الشاعران فضل خلف جبر و عبد الرزاق الربيعي ( وجها لوجه )

^ الشعر وليد دراما صامتة محتدمة في جميع خلايا الشاعر.

^ مهما ابتعدتَ عن الشعر لا بد من العودة إليه كالطائر إلى عُشّه.

^ الترجمة في العالم العربي، في الغالب، خاضعة لأمزجة الأفراد.

^ للأسف ليس هناك جهد مؤسسي في الترجمة منظّم وقائم على التخطيط.

^ الشاعر قد يمر بحالة سايكوباثية تؤدي إلى نكوص في التكوين النفساني والسلوكي. 

يتدثر فضل خلف جبر، الشاعر العراقي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، برداء الصمت جانحا للعزلة والابتعاد عن الأجواء الثقافية منصرفا الى قصيدته انصرافا هادئا دون ضجة ولا ادعاءات، مشتغلا على مشروعه الشعري بصبر وأناة.  بدأ النشر في أوائل الثمانينيات في الصحف العراقية والعربية، وحاز على جائزة مجلة “الأقلام” 1993. صدرت له مجموعة من الدواوين بدأها بديوانه “حالماً أعبر النشيد “1993 بيروت، “آثاريون” عن دار أزمنة عام1997، “من أجل سطوع الذهب” 2011 البحرين، “طق إصبع” 2011 بيروت، “مدري ياهو” بيروت 2013 وأخيرا صدرت له مجموعة عن دار شهريار العراقية حملت عنوان” رسول الناس”، وله 

مجموعة أخرى من الكتب المخطوطة تتراوح بين الترجمة والنقد، ولم ينشر إلا الشعر، لذا سألته عن ذلك في بداية حواري معه فأجاب “لهذا الموضوع قصة طويلة ومتشعبة ليس الآن وقت الحديث عنها. ولكن من المؤكد ان لابتعادي عن عالم صناعة الكتاب العربي واستقراري في الولايات المتحدة دورا مهما في وجودي في الظل. بالإضافة الى ذلك، فان عملية النشر في العالم العربي معقدة وغريبة وتحتاج الى جهود ووقت واموال لا أمتلكها بسبب تركيزي على العمل الذي يمكنني من وضع طعام على مائدة عائلتي“

س:// إشتغالاتك الموازية في الترجمة والمسرح هل جعلتك مقلا في الكتابة الشعرية؟

الإجابة:

صحيح انني لا أكتب شعرا بغزارة، لكنني اكتب بتواصل وانشر بين الحين والآخر، لكن مسألة طبع الكتب عقدة لم اتمكن من تجاوزها. الاهتمامات الأخرى كانت بالنسبة لي بمثابة المحفزات، لأنك تعرف من خلال تجربتك المشابهة، الى إنك مهما استخدمت من آليات تعبيرية آخرى وابتعدت عن الشعر فلا بد من العودة اليه كالطائر الى عشه. فن الترجمة هو فن جميل أسهم كثيرا في صقل عبارتي الشعرية لأنني من خلال مزاولتي الترجمة أعرف قيمة الكلمة وكيف اختارها بعناية وأضعها في المكان المناسب.

س:// وربما حتى في النشر؟

الإجابة:

لست مهتما كثيرا، ومنذ بداياتي الشعرية ب “كم” الشعر قدر اهتمامي بـ”نوعه”. نوعية الشعر لدي ترتبط ارتباطا وثيقا بمدى فهمي لأحاسيسي وترجمتها من حزم ايحاءات وانفعالات الى سبائك لفظية تعكس الحد الأعلى من الاضطراب الشعري الذي أعانيه. كان اهتمامي ينصب دائما على تقديم نص يمثل أو يجسد صورة العالم في مرايا روحي العاكسة ضمن سياقات ومسارات مراحل كتابة ذلك النص. هذا لاعتقادي بالتعبير الشائع: “إنك لا تدخل النهر نفسه مرتين”. هذه الصرامة والتشدد في الكتابة ضمن اشتراطات وقيود ربما لم تكن متبعة او تحظى بالأهمية المطلوبة لدى شعراء الجيل الثمانيني.  

س:// تمثل الدراما أساس من عناصر كينونة نصك الشعري كيف يمكن استثمار ذلك لصالح النص بحيث لا تفقده غنائيته؟

الإجابة:

الشعر، أصلاً، هو وليد دراما صامتة محتدمة في جميع خلايا الشاعر. وقبل الخوض في الحديث عن المعنى التقليدي للدراما، أود الاشارة الى ان ما يسمى Poetry Process أي عملية خلق الشعر، هي في حقيقتها حالة من الاحتدام الشعوري بين “أنوات” الشاعر المتعددة وبين عناصر ما حول الشاعر وهي التي تمثل المؤثرات الخارجية أو المهيجات أو المحفزات لبدء الاضطراب الشعوري الذي ينتج عنه فعل الشعر مجسدا بمدونة نصية نطلق عليها القصيدة! 

إذن، وكما لمحت الى ذلك في اجابتي السابقة، فان الدراما موجودة في أي قصيدة وان بنسب مختلفة، اعتمادا على طبيعة وآليات عملية تخلّق الشعر لدى كل شاعر على حده.

في مرحلة سابقة من مراحل الكتابة لدي توصلت الى قناعة طريفة مفادها: ان الشعراء، وعلى مر العصور وفي جميع بقاع الأرض، أسرفوا كثيرا بحق الشعر من خلال جعله “مسرحا” تتجلى فيه “انواتهم”، وهذه هي القاعدة التي درج عليها الشاعر، واستثني من هذه القاعدة جميع النصوص التي كتبت بإطار ملحمي. لكن الرؤية التي راودتني وأغرتني بخوض غمارها تتلخص في عكس هذه المعادلة التقليدية، من خلال جعل “انا” الشاعر “مسرحا” تتجلى فيه “أنوات” الشعر!

أتفهم تماما حين يكون الأمر ملتبسا لدى القارئ. وسأحاول قدر الامكان تبسيط الرؤية أكثر: حين تقرأ قصيدة، أية قصيدة، فإنك في الحقيقة انما تقرأ لشاعر تبرّع ان يصور لنا تفاصيله وهمومه ومشاكله الشخصية وتاريخه الشخصي ومشاكله الشخصية مع نفسه ومع الآخرين ومع العالم!

أليست هذه الحقيقة؟ أوليس هذا كل ما نلمسه حين نقرأ قصيدة لشاعر أو شاعرة ما؟ نعم، هذا هو واقع الحال ثم يأتي دورنا السلبي لتجميل هذه العملية الأنانية بتوهم ان الشاعر او لشاعرة انما يعبران عن همومنا الفردية او الجمعية! طبعا هذه خلاصة ساذجة ناتجة عن الانصياع القسري لتاريخ طويل من الاضطهاد والاذلال الذي مارسه الشاعر، وعلى مر التاريخ، على المتلقي!

في درس تاريخ الأدب العربي واقعة فريدة من الاحتجاج قام بها أحدهم حين سأل الشاعر أبا تمام:” لماذا لا تقول ما يُفهم”؟ فأجابه الشاعر بعجرفة وعنجهية يطرب لها الكثيرون ويرددونها كثيرا حين يصطدمون بسلبية المتلقي! هذا ما أجاب به الشاعر المتغطرس:” ولماذا لا تَفهَم ما يقال”؟

حسنا، لنعد الى أصل الموضوع. الدراما: اذن كان ما أفكر به هو ان اريح ضمير القارئ وعقله من سلبية ان يكون مجرد وسيلة لفلسفة وتأويل وتحليل تفاصيل ومقاصد الشاعر، من خلال اجراء يتمثل بسحب “الأنا” العليا للشاعر وتحويله الى مسرح شعري تتجلى فيه جميع “الأنوات” ما عدا “انا” الشاعر، لأنها كامنه خلف حقيقة انها مجرد فضاء مسرحي يحتدم فيه الشعر. بتوصيف بسيط جدا: بدلا من أن يقول الشاعر:

 ” أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم”،

يمكن أن نقول:”

” ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”

والبيتان للشاعر، المتنبي نفسه! لكن “أنا” الشاعر صائتة في البيت الأول وصامتة في البيت الثاني.

على كل حال، كل هذه الأفكار كانت تراودني دائما حين أكتب، ونادرا ما تراني اطرح ذاتي كقضية أشغل بها القارئ وقد ذهبت الى أكثر من ذلك حين انجزت ديوانا من خمسة قصائد طوال لتجسيد محاولتي لطرح بديل شعري مغاير تتبلور فيه هذه الرؤية. الديوان يحمل عنوان” هواجس المؤجل أقصاه”، وقد اطلعت ادونيس على تلك التجربه في حينها وقد أبدى حماسة كبيرة لكتابة مقدمة للديوان، لكن شرطه الفني في ضرورة زيادة حجم الديوان حال دون ذلك من منطلق ان التجربة الفنية لا يمكن استيلادها قسريا! فلم يكتب أدونيس المقدمة ولم أنشر الديوان لحد الآن، رغم مرور ما يزيد على أكثر من عقدين على تاريخ انجازه.

هذا مقطع مجتزئ من قصيدة “الشجرة” أقدمه نموذجا للقارئ:

” إذا أطبق الليـل لا تهجعوا

واعبروا زرقة الأفق

حتى إذا أينعت في السماء النجوم

اقطفوا من عناقيدها ما تشاءون

زادا لرحلتكم

واجلسوا في مهب الصباح

انطروا

ريث تخطر في الموكب الشمس

فاستبقوا للحاق بموكبها

واحذروا حين تجري بكم

ان تفيض سرائركم

ان للشمس أعداءها

اقتصدوا في الغناء

لكي تبلغوا الوهج

ثم اقصدوا الكنز

في الشجرة”

س:// شغلتك تجربة الجيل الثمانيني نقديا بحكم انتمائك لهذا الجيل، كيف تنظر لهذه التجربة؟

الإجابة:

التجربة الشعرية الثمانينية من التجارب المعقدة في مسيرة الشعر العراقي واتجاهاته. والمشكلة لا تتعلق بالمنجز الشعري الثمانيني، فهو موجود وموثق في الصحف والمجلات والدوريات العراقية وفي ارشيفاتنا الشخصية؛ بقدر تعلقها بالشعراء أنفسهم. الشعر الثمانيني، كأي نتاج أدبي يعكس ظروف نشأته ويوثق لظروفه الموضوعية، لكن من عقد مهمة هذا النتاج هم الشعراء من خلال اسقاط احباطاتهم الشخصية على توصيف الشعر الثمانيني. هناك شعراء من هذا الجيل لا يقبلون بفكرة التعايش الايجابي مع آخرين لا يتبنون اسلوبهم في الكتابة! وانت لست شاعرا لمجرد أنك لم تجلس في المقهى الفلاني أو لم ترتد الحانة الفلانية او لم تسهر ليليا في نادي اتحاد الأدباء! هناك شعراء من هذا الجيل هددوا نقادا بالتصفية البدنية لمجرد انهم كانوا منجذبين الى اسلوب كتابي مغاير لأسلوبهم! هناك شعراء من هذا الجيل يعتبرونك تقليديا لمجرد أنك خارج دائرة اهتماماتهم. الجيل الثمانيني جيل غني أنجز تجربة فريدة في مسيرة الشعر العراقي الحديث، ومن خلال جهود تجمعات مختلفة في وسائل التعبير الشعري وآلياته، وقد أشرت اليها يوما بمصطلح” التجمعات المرجانية”. لكن بعض الشعراء من ابناء هذا الجيل لا يستطيعون استيعاب فكرة “التنوع” في الابداع، لذلك فكل من لا يشبهني في اسلوب تفكيري لا مكان له في الوجود! وما يعزز هذه الجانب هو غياب النقد المتخصص الذي يعطي مساحة كافية من الاهتمام لهذا المنجز المتشرذم بفعل عوامل مختلفة مثل اعتكاف بعض الشعراء وعزوفهم عن النشر وهجرة البعض الآخر أو تعذر امكانية طباعة دواوينهم لأسباب مادية وهذا كله ادى الى انفراد بعض الشعراء بالحديث عن تجربة الجيل دون ان يتمكنوا من فصل الذاتي عن الموضوعي في تناولهم لقضايا الجيل. 

س:// أشرت في جوابك السابق الى غياب النقد المتخصص هل انت غير راض عن المتابعة النقدية؟

الإجابة:

النقد المعاصر في العالم العربي في حالة سبات أو، فلنقل، عدم مواكبة مع المنجز الإبداعي على امتداد الخارطة العربية من المحيط الى الخليج. من الغريب ان النقد كان، خلال العقود الماضية، ناشطاً وفي تألق كبير حين كانت وسائل التواصل والاتصال تدار كلها بالطرق التقليدية. كان الكتاب الذي يصدر في مصر سرعان ما يجد صداه النقدي في العراق وبالعكس. كان النقد مواكبا بشكل خطير لحركة الابداع الى درجة ان النقد أسهم اسهاما كبيرا في توجيه مسارات الشعر الحديث، على سبيل المثال، والدليل ان النقد كان شريكا اساسيا في توجيه ذائقة القارئ وتحفيزه على تقبل الجديد والتآلف معه ومن ثم تبنيه. لولا النقد لما تمكن السياب او البياتي أو صلاح عبد الصبور أو أدونيس وغيرهم من شق عصا الطاعة على صرامة البيت الشعري وقداسته. كان النقد فعلا شريكاً ووسيطاً بين الشاعر والقارئ وهو، اي النقد، من اقنع القارئ بجدوى قراءته لهذا النوع من الشعر، من خلال كتابات احسان عباس وغيره من الأسماء الكبيرة التي كانت تتصدر المشهد النقدي في الخمسينات والستينات.

ونحن هنا لا نريد أن نغمط حق بعض الأصوات النقدية الجادة والمثابرة التي تبذل قصارى جهدها في مواكبة حركة النقد العالمي من جهة، وتلبية حاجة القراء الى النقد بما يوازي الوفرة الإبداعية، من جهة أخرى.. لكن هذه الأصوات، التي يعوّل عليها في هذا الشأن، قليلة وليس بمقدورها اجتياز معوقات كثيرة تحول دون الوصول الى النتاجات المهمة وعالية الجودة.

والمشكلة الجوهرية التي يعاني منها النقد العربي، باختصار، هي غياب المنهجية، فليس هناك تخطيط قائم على مسوحات توثيقية أكاديمية أو مؤسساتية تعين النقاد على المتابعة، وبالتالي، المواكبة الميدانية لحركة الابداع.

س:// أغرمت في مقتبل عمرك بالأساطير القديمة لكنك ابتعدت مؤخرا عن توظيف الرمز الاسطوري في النص الشعري، لماذا؟

الإجابة:

في العصر الذي لم تعد فيه أسرار تزول الحاجة الى توظيف الرمز، أي رمز، وسواء كان أسطوريا أو تاريخيا او دينيا. كانت هناك ضرورة للرموز حين كانت تثير شهية وفضول القارئ وتولد لحظة اكتشافه للدلالة الرمزية نشوة خاصة. الآن لم يعد الأمر على ما كان عليه الحال في زمن السياب أو البياتي أو بلند الحيدري. صار القارئ أكثر ذكاء واطلاعا مما كان عليه قارئ الأمس بفعل توفر المعلومات، وعلى اتساع مجالها، على شبكة الانترنيت. وبهذا لم يعد الشاعر يمتلك نفس التوصيف التقليدي العربي” الرائد الذي لا يكذب أهله”. انتهت مرحلة ريادة الشاعر بهذا الخصوص، بل الأطرف من ذلك ان هناك من الشعراء من هم أقل اطلاعا وثقافة بكثير من القراء، وهو ما ادى بالنتيجة الى فقدان الشعر للكثير من عناصر الادهاش والجذب.

كل هذه الأفكار كانت تدور بيني وبين النص الذي أنوي كتابته في السنوات الأخيرة. والرهان كان على ان توفرعناصر ادهاش بديلة تتناسب مع مزاجية القارئ المستعجل. صحيح جدا انني لا أضع في تصوري أي قارئ حين اكتب، لكن الصحيح أيضا انني احاول قد الامكان تنقية القصيدة من جميع العوالق التي يمكن ان تشكل عقبة دون سلاسة القصيدة وانسيابيتها. هذه قناعة جديدة بالنسبة لي مبنية على أساس فهم مختلف لماهية ووظيفة النص الشعري. الشيء المهم الآخر، هو ان الشعراء جميعا يسعون الى كسب ود القارئ، وما دام الأمر كذلك، فالنتيجة المنطقية هي ان توفر لهذا القارئ قصيدة يتوفر فيها ثلاثة شروط: الأصالة والجودة والوضوح. وهذا ما أسعى الى تحقيقه، وتبقى مسألة تحققه غاية متروكة للقارئ للبت فيها.

س:// تطرقت في جوابك الى ماهية ووظيفة النص الشعري كيف تحدد هذه الماهية؟

الإجابة:

طيب، أرجو الا أكون صادما في ردي وأرجو ان يتفهم زملائي الشعراء ما سأقوله. الخلاصات الأخيرة التي توصلت اليها حول الشعر والعملية الشعرية هي ان كل ذلك عبارة عن حالة مرضية يمر بها الشاعر قبل وأثناء والى ان ينتهي من كتابة القصيدة. هي حالة سايكوباثية غير معدية وليست خطيرة، ولكنها قد تؤدي الى نكوص في التكوين النفساني والسلوكي للشاعر! والحقيقة التي يجب ان يعرفها الجميع هي ان الشعراء جميعهم مرضى، من نوع ما، لأن الشاعر لا يمكن ان يكتب قصيدة دون وجود مثل هذا الانحراف الحاد والتوتر في المزاج والطبع. المعتاد ان تتلبس الشاعر هذه الحالة الغامضة حتى ينتهي من كتابة قصيدته. ولكن يحدث أحيانا ان تستمر مثل هذه الحالة وتصبح ديدنا للشاعر وتطبع سلوكه العام بالغرابة والازدواجية. من المفارقة ان الناس، وفي كل العصور، نظروا الى الشاعر على انه كائن استثنائي، وقرنوه بالقداسة أحيانا وأسبغوا عليه الكثير من الصفات التي تنسبه الى العبقرية والالهام والتنبؤ ووو… وهذه كلها لها أسباب، لكن الحقيقة تبقى ثابتة في ان “عارض” الشعر يبقى جديرا بالدراسة والتحليل وربما استطاعت علوم المستقبل من الوقوف على الكثير من أسرار هذا الجنوح.

وبالتأكيد فان للشعر قدرة عجيبة على تفريغ شحنات الاحتقان لدى من يمارس هذا النوع من النشاط. وهو فسحة خاصة بالشاعر فعلا دون سواه، ولا يمكن لأي أحد، مهما كان من مشاركة الشاعر في فسحته الشخصية. ان الأمر يشبه تماما الدخول في غيبوبة أو اغماء. فانت تستطيع ان تتلبس حالة المغمى عليه وتأخذك نوبة ألم وربما تشنجت، لكن لن تصل أبدا الى تلك الحالة السريرية الخالصة. أما ما يحصل عليه القارئ أو المتلقي من جرعات انتشاء اثناء قراءة قصيدة ما فمرده الى قدرة المتلقي نفسه على خلق قرينة شعرية خاصة به أو بها ولكنها لا تشبه المدونة الشعورية الأصلية بأي حال من الأحوال. الشاعر لا يكتبك انت- القارئ- بل يكتب ذاته أما انت فتستمتع وتنبهر بالقصيدة التي تعجبك كما تستمتع بمنظر البحر أو النجوم في السماء أو منظر فراشة تمارس الطيران دون ان تكون لديها فكرة أنك تكاد تجن لتناسق ألوان تلك الفراشة ورقة أجنحتها!

س:// لك اشتغالات في الترجمة، وقبل سنوات قريبة قدمت محاضرة في جامعة السلطان قابوس ناقشت بها دور المترجم في خيانة النص هل أنت مع مقولة “المترجم خائن”؟

الإجابة:

نعم، بكل تأكيد. لكن مصطلح “الخيانة” فيه شيء من المبالغة ونية التجريم، وهو ما لا يستحقه جهد المترجم. الترجمة عمل انساني مهم في تجسير الحضارات والشعوب والمجتمعات والأفراد، وقد أدت الترجمة عبر العصور إلى تجديد وتنشيط الكثير من الجهد الإنساني المشترك وصولا لصنع الحضارة وبيئة التفاهم المشترك.

لكن مما يؤخذ على الترجمة، سواء كانت احترافا أو هواية، حين يزاولها من لا يحسنها. وعمل المترجم يختلف عن عمل الطبيب مثلا. فحين يخطئ الطبيب ينتج عن الخطأ فقدان حياة واحدة، لكنها تبقى حالات قليلة ونادرة وخاضعة لظروف معينة. بينما الخطأ الذي يرتكبه المترجم يتجاوز حدود الأفراد الى الجماعات والمجتمعات. ترجمة سيئة لكتاب مهم يمكن أن تلحق اضرارا كبيرة بشريحة كبيرة من القراء. خذ مثلا مترجمي المواد الطبية…واذكر مثلا بهذا الخصوص: ترجم أحدهم تعليمات لأم يفترض ان تضخ حليبا من صدرها وترسله الى ابنها الرضيع والموجود في قسم العناية المركزة للأطفال حديثي الولادة في المستشفى. التعليمات بالإنجليزية تطلب من الأم ان تضخ الحليب وتتركه محفوظا في مكان “مبرد” حتى يتم ارساله الى المستشفى. وهنا يأتي دور اللهجات والاستعمالات المحلية للغة. ومن معاينة المفردة العربية المرادفة للإنجليزية نستنتج ان المترجم لبناني، لأنه استخدم المفردة بمعنى “يجمد”، لأن اللبنانيين يستخدمون مفردة ” الثلاجة” للإشارة لـ”المجمدة” لدى العراقيين! ولو وقعت هذه التعليمات لدى ام عراقية لقامت بوضع الحليب في “المجمدة” بدلا من “الثلاجة” التي يقابلها “البراد” لدى اللبنانيين! ولنا ان نتخيل حال ذلك الطفل الرضيع وهو يصارع كرة الحليب الصلدة دون جدوى ان لم يغص بها أو تسبب اختناقه.

وما دمنا في جو البرد والتبريد، أورد هنا كيف ترجم أحدهم مفردة “بَرْد” الى الانجليزية، في قول السياب:

” سأفيق في ذاك الصباح وفي السماء من السحاب

كسر وفي النسمات “بَرْد” مشبع بعطور آب”؛ إلى ” hailstones”، بمعنى “بَرَد” أو “حالوب”، ولك أن تتصور سقوط حالوب في شهر آب في جنوب العراق!

