د. يوسف زيدان: لا حوار بين الأديان

عادة ما تحفل فعاليات حوار الأديان، بالإبتسامات والعبارات المنمقة التى تؤكد على نحو قاطع، مفاهيم أقرب إلى (اللافتات) منها إلى الحقيقة، مثل:  (أن الأديان السماوية كلها تدعو للمحبة/ إن التسامح فضيلة أساسية في الديانات الثلاثة/ إننا جميعا نعبد الإله الواحد/ إن جوهر الدين الحقيقى هو التسامح و الأخوة بين البشر.. إلخ)

وقد تتعالى على الألسنة فى هذه الملتقيات مقولات لامعات تومض في أوهام الناس ومضات مريحة، مثل: (الدين لله و الأرض للجميع/ تحيا وحدة الهلال مع الصليب.  . إلخ)

وما الأمر فى حقيقته، إلا تلبيس ومخايلة، أو بعبارة عامية: (حوارات). وإلا فالأديان الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام) تقوم أصلا على إلغاء الآخر، وإعلاء الذات، والنظر إلى الله باعتباره يخص هذه الجماعة بعينها، أو تلك. 

فاليهودية بدأت بإله النبى إبراهيم، الذى ظل ينصره على كل الجماعات حتى صار اليهود وحدهم هم  (أبناء الله)، وما عداهم من وجهة نظرهم: الأمم. 

ولأن كل الأمم كانت تحتقر اليهود، فقد ردوا عليهم باحتقارهم للجميع، باسم الإله: يهوه، إلوهيم، الرب!

وبدأت بعد ذلك الديانة المسيحية بقول السيد المسيح لتلاميذه: إلى طريق الأمم لا تمضوا!،  ثم أن الأمر تعدل ومضت المسيحية، بل توغلت فى طريق الأمم، وصارت بالتبشير ديانة كبيرة، وأهلها هم: أبناء يسوع الإله الحى، وما الآخرون إلا مجرمون مغضوب عليهم  (اليهود) أو ضالون  (المسلمون).

وبدأ الإسلام بتأكيد أنه امتداد لليهودية والمسيحية، ثم أكدت الآيات القرآنية الكريمة، على نحو قاطع لا يأتيه الباطل من بين يديه. ولا من خلفه: (إن الدين عند الله الإسلام)،(و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه)،(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم)، (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا). 

وكلها (أصول) دينية وآيات قرآنية، لامجال لإسقاطها أو غض البصر عنها؛ ولأنها مدعومة بنصوص ومفاهيم إسلامية أصيلة، تؤكد أن أهل الإسلام هم: (خير أمة أخرجت للناس).

وإذا كان كل دين من الثلاثة، على حدة، لم يفلح خلال مئات السنين فى (الحوار) والتوفيق بين المذاهب والاتجاهات التى فيه، والتى يتشكل منها الدين؛ فكيف ستنجح هذه الديانة أو تلك، فى التوافق مع غيرها من الديانات الثلاث.وإذا كان الأمر كذلك، فأى (حوار بين الأديان) هذا  (الحوار) الذى يزعمون؟ وأى سبيل يمكن للناس أن يسلكوه للخروج من هذا المأزق، من دون مداورة ومناورة وحوار.

إن البديل الأخير لهذا التحوير هو التعايش بين أهل الأديان، وأؤكد هنا أنه البديل (الأخير) حتى لا يظن أحدنا أننا نملك من ترف الوقت وإمكانية إضاعة الفرص ما يمكن معه أن نجرب هذا الإتجاه، ثم نجرب ذاك .

فليس هناك (تجارب)حقيقة نافعة في المجتمعات المأزومة، إلا إذا كانت مستندة إلى أسس عقلانية مدعومة بخبرات التاريخ.  

وقد دلت تجارب الأمم على أن أزمنة الصفو الإنساني كان يسودها الوعى بضرورة التعايش. فعلى سبيل المثال، كان الزمن الأندلسي الجميل الذي نعتز اليوم بما بقى منه فى إسبانيا من آثار، وفى أدبنا من أشعار؛ نتاجا لتعايش أهل الأندلس. 

إذ كان المسلمون والمسيحيون واليهود،يتجاورون هناك ويتشاركون، بل و يتزاوجون؛ حتى إننا نجد من الحكام المسلمين آنذاك من يتزوج بامرأة مسيحية أو يهودية، فيظل هو مسلما، بل حاكما للمسلمين، وتظل الزوجة على دينها، ومن ثم، يأتي الأبناء متفهمين لكلتا الديانتين. 

وبالطبع، فإن مقصدى هنا ليس الدعوة للزواج بين أهل الديانات الثلاثة، فهذه مرحلة متقدمة من  (التعايش) لم نصل اليوم إلى مستواها الرفيع الذى بلغه أجدادنا وأجدادهم قبل قرون! وإنما هى محض إشارة إلى تراث ننتمى إليه جميعا، و لا يمكن لأحد أطرافه إنكاره .

وهو مجرد مثال دال على أن التعايش هو نوع من الحوار الحقيقى، ليس بين الديانات ذاتها، و إنما بين الديانات الذين بلغ بهم الوعى الحضارى إلى الدرجة التي عرفوا معها أن الدين لا يفعل بذاته، وإنما يفعل به أصحابه ما يريدون. 

وهو المعنى الذي جاء في العبارة الشهيرة عن القرآن الكريم: هذا الكتاب لا ينطق، وإنما ينطق به الرجال. 

القضية إذن، أن أى محاولة لإقامة حوار بين هذا الدين أو ذاك، مقضى عليها مسبقا بفشل محتوم .

أما تعايش هذه الجماعة مع تلك، وإن اختلفت بينهما الديانات والمذاهب والاتجاهات؛ فهذا هو (البديل الآخر) للجماعات التى تنتمى إلى وطن واحد، أو تعيش في موطن واحد.

و لهذا التعايش أسس قائمة على كلمات تأتى كلها على صيغة  (تفاعل) وكلمات من نوع: تفاهم، تسامح، تسام، تجاور، تواصل، تثاقف.وقد يكون منها: (تحاور أهل الديانات)لا الحوار بين الأديان. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى