قراءة نقدية في كتاب مرافئ في ذاكرة يحيى السماوي للباحث والأديب لطيف عبد سالم

ناظم الصرخي/العراق

من أيقونات أدب السيرة الذاتية.. قراءة نقدية في كتاب مرافئ في ذاكرة يحيى السماوي للباحث والأديب لطيف عبد سالم

إن عتبة العنوان الرئيسية للكتاب الموسوم (مرافئ في ذاكرة يحيى السماوي) المطبوع عام 2019 في مطابع تموز / ديموزي / دمشق / سوريا، ذات دلالة حياتية وأدبية تطرق أبواب مدارك واستيعاب القارئ بسهولة وتضعه أمام صورة سوف تتشكل من سيرة الشاعر السياسية والاجتماعية والأدبية وهي صورة تُرضي توقه حتمًا عند اكتمالها ،لذلك فأن العنوان كان أحد أبواب النجاح لهذا البحث المتقن.

إنّ هذا الكتاب هو دراسة مستفيضة وبحث مميز في سيرة الشاعر المليئة بالبراءة والمنغصات والمغامرات العاطفية والنضال والجهاد في سبيل الوصول إلى الحرية المنشودة في عِتْق الكلمة والإنسان وتحقيق العيش الكريم بدون النظر إلى المكاسب المادية الشخصية التي يسعى لها الكثير، وما اختيار كلّ هذا الكم الهائل من الشهود إلا ليؤكد حقيقة جوهرية ثابتة بابتعاد شاعرنا الإنسان عن المجاهدين الزور الذين اختلقوا الأكاذيب هم ومن برفقتهم من دجالين مزورين، فحتى من كان مجرمًا وسجن عقابًا على جريمته أصبح الآن مناضلًا يتمتع بحقوق فاقت توقعات الشعب من رواتب تقاعدية ضخمة ومكافآت وامتيازات كثيرة لسنا بصددها هنا والشواهد كثيرة على ذلك.  

يبتدأ كتاب الباحث والأديب لطيف عبد سالم بتقديم متقن من الناقد الدكتور حسين سرمك حسن يحمل عنوان “التجربة الشعرية والتسلطية المحببة” يسطر فيه رؤيته عن جهد الباحث وأسلوب كتابته وعن مراحل تكامل الكتاب وابتداءً بالمقالات المنشورة في الصحف والمجلات وفي موقع “الناقد العراقي” ليبين أن كاتبنا قد طرق بابًا لم يطرقه أحدٌ قبله بهذا الإحكام والتماسك والشمولية في العرض السيري لمسيرة الشاعر يحيى السماوي الحياتية والشعرية من النشأة إلى تاريخ تأليف هذا الكتاب.

يستهل الباحث كتابه بعد توطئة يستشهد فيها بمقولة للشاعر أدونيس حول ماهية الشعر إذ يقول : ( يقولُ أدونيس”إنَّ الشِّعْرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلُّ شَّاعِرٍ كبير هو مفكرٌ كبير”. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ مَا أتيح لي مِنْ تجربةِ الشَّاعِر الكبير يَحيَى السَماويّ بأبعادِها الإنسانيَّة)، بالتعريف بتاريخ مدينة الشاعر ونشأته وطبيعة وطباع أهلها المجبولة على الأصالة العربية، ويتوغل في إيضاح وكشف كلّ التفاصيل الدقيقة ليعطي بالتالي صورة سيمائية حيّة مكتنزة بالمشاهد التي كانت سائدة آنذاك، عن البيئة التي كانت تحيط بالشاعر موضحًا دورها في نشأة وتقوية عوده وصقل قالبه، ولا سيما أن الكاتب يتناول الشاعر يحيى السماوي منذ ولادته وفطنته بحب الألعاب كأي طفل مسجلًا بوحه عن هذه المرحلة بقساوتها وبراءتها إذ يقول :”  فَقْرُ الطُفُولةَ مِنْ وجهةِ نَظر السَماويّ يحيى كان: “عيشاً وَلا أحلى أيام ذلك الفَقْر الثري بمكارمِ أخلاقه وَطمأنينته وَقناعة إنْسَانه”، مضيفاً أيضاً: “كان كُلِّ جار يبعث بصحنٍ مِمَا يطبخه إلى جارِه، فتجد كلَّ بيت وَكأنه طبخ عدة أكلات، وَعَلَى الرغمِ مِنْ أنَّه كان طعاماً فقيراً لا يتعدى المثرودة وَحساء البصل وَالطماطم وَطبيخ الحميض وَالحرش أبو زريدة – صغار السمك – لكنه كان أكثر عافية مِنْ طعامِ اليوم، إذ أَنَّ الأطفالَ أبناء الفقراء كانوا أقوى ” وهو لعمري بحث قائم بذاته استطاع أن يمهد الطريق لينقلنا إلى المرحلة التالية وهي مرحلة التعليم بعد أن أغدق علينا بتبيان معنى (السماوة) التي هي مسقط رأس الشاعر وقد استعان بـ (المعجم الوسيط ) و(معجم البلدان) لياقوت الحموي و(معجم اللغة) للشيخ أحمد رضا ومعاجم أخرى كثيرة ويستطرد في البحث ليفي المدينة حقها ويعرج على قطعة شعرية لشاعرنا الكبير السماوي إذ يقول في مدينته: 

 يـا نـخـلـة الـلـهِ :

الـسـلامُ عـلـيـكِ يـومَ وُلِـدتِ مـن قـلـبـي بـتـولاً ..

والـسـلامُ عـلـيـكِ يـومَ أمـوتُ فـيـكِ مُـضـرَّجـاً

بـلـظـى الـصّـبـابـةِ والـتـغـرُّبِ ..

والـسـلامُ عـلى جـذورِكِ يومَ أبْـعَـثُ فـي الـفـسـيـلـةِ

والـسـلامُ عـلـى الـفـراتـيـن .. الـسـلامُ عـلـى الـسـمـاوةِ ..

والـسـلامُ عـلـى الـسـلامْ

فـأنـا وأنتِ وعـشـقـنـا الـمـجـنـونُ :

ثـالـوثُ الـمـحـبـةِ والـغـرامْ

وكذلك يقول ردًا على سؤال حول سرّ تشبثه بالبقاء في فضاءات مدينة السماوة عند زياراته للوطن : “إذا كان العراق أبي، فإن السماوة هي أمي.”

تتعدد أطياف الرؤية عند الباحث الأستاذ لطيف عبد سالم فتنتشر عرائشه على جدران الدراية مسلطة شعاعًا قويًا مستكشفًا كلّ الزوايا والتفاصيل البائنة والمخفية في مراحل حملت مأساة وملهاة الزمن الذي ترعرع فيه الشاعر مرورًا بكوابيسه المرعبة وآفاق تأملاته وظلال حروفه الوارفة مُعرجًا على زوار الليل والأشباح التي كانت تقضُّ مضاجعه حتى استقراره القسري في بلاد الغربة، وما يجذبك إلى التلقي والاستمتاع هو الفيض السردي والتنويري بالشرح لبعض المفاهيم  في كل مرحلة من هذه المراحل مثل مرحلة الطفولة التي يتضمنها الفصل الرابع من الكتاب تحت عنوان “طفولة غنية بالفقر والجمال “حيث يوضح ويقول: “فالطُّفُولَة اصطلاحاً هي المرحلة الزمنيّة من عمر الطّفل التي تمتدّ منذ ولادته حتَّى بلوغه، ما يعني أَنَّها مرحلة النشأة البدنيَّة وَتكوين الشخصيّة، لكن اللافت للنظر أنَّ تلك المرحلة مُختلفة الحدود النهائيّة؛ إذ لا يتوفر اتّفاق يحدد نهايتها بشكلٍ واضح” وهكذا فلكل مرحلة طرح وشرح وسرد وافي ومحبب إلى المتلقي المتذوق المتشوق للغرف من ينابيع المعرفة.

إنّ الجهدَ الذي بذله الكاتب في هذا المؤَلف جهدٌ كبيرٌ وملموس فقد أضاف إلى متعة السرد والحبكة الأدبية المتقنة شهادات لأصدقاء الشاعر أو معاصريه ولغيرهم من الأدباء المشهورين بحق شاعرنا الكبير إضافة إلى أقوال الفلاسفة والأدباء الكبار حيث يستشهد بها لينطلق في تحقيق بحثه وإثبات صحة ما يسير على إبرازه، أو وصفه. وبذلك يضيف قيمة معرفية ووجبة ثقافية دسمة تجبر المتلقي على الإنصات والمتابعة، والتمتع في كل فصل من فصول الكتاب فمثلا وهو يتناول طموح الشاعر يستعين بمقولة لـجورج برنارد شو : “طالما لدي طموح فلدي سبب للحياة” في الفصل الثامن وهو فصل “الديوانية ..حلم الوالدين وطموح الأبن”  أو بمقولة لرسول حمزاتوف شاعر داغستان الكبير مفادها “لا يولد أطفال مِنْ تزويجِ الدمى” أو للشاعر الشيلي الكبير بابلو نيرودا الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1971 مبينًا إن الشعوب لا تموت أبدًا حيث يقول :”القبرَ الحقيقي ليس فِي الأَرْض بل فِي القلوب” وهو يتناول العمل السياسي للشاعر في الفصل التاسع والذي هو تحت عنوان ” الجَامِعة… عَتَبَة النُضُوج الشِّعْري وَترسيخ العمل السِّياسي” أو مقولات لمناضلين مشهورين كـجيفارا  أو الليندي أو لكتاب عرب وأجانب وهكذا، وهي كثيرة لا يتسع لها هذا المقال، وذكرنا بعضها على سبيل المثال لا الحصر، وهذه الأقوال كانت ذات اتجاهين فهي تخدم البحث كأدلة على صحة المسار وباتجاه آخر فأنها تزيد من متعة القراءة.   

إن كتاب (مرافىء في ذاكرة يحيى السماوي) هو بانوراما توضح سيرة الشاعر يحيى السماوي بأدق تفاصيلها. وقد أجاد الكاتب في نسج وسَلسَلة المراحل وربطها بإتقان رغم التشعب الذي كان محببًا لإرسائه القيم المعرفية والشواهد الدلالية الداعمة.

 

                                                  

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى