ياسر عرفات أبو الوطنية الفلسطينية

نهاد أبو غوش | فلسطين
التاريخ لا يصنعه الأفراد أو الأبطال الخارقون، ولكن في المحطات المفصلية للأحداث والأزمنة، تحتشد الظروف الموضوعية والذاتية، وتتكثف، فتلتقي الضرورة العامة مع استعدادات فرد ما ومواصفاته الشخصية، فيكون هذا الشخص هو الجواب على الحاجة التاريخية الملحة.
كان يمكن أن يكون الإنسان/ الشخص محمد عبد الرؤوف عرفات القدوة مهندسا ورجل أعمال ناجحا في ميدان عمله ودراسته، ومؤثرا على محيطه الاجتماعي، لكن الشعب الذي جاء منه محمد عبد الرؤوف كان يتهيّأ لإعادة النهوض من تحت الرماد، وأن ينفض عنه آثار النكبة والهزيمة، وأن يعيد فرض حضوره على خريطة العالم. ولذلك وكما قال عنه درويش ببلاغة قل نظيرها وتليق بالراحل الكبير “وكان اسمه (ياسر عرفات) أحد أسماء فلسطين الجديدة، الناهضة من رماد النكبة إلى جمرة المقاومة، إلى فكرة الدولة، إلى واقع تأسيسها المتعثر”، فكان أن تحول المهندس الواعد إلى رمز للوطنية الفلسطينية الناهضة، لهوية شعب يأبى الاندثار، ويستعصي على الهزيمة، لزعيم وأب وقائد ورئيس، وصديق شخصي لكل فلسطيني أينما كان.
كلما ابتعدنا عن زمن ياسر عرفات، كلما تكثفت نزعة الأسطرة لشخصه ومكانته، وكلما مررنا بضائقة وطنية أو اجتماعية أو شخصية، تعزز شعورنا بالخسارة والفقدان على حد قول الشاعر “وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر”. لكن هذا الابتعاد الزمني يمكن له أن يحرر أدوات الفحص والتحليل التي نملكها من ضغط السياسة اليومية، ومن حسابات الموالاة والمعارضة العابرة، ما يمكننا من قراءة ورؤية الجوانب المتعددة في شخصية ياسر عرفات التي تداخلت واندمجت بحيث بات من الصعب الفصل بينها، ولكن وإنصافا لياسر عرفات، وللقضية التي عاش من اجلها واستشهد، بات من الضروري التمييز بين جوانب ثلاثة في شخصية القائد التاريخي للفلسطينيين.
عرفات الإنسان

أول ما يدهشك في شخصية ياسر عرفات، هو بساطته المتناهية وتواضعه، قبل أن تلتقيه تتخيل إعصارا أو زلزالا، فإذا هو رقيق لطيف، يداه صغيرتان وناعمتان، قامته أميل للقصر، يغمرك بوده ويرغب في أن يخدم ضيوفه بنفسه، يتناول عشاءه مع الجنود والمرافقين، ذو ذاكرة مدهشة ومعرفة عميقة بالناس، حاضر البديهة دائما وصاحب نكتة، يحسن الاستماع والإصغاء للآخرين. ولكن حذار حذار من غضبه.. فهو تيار جارف وبخاصة على مساعديه وكبار المسؤولين المحيطين به، ولا يتردد في استخدام كل أدوات غضبه، ولكنه أرق من النسمة في التعامل مع العامة والبسطاء والضعفاء وبخاصة مع الأطفال والأمهات، يقبل أيدي الجرحى ورؤوسهم، وكأنه يشعر أنه مدين لهم. لا شيء شخصي في حياة ياسر عرفات، ذاته الخاصة مندمجة في ذاته العامة، مظهره المتقشف وذقنه غير الحليقة، وبذلته التي لازمته العمر وكوفيته صارت رموزا لقضيته، مكتبه وغرفة نومه وغرفة عملياته في وجه الحرب، كلها متداخلة ضمن أمتار مربعة قليلة، إذا تجاسر أحد الأشقاء أو الأعداء على المس بشخصه فكأنما مسّ فلسطين كلها.
عرفات القائد
عرفات هنا كان سياسيا براغماتيا بامتياز، فلسطين عنده هي الثابت الوحيد وكل ما عداها متغير، كان يؤمن بقوة إرادته الفردية، أكثر مما يؤمن بالمؤسسة ويثق بها، كان قادرا على الجمع الخلاق بين كل المتناقضات، بين فصائل متنافرة، وولاءات إقليمية ودولية متعددة، ومصالح متضاربة، مثل مايسترو حاذق يدير فرقة موسيقية من عشرات العازفين.
لم يقطع شعرة معاوية مع أحد حتى مع أشد خصومه ومنتقديه، عرفات هو التجسيد الأبرز للمعادلة الفذّة “نختلف معه ولا نختلف عليه”، كانت قامته أعلى من كل من حوله ويؤمن أن على الجميع اللحاق به، فهو الشرعية والشرعية هو.

لكل ذلك كانت له خصومات كثيرة، لكل مرحلة خصوماتها ومعاركها، الوطنية والإقليمية وحتى الفتحاوية الداخلية، ولذلك كان زعيما وقائدا وليس رئيس تنظيم دفعته الصدفة التاريخية إلى موقع قيادة الشعب.
عرفات الرؤيوي
أبرز ما في شخصية عرفات، وذلك على الأغلب هو مكمن سره، هو عرفات الذي يرى أبعد مما يرى الآخرون، عرفات الذي يتجاوز شروط الزمان والمكان، هنا بالضبط جسد الزعيم الخالد رمزية الشعب الناهض من الهزيمة والنكبة إلى آفاق الثورة والحرية، ويكفي أن ندلل على هذه الصفة الاستثنائية ببعض الأمثلة، ولعل من كانوا أقرب إلى ياسر عرفات يعرفون الكثير الكثير من هذه النبوءات الألمعية التي لم تتهيأ لغيره من القادة:
حين سئل ياسر عرفات لحظة خروجه من بيروت، إلى اين؟ أجاب بكل ثقة: إلى فلسطين! كان يمكن لسياسي عادي أو محلل أو منظر أن يغرق مستمعيه في تفاصيل معركة بيروت وتداعياتها، لكن عرفات اختار الجواب الأكثر بساطة والأكثر حكمة، فقد أجاب من قلبه وليس من التحليلات والمعطيات السياسية الباردة، وكم كان صادقا في جوابه!
سئل ياسر عرفات عن خليفته المتوقع، في ظل الضغط الأميركي والدولي لتقليص صلاحياته، والتواطؤ لإزاحته باعتباره مشكلة في طريق الحل، فأجاب: خليفتي فارس عودة، الطفل الشهيد الشهير بصورة التصدي للدبابة الإسرائيلية بحجر، فارس عودة كان هو الخيار الكفاحي للشعب الفلسطيني، البراءة والعنفوان والبطولة والمقاومة واستمرار النضال!
حين عرضت على الشهيد عرفات خطة لاقتطاع الحي الأرمني من القدس الشرقية وضمه مع حارة اليهود إلى إسرائيل، قال جملته الشهيرة: أنا اسمي ياسر عرفاتيان!
حين سألت مذيعة ياسر عرفات عن صحته الشخصية، غضب غضبته الشهيرة، واجاب مستنكرا “تسأليني عن صحتي وشعبي يذبح” لم تكن صحته الشخصية تعني له شيئا أمام ما يتعرض له شعبه.
حين قال جملته الشهيرة “يريدونني أسيرا أو طريدا أو قتيلا، وأنا أقول بل شهيدا شهيدا شهيدا”
هذه المواقف وغيرها لا تصدر عن زعيم عادي بل عمن يرى ما لا يرى!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى