاعيب ليست على الإطلاق في صالح الشعب الإسرائيلي. وقد ثبت للعالم أجمع كذلك أن إسرائيل تمثل عبئًا كبيرًا وثقيلاً على أمريكا عبئًا يتعلق بوجود أمريكا نفسه لا بوجود إسرائيل دبلوماسيًا وسياسيًا واقتصاديًا وماليًا وعسكريًا و… و… و… وأخلاقيًا وعلى الخصوص “كابنة عاق» ومع ذلك مدللة بعد أن استهلكت في زمننا زمن التكنولوجيا زمن الكورونا كل الأدوار التي قامت من أجلها، وانتهت كل الأهداف التي جاءت من أجلها، والتي هي (الأدوار والأهداف) تمزيق وتخزيق العالم العربي لنهب ثرواته واسترقاق إنسانه، بعد أن جربت أمريكا كل شيء كل ما هو مشين وحتى كل ما هو مجرم وقبل آخر إجرامها في غزة داعش ولم تنجح، لأننا في زمن التكنولوجيا ننجح معًا في الاستثمار في أولى الأراضي البكر التي هي الشرق الأوسط كل من يريد الاستثمار من أجل الإنسانية، وفي زمن الكورونا نحيا معًا في القتال على آخر جبهات القتال من أجل الإنسانية، بقوة الأشياء لا بقوة الميركادا والطيارة بدون طيار أو صواريخ حماس التي لا أهداف استراتيجية لها. نعم، الاستثمار والقتال من أجل الإنسانية لا التدمير مقابل التدمير إلى أجل مسمى والكره مقابل الكره إلى أجل غير مسمى، بينما في مشروعي السلمي الخلاق، خلاق لأنه الانعكاس من أجل الإنسانية، يزول الكره مقابل الوئام، ويتراجع التدمير أمام البناء، تعود كل دول المنطقة أولاها إسرائيل دولاً متعاضدة في الشرعية دولاً متواشجة في الشراكية لا دولاً عدائية دولاً عدوانية دول يا غالب يا مغلوب يا أنا يا أنت أولاها إسرائيل، فنغلق ملفها بإغلاق ملف فلسطين، في الوفاق المحلي الإقليمي الدولي لأن لا حل أقول لا حل للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي إلا من خلال حل فلسطيني-إسرائيلي-عربي-شرق أوسطي-أمريكي-غربي-عالمي، يجد فيه العالم سلامه لأول مرة في التاريخ وبراءته وازدهاره وسعادته. ومن هذا المنطلق، فيما يخص الإخوان المسلمون، أنا لا أريد إقصاءهم، أنا أريد أن يعملوا معي كغيرهم من الحركات السياسية في البناء والتقنين تحت كافة معانيهما، ولكن تحت شرط أن يعلقوا الدين في الخزانة، شرط غير مفروض عليهم كالصلاة والصوم والزكاة، لأنه من جوه الصيرورة التاريخية لزمننا، وهم إن تمسكوا بشرطهم، فتحت أبواب فاتيكان مكة والمدينة لهم، هناك مكانهم المناسب في دولتهم بعد أن فرض العصر إرادة التقدم علينا وعليهم، نعم حتى على المتخلفين الذين هم في بنيتهم.
ظننت أنني أقنعت الدولة العميقة في الولايات المتحدة بمشروعي الحضاري لشرق أوسط حديث تكون لأمريكا فيه حصة الأسد، ملك الغاب لا ملك سوريا ! فأنا ساهر على مصالحها أكثر منها هي ساهرة على مصالحها، أنا ساهر على مصالحها ومصالح شعوبي قبل أو بعد مصالحها، هذه هي بنيتي الحديثة (شو بدي أسوي ألله خالقني كده) المضادة موضوعيًا للبنية التقليدية التي لبايدن، وموضوعيًا كذلك المضطراه لقبول ما أطرح خدمة (خدمته هو) لبلده، فيضمن بلده دوام حضارته، وذلك بتحقيق الحماية الاجتماعية للأمة الأمريكية الغاطسة في مستنقعات “الميلتنج بوت”، وإعادة بناء البنية التحتية في كل الولايات المتحدة، هذا في الداخل، وفي الخارج بمواجهة الصين، وذلك بزيادة استثماراتها عندنا، كل شيء للهدم والبناء عندنا، وبإنقاص ديونها. نعم، ظننت أني أقنعت الدولة العميقة قبل وصول بايدن إلى الحكم لكني كنت مخطئًا. ومع ذلك أقول لأولي الأمر فيها إن الوقت ليس متأخرًا للتغيير الفعلي في صيرورته كما أرتأي لا للتغيير الديني في مسلسل “التيلي ريالتي” للنمط الأمريكي، وذلك بتجميع دول الشرق الأوسط في فضاءات اقتصادية ترتبط بنيويًا بالاقتصاد الأمريكي: المغرب العربي (المغرب الصحراء الغربية موريتانيا الجزائر تونس ليبيا) المشرق العربي (مصر السودان الصومال سوريا العراق الأردن فلسطين) جزيرة العرب (السعودية دويلات الخليج العربي اليمن عمان) المشرق اليهودي (إسرائيل) المشرق الكردي (كردستان) المشرق التركي (تركيا) المشرق الفارسي (إيران) المشرق الأقصى (أفغانستان وباقي الدول المجاورة حتى حدود الهند). هذا ولا يسعني في هذا المقام المنتج لتغيير الحياة المرافق للتغيير اللغوي سوى التذكير بمؤسستي “رينبو” الأداة الكونية للتغيير بفروعها الثلاثة الرئيسية في باريس ولندن وواشنطن التي نامت في غرفة الانتظار معي طوال ستة شهور طويلة منذ شهر ديسمبر الماضي أغلى وقت أغلى من الوقت نفسه بالنظر إلى عمري السياسي وسني حياتي كنت أستطيع خلالها تبديل العالم إلى عالم أمريكي من نهر الغانج إلى المحيط الأطلسي وشعاري “استثمار أكثر استغلال أقل”، والتي (أي رينبو) بالإمكان تشغيلها حالاً وتشغيل كل الباقي في أنظمة علمانية لن تعادي عند الأمريكيين سوى معاداتهم، أنظمة علمانية لن تخيف أحدًا مثلما هو النظام عندهم، لأن “أفنان رهان الأمريكان”، لأن مشكلة المشاكل لدى الأمريكان هي مشكلة حضارتهم التي لا يمكنهم حلها وهذه هي استراتيجية المداحل التي لهم في الشرق الأوسط والتي ستقضي عليهم، مشكلة حضارتهم ليست الخزق الإسرائيلي، مشكلة مشاكلهم هي “نقص الإنتاج”، من باب نقص الإنتاج الواسع ستدخل الصين أمريكا، فتغزوها أولاً ثم تغزو العالم، وتؤسس لإمبرياليتها “الصفراء”، بينما الحل لدي جاهز لملء هذا النقص في الإنتاج بقيام الشرق الأوسط الحديث مع أداته الأخطبوطية “رينبو” في العالم، وبإنتاج الشرق الأوسط المضاف للإنتاج الأمريكي يكون التعويض عما تحتاجه الولايات المتحدة من الصين، ويكون التحرر من أسنان التنين، ويكون الامتداد الألفي للحضارة الأمريكية، فهل يفهم هذا بايدن؟ هل يعرف هذا بلينكن؟ هل تدرك هذا الإدارة الأمريكية؟
ملحق: تقديم جميل للقاص المعروف نبيل عودة بعد قراءة مقالي “النمط الأمريكي!”
اسلوب افنان القاسم ليس طرح موقف والاصرار عليه كأمر نهائي كما تعودنا في المقالات السياسية التي تغرق اعلامنا.
افنان يعطي تحليلا دقيقا للوقائع المختلفة ولا يعطي موقفا نهائيا.
من هنا قراءة مقال افنان هي قراءة عبر عشرات التفاصيل، التي قد تكون ايجابية بنتائجها، وقد يجري الحسم في السياسة الأمريكية باتجاه لا يغير من وقائع الصراع العالمي والشرق اوسطي، لكن قراءة افنان تشير الى نافذة هامة جدا قد تقود او تؤثر على صياغة نهج جديد يغير المعادلة الترامبية ومعادلة المبايعة المخجلة لنظام يقف وراء دولة شرق اوسطية تجر امريكا معها لمواقف لن تخدم مستقبل امريكا ومكانتها الدولية كدولة بقمة العالم ، مكانة امريكا الدولية ان لا تكون سياستها على المدى القريب او البعيد كتابعة لدولة اصغر من اصغر ولاية امريكية.وتكلف الخزينة الأمريكية ميزانيات طائلة، وضرر سياسي يتعمق وسيصل عاجلا ام آجلا إلى مأزق صعب جدا.
افنان يشرح بوضوح ان الصوت اليهودي لم يرتم باحضان ترامب والجمهوريين. وهذا الأمر ضروري ان يؤخذ بعين الاعتبار، وهو مؤشر هام للتغيير في النمط السياسي الأمريكي بكل ما يخص الصراع في الشرق الأوسط خاصة.
المقال يذكرني بقول مشهور لبن غوريون اول رئيس لحكومة اسرائيل حين قال امرين هامين اولا ان الصهيونية كانت المنصة التي اقيمت عليها دولة إسرائيل وحان الوقت للتخلص منها، وقال ايضا: اسرائيل في الخمسين سنة الاولى ستكون بحالة تحليق متواصل، وفي الخمسين سنة التالية ستكون بحالة انحدار.