ولا يخفى أن في هذا النوع من الترجمة نوعاً من تضليل القارئ الأجنبي الذي لا يعرف بيئة العراق ولا تفاصيله المناخية.

وهناك أمثلة كثيرة جدا حين تكون صفة “الخيانة” لا مندوحة عنها، للأسف، لإطلاقها على مترجم غير ملم بأدوات مهنته.

س:// ما هو دور الترجمة في الحوار بين الحضارات؟

الإجابة:

الترجمة مهنة قديمة جدا، وتكاد تكون بقدم الانسان. ربما كانت ضرورات الترجمة بسيطة في بداياتها ولم تتجاوز حدود التواصل اللغوي البسيط. لكنها نمت وتشعبت وتعقدت بتشعب وتعقد حاجات الانسان وتشابك مصالحه مع مصالح الآخر. من أنصع الأمثلة على دور الترجمة الرائد في تجسير الحضارات هو الدور الذي قامت به بغداد العباسية في زمن المأمون، كما هو معلوم لدى الجميع. مسألة أن تدفع دار الخلافة العباسية زنة الكتاب ذهبا للمترجم تستحق ما هو أكثر من الشعور بالفخر والاعتزاز. ذلك ان تلك البادرة كانت بمثابة تكريم للكتاب واعلاء شأن العلم وتقييم جهد المترجم بما يستحق. ولا يخفى على أحد الدور الذي لعبته تلك الكتب المترجمة عن اللاتينية في حفظ القيمة العلمية لهذه الكتب الثمينة والتي شكلت الدعامة الأساسية لنشاة العلوم التطبيقية الحديثة. وهكذا نرى ان جهدا فريدا قامت به بغداد منذ عشرات القرون أسهم اسهاما كبيرا في التأسيس لنهضة علمية حديثة شملت أنوارها كل بقاع المعمورة.

س:// هل أنت راض عن مستوى الحراك على مستوى الترجمة؟ وهل قام المترجم العربي بدوره؟

الإجابة:

لا، أبداً! ليس لدينا حراك بل حركة سلحفاتية لا تدعو الى الفخر. الترجمة في العالم العربي في الغالب خاضعة لأمزجة الأفراد وليس هناك جهد مؤسسي منظم قائم على التخطيط وأخذ حاجة المجتمع بعين الاعتبار. طبعا هناك استثناءات، وهي تظل استثناءات للأسف. وجود بعض الجهات المتخصصة والتي كان لها دور ممتاز في رفد المكتبة العربية بما هو جديد في الكويت وبغداد(سابقاً) والقاهرة وأبو ظبي حالياً، لا يعني ان حاجتنا الى المزيد والمزيد من الترجمة الممنهجة قد انتفت. المترجم العربي لا يستطيع ان يقوم باي دور ذي تأثير مجتمعي بمفرده، ودون ان يكون مدعوما من قبل المؤسسة. المسألة بسيطة للغاية: مادام المجتمع العربي مجتمعا استهلاكيا ويعتمد في تأمين جميع حاجاته الأساسية في مجال التكنولوجيا والطب والعلوم على مصادر خارجية؛ فان تدعيم حركة الترجمة وجعلها مجهودا وطنيا في غاية الأهمية. والأمر لا يتوقف على نقل الكتاب الأجنبي الى العربية، بل ينسحب الى نقل الكتاب العربي الى الخارج أيضا.  وإذا كانت نسبة الترجمة من اللغات الأجنبية الى العربية بحدود 15% فان نسبة نقل الكتاب العربي الى اللغات الأجنبية لا تتجاوز 2% أو أقل من ذلك. القضية محزنة للغاية وتثير الاستغراب: ما هي حقا نسبة تفاعلنا مع العالم الخارجي يا ترى في عصر ثورة الاتصالات؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى