السلطان حسن.. قصة قصيرة

بقلم : محمد فيض خالد

ما إن مررت بالقربِ  من جدارهِ العتيق ، حتى طالعتني  رائحة غريبة، اثقلت أنفي المُجهد ببرودةِ الصّباح القادم من مياهِ بحر يوسف،  تعوّدت كغيري من صبيانِ المكان، النّظر من الكوةِ المنخفضة،  حين يشرق القماش الحريري الأخضر، الملتف حول القبرِ المهول، لكن هذه المرة بدى مختلفا عن المرّاتِ السّابقة،  ها هو يتلألأ ضياءه في الوجوهِ رهبة وجلالا، استقرّ الضّريح في خشوعهِ بين طياتِ الظلام، عن قُرب أمسك فلاح لفحت الشّمس وجهه وفتلَ الفأس ساعديه، بأسياخِ الضّريحِ الصّدئة، استولى الهلع على صدرهِ، يُردّد في خشوعٍ  دعواته للولي؛ عسى أن يجد عنده الشّفاعة لدى موظف المال العام ، فقد حلّ القسط السنوي، والمسكين لا يملك ما يسدّ به حنك أبنائه الجياع ، ترقرقت عينيه بالدموعِ ، يلهث وعيناه مفتوحتان في لمعةٍ كالزجاج، تشعّ بقية أمل كانت مخبوءة بين أهدابهِ السّود، وإلى جوارهِ تربّعت امرأة صبوحة الوجه مشرقة الجبين، تمسح  كفها بالجدرانِ في ضراعةٍ، تنظر من طرفٍ خفي ناحية الضريح ، تردد بصوتٍ يشيّع حُزنا  ولوعة ، لم افهم من كلامها إلا: يا سيدي السلطان حسن، اقتربت في توجسٍ، مددت أصابعي على استحياءٍ، لامست القماش الأخضر في فضول ، انتابتني فجأة ما انتاب غيري، أزلت بعفويةٍ فضلات الطيور اليابسة، وبقايا الشّمع المنصهر، التي تكدّست على رخامةٍ  قديمة بجانبِ السِّياج، اختلست نظرات جائعة، شعرت لأولِ مرة برغبةٍ جارفة في التودّدِ للوليِ، ترى ما السبب؟! لأخوض تجربتي الأولى ، فبعد أيامٍ امتحان نهاية العام .

رفعت يدي في ترفّقٍ، جعلت أمررها باطمئنانٍ حول الأسياخ المهترئة، اغمضت عينيّ كما يفعل أصحاب الحاجة من قُصّادِ المكان ، فجأة اُغرِق المكان في بحرٍ من الوجومِ، كانت المرأة لازالت جالسة ، تستجدي حاجتها هامسة بها، منضوحة الوجه ، على لسانها كلام تجتهد في انتزاعهِ ، أخيرا قامت من جلستها، تنهدت ارتياحا، ألقت بنظرةِ شجن تجاه الضّريحِ، ثم انسحبت وفي عينيها بقية من دموعِ، مرقت في تكاسلٍ من البابِ القصير ، ليبتلعها الزّقاق الضيّق.

خلا المكان من المريدين، في هاتهِ اللحظة  هبّت نسمة طرية من الحقولِ؛ صافحت جبهتي المحمرة، أخذت  دقات قلبي تتابع كأنّها خفقات أجنحة الطّير، تدلى شعاع بسيط قادم من الشّرقِ في زاويةٍ من زوايا الضّريح، تسلّط على الغطاء ِ الحريري الأخضر، انعكس فاكسبه مهابة وجلال، شعرت بارتياحٍ غريب لم آلفه من قبل، اطرقت برأسي قليلا، كان بريق الشّمس أخذ ينزاح عن الضّريحِ في سحرٍ لا يُقاوم ، تلاشى  توهجه بعد أن ترك في نفسي شعورا من الاطمئنانِ ، انتهيت من جلستي القصيرة، غادرت المكان وأنا لا أصدق ما جرى، تتزاحم في نفسي عشرات الأسئلة علّها تجد إجابات مقنعة، عدت للمنزلِ لأقضي ليلتي في سهادٍ كأطولِ ما تكون، خيّم هدوء مُثقل ، انتظرت معه _بفارغ الصّبرِ_ ميلاد الصّبح الجديد ، وما إن انصدع ضوء النّهار؛ حتى أخذت طريقي للضّريحِ ،لحظات وكانت الشّمس لا تزال في بكورها كسولة، تلف المكان من حولِ الضّريحِ بغلالةٍ زرقاء حانية يتضوّح أريجها، مشهد لم  يخطر على بالي مطلقا ، تحمّست قليلا ؛ دفعت الباب واصطدمت أذني بصريرِ ألواحه، تبكي في تضرّعٍ كأناتِ الدراويش، وأوجاع المريدين، وعلى حينِ غرة دوّت صرخة عاتية ملأت الفضاء من حولي ، علت وجهي صفرة شاحبة، وعقدت المفاجأة لساني، رأيته راقدا بجوارِ الضرّيح في أسمالهِ البالية، يذرف الدّمع سفاحا ، التفت ناحيتي وزأر بصوتٍ أجشّ، وقال باقتضابٍ : مقضية.. مقضية بإذن ًالله . 

غرقت في تأملٍ عميق، تضوّح الجو  في أريجٍ لطيف، سرت مشاعر دافئة تدفعني لأن اقتحم المكان، عَادَ صاحبنا في خشوعٍ رقيق يُكرِّر مقولته، استنزف الصّمت بقايا قوتي وصبري ، كانت طلائع النّهار قد بدأت تغزو الحقول القريبة من الضّريحِ ، ورويدا رويدا انفكّت قبضة الفضاء عن بياضِ الصّبح  وانسابت أنفاسه، خرجت في ارتياحٍ وأنا أردد : مقضية بإذن الله ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى