وقفة مع المعنى واللغة في حديث شريف

محمد موسى العويسات/ فلسطين

يقول صلّى الله عليه وسلّم: ” إنّ من أحبِّكم إليّ وأقربِكم منّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكم أخلاقًا، وإنّ أبغضَكم إليّ وأبعدَكم منّي يومَ القيامةِ الثّرثارون والمتشدّقون والمتفيهقون”، قالوا: يا رسولَ الله، قد علمْنا الثّرثارونَ والمتشدّقونَ، فما المتفيهقونَ؟ قال: المتكبّرون. ” رواه التّرمذيّ

والحديث يحثّ على حسن الخلق، ويبيّن حسن الجزاء عليه وهو نيل حبّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، وصحبته يوم القيامة والقرب منه وهذه مرتبة عَلِيّة في الجنّة.

وينهى الحديث عن سوء الخلق، ويتوعّد صاحبه بالبغض من الرّسول والبعد منه يوم القيامة. ويتناول الحديث من سوء الخلق ثلاث صفات، الثّرثرة، والتّشدّق، والتّفيهق، وهذه الثّلاثة تتعلّق باللّغة أو التّواصل اللّغويّ مع النّاس (الحديث)، وعدّها الرّسول عليه الصّلاة والسّلام من الأخلاق السّيّئة، ولا أراها إلا قد أحاطت بكلّ جوانب لغة الشّخص في حديثه مع النّاس، فهي محاورُ ثلاثة: المحور الأول الثّرثرة وهي كثرة الكلام فيما لا فائدة فيه، وأصل الثّرثرة من ثرّ بمعنى كثر وغزر، وثرّت السّحابة ماءها: صبّته. وعين ثرّة كثيرة الماء فماؤها لا ينضب، وثرثار صيغة مبالغة لكثير الكلام،

أمّا المحور الثّاني فهو التّشدّق، والمتشدّقون اسم فاعل من تشدّق على تفعّل وهي صيغة تفيد التّكلّف، وفي هذا الموضع يعني التّكلّف في نطق الحروف أو في الفصاحة، والخروج عن الطّبع في الحديث.

وأمّا المحور الثّالث فهو التّفيهق، وأصله من فهق، والفهق في اللّسان: اتّساع كلّ شيء ينبع منه ماء أو دم، وتفيهق في الكلام توسّع وتنطّع. وقد أعطى الرّسولُ صلّى الله عليه وسلّم التّفيهق دلالة شرعيّة هي التّكبّر، فالمتفيهق هو المتكبّر، وهو هنا المتكبّر في الكلام، والتّكبّر في الكلام يكون من جهات عدّة أهمّها التّنطّع، وهو الجدال والتّعمّق في الكلام لغير حاجة، وردّ الحقّ والإعراض عنه، والغضّ من مقام مكلّمه، وغيرها من الصّفات التي يظهر فيها التّكبّر. وعدّ هذه الثّلاثة من الخلق السّيّئ الذي يحرم صاحبه حبّ الرّسول وقرب المجلس منه يوم القيامة: كثرة الكلام في غير حاجة، التّكلّف في النّطق، التّكبّر في الكلام.

ومن الجدير بالذّكر أنّ التّقسيم الذي يرد في الأحاديث الواردة عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، كما في هذا الحديث، يجمعها خيط دقيق، فهي في موضوع واحد، وأجزاء في كلّ، فيجب أن يؤخذ هذا بالحسبان، وأن تفهم في إطارها الصّحيح.

والقضيّة الثانية في هذا الحديث هي قضيّة نحويّة: (علمنا الثّرثارون؟) جاءت كلمة (الثّرثارون) مرفوعة بعد (علمنا) والأصل أن تكون منصوبة على أنّها مفعول به. وعلم هنا تتعدّى لمفعول واحد وهي بمعنى عرف.

والجواب على هذا من وجهين: الأول أن يكون هذا خطأ من الرّواة. وهذا لا يستبعد، رغم أنّه احتمال ضعيف. والثّاني أن يكون هناك محذوف، وهذا راجح ومقبول نحويّا، ويقدّر المحذوف بـ (ما) الاستفهاميّة. أي: علمنا ما الثّرثارون؟ دلّ على هذا قولهم: فما المتفيهقون؟ وتُقدّر (ما) الاستفهاميّة ولا نقدّر (مَنْ) لأنّهم يسألون عن حقيقة الثّرثارين. و(ما) المحذوفة تعرب في محلّ خبر، والثّرثارون تعرب مبتدأ مؤخّرًا… إذ الجواب: الثّرثارون كثيرو الكلام غيرِ النافع. وتكون الجملة الاسميّة (ما الثّرثارون؟) في محلّ نصب مفعول به لعلم (وعلم هنا بمعنى عَرَف وأدرك فلا تتعدّى لمفعولين)، والتقدير: علمنا حقيقة الثّرثارين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى