العقل الفلسفي بين التكوين التاريخي والبنية المعرفية

د. زهير الخويلدي | كاتب فلسفي – تونس

” لقد اقتصر دور العقل على إلقاء الكرة في الملعب الكوني وحال انطلاق تلك الكرة تنطلق المواد سريعا وحدها في طريقها الصاخب النابض بالحياة”1[1]

 العقل في اللغة العربية يعني أدرك وأمسك بعقله فكره. اذ يفيد الجذر اللغوي العربي عقل المنع والرباط  ويقال عقل الناقة أي ربطها وقيّدها، وبالتالي يمكن أن نستنتج أن العقل في اللغة العربية هو الفكر المقيد والمحدد بقواعد وقوانين ومبادئ. أما بالاغريقية يسمى لوغوس Logos أي الربط والجمع بين الكلمات وبين الأفكار. انه لغة وكلام وأساس وسبب وجود الشيء. في حين يعني Ratio باللاتينية نسق من الأفكار المتماسكة غير المتناقضة، المرتبطة وفق استدلال منتظم. لكن كيف يمكن للعقل أن يعقل ذاته قبل عقله للعالم؟ وكيف يتحول من أداة للتفكير الفلسفي إلى موضوع أساسي للتفلسف؟ وما المقصود بفلسفة العقل؟

من هذا المنطلق يمكن التمييز بين معنى موضوعي ومعنى ذاتي في الحقل الدلالي الفلسفي للعقل:

المعنى الموضوعي يشير إلى أساس الاستدلال ووجود الأشياء ذاتها: العقل هو الأساس الموضوعي للاستدلال أو لوجود شيء معين، ويفيد أمرين: الأول عقل الاستنتاج بإصابة الحد الأوسط في القياس المنطقي بما أن الحقيقة تقود إلى استخلاص حقيقة أخرى منها كانت غير معروفة في البداية2[2].

المعنى الذاتي يفيد ملكة اكتشاف والوصل والفصل بين الحقائق. بهذا المعنى يكون العقل ملكة تعلم الأسباب التي تقف وراء الأشياء والكلمات[3]. إن التوجه وفق العقل وقيادة الإنسان لحياته وفق قواعده وتوجيهاته هو معرف الباعث الذي يبرره. أما عقل الوجود فهو الذي يولي الاهتمام بواقع معطى ويتيح إمكانية تفسيره، وبالتالي هو الذي يؤسس استدلالا تفسيرا ويحدد سببية الواقعة ويعطيها علتها الغائية4[4].  وبأكثر تحديد العقل التام والبدئي للأشياء هو القدرة التي توجد كل الأشياء وتستكمل اندراجها في الكون5[5].

بيد أن العقل في المعنى الثاني هو الملكة الخاصة بالإنسان التي تعمل على تشكيل الأفكار وتمييز الحق عن الباطل وفهم تسلسل الوقائع والعلاقات بين الحقائق. على هذا النحو العقل هو هذا الجزء من النفس الذي يكتمل فيه الفكر ويضمن إمكانياته في المعرفة وفهم الأشياء وتقييم الغايات واختيار الوسائل بعد تروي6[6].

فبصورة عامة يعتبر العقل الملكة الخاصة بالإنسان التي بها يستدل ويربط بين المفاهيم وبين القضايا بالاعتماد على مبادئ منطقية. بهذا يختلف الفكر الاستدلالي عن الإدراك الحدسي لكونه ملكة اكتشاف والتحقق من النتائج بالتثبت من صدق الفرضيات بعد امتحانها وغربلتها. هكذا يعد العقل ملكة تفكير وتعقل واستدلال وذلك من خلال ربط الأفكار والقضايا وفق تسلسل منطقي واستخلاص التبعات والمستلزمات.

كما يتعارض العقل هنا مع التجربة ويمثل سلطة تفسيرية وقدرة توضيحية للوقائع الحسية من حيث هي تجليات للقوانين العقلية ويعمل على أن يكون ملكة استخلاص مجموعة من النتائج بالانطلاق من قواعد صورية7[7]. في نفس الإطار يمثل العقل القدر على الحكم الحقيقي على الأشياء والأشخاص بالتمييز بين الصواب والخطأ وبالتالي يشير إلى ملكة استعمال التمثلات في معرفة الأشياء وحسن تقييم قيمتها المناسبة. بعد ذلك تظهر هذه القدرة عند كل كائن بشري وتسمى نورا طبيعيا وتختلف عن الإيمان ويمكن تثقيفها عن طريق المنهج وتسمح لكل إنسان من تأسيس أفكاره الخاصة بواسطة الحقيقة الموضوعية التي تم التوصل إليها. لقد تميزت ملكة العقل بالبعد الكوني عند التطبيق وباختلافها عن ملكة الخيال والحواس وبقدرتها على الأخذ بعين الاعتبار الظروف المتنوعة والعلاقات المجهولة ولكن لا يمكن اختزال العقل في الذكاء والذهن. فالذكاء هو انعطاف الدماغ نحو قياس المهارات والقدرة على الانتباه بينما الذهن هو حركة الإدراك وملكة الفهم عن طريق امتلاك طابع تفكيري يسمح له من معرفة ذاته والوعي بعملياته الخاصة أثناء المعرفة 8[8].

لقد أقرت الحداثة الفلسفية بأن مهمة ملكة العقل تكمن في التمييز بين الصواب والغلط وبين الخير والشر وجعلوا من سلطته معيارا في الممارسة يحوز على وظيفة تشريعية تنصب على توجيه الفعل في الحياة9[9]

إن العقل هو القدرة على تشكيل الأفكار العامة بالانطلاق من التجربة والأفكار العقدة بالانطلاق من الأفكار البسيطة 10[10] وعلى ترتيب الحقائق المطلقة التي يصلها وفق سلسلة من الروابط الضرورية دون نجدة الإيمان وجمعها في نسق منظم بإعطاء مبادئ التفسير لكل واقعة. إن العقل هو النسق المنطقي ذاته11[11].  لقد تم التعامل مع العقل على أنه سلطة للإنسان للتحكم في شهواته وانفعالاته ومبدأ للسيادة على الذات وعلاوة على ذلك يمثل العقل مبدأ توجيهيا داخليا ينظم بواسطته المرء نفسه ويحدد ما يفعله أو يمتنع عنه,12[12]

غير أن العقل تطور بعد ذلك ليصبح ملكة إيجاد المبادئ بشكل قبلية حيث تم التمييز بين العقل من حيث هو متعارض مع  التجربة والعقل من حيث متمايز مع التجربة والحواس والخيال والتذكر. يوفر العقل في الحالة الأولى جملة من التصورات والمبادئ بشكل مستقل عن التجربة ولكن قابلة للتطبيق على المعرفة الموضوعية بالظواهر ويشكل منبع بعض التصورات والمبادئ التي تتجاوز إمكانية التجربة في الحالة الثانية ويتيح ذلك ظهور العقل المحض والتمييز بين المفاهيم المحضة للذهن وأفكار العقل13.[13]

العقل المحض هو الملكة التأملية التي تشتغل بشكل مستقل عن الحواس ومن حيث هي واعية بصورة قبلية بالمبادئ اليقينية والأفكار المتعالية ضمن الكلية المشروطة وتكون قادرة على المعرفة التفكيرية بذاتها. كما يحتوي العقل المحض القاعدة لامتحان حدود استعماله الخاص ونقد الاعتقاد في المعرفة دون التجربة14[14]. بينما يتضمن العقل العملي على قدرة تشريعية على الصعيد الأخلاقي ويشير إلى ملكة التحسين والتقبيح ويتمثل في تحديد الإرادة بالشكل المجرد الكلي للقاعدة العملية ويتحقق في الجمع بين الواجب والحرية. أما العقل بالمعنى التاريخي فهو الروح الواعية بذاتها تتعرف على الواقع ذاته وتمثل الهوية المتعينة للشكل والمضمون من حيث هو القانون المحايث للطبيعة وللتاريخ ويشير الى التقدم البشري  نحو نيل الحرية15[15]. أما وجهة النظر الفنومينولوجية  التي ظهرت بعد ذلك فتتعامل مع العقل كبنية كونية للذاتية المتعالية16 [16]. من جهة أخرى يتطابق العقل مع الفكر العلمي بوصفه النشاط الذهني الذي يشكل فعلية مستقلة ويتبع معيارا نسقيا ويشرف على تنظيم التجارب في مختلف تمفصلاتها مع النظرية وعلى طول مراحلها. لم تم التعامل مع العقل في الحقل الابستيمولوجي على أنه سلطة مبادئ تقيم شكل من العلاقة مع مجال التطبيق. بعد ذلك أدى النضج المعرفي والثورة العلمية إلى اعتبار العقل قادر على تشييد المعايير وتطبيقها والتحقق منها ضمن نسق مغلق وثابت من الواقع ولكنه قادر على مواكبة المسار التاريخي ومعرفته17[17]. بناء على ذلك قام لالاند18[18] بالتفريق بين العقل المكوِّن الذي يمثل جملة من المبادئ التي يستخدمها من الأساس في حقبة معينة في الاستدلالات والعقل المكوَّن يكون قابل للصيرورة ويتغير بالتطور المعارف عبر الكشوفات التجريبية والاختراعات العلمية الجديدة التي تتراكم عبر التاريخ ضمن مسارات التطبيق.لكن إلى أي مدى بقي العقل يمثل المصدر المماثل في العمق للتراتبية الدائمة لقيم ومعايير الحقيقة؟ وما المقصود بعقل الدولة في المجال السياسي؟ وماهو العقل العملي في المجال الأخلاقي؟ وماذا نعنى بالعقلنة والعقلانية والمعقولية ؟ وما الفرق بين العقلانية الأولى والعقلانية الثانية؟ وماهي خصائص المعقول؟

من المعلوم أن العقلنةratinalisation  تفيد التمشي الذي يقطعه العقل عند تفضيله التجربة العلمية على حساب التجربة العامية بعراكه متواصل مع العوائق المترسبة والآراء الجاهزة وتخطيه جملة العتبات الابستيمولوجية وتطبيقه عدد من آليات الصناعة والتصرف والتنظيم في العمليات التقنية التي ظلت مجرد خبرات عشوائية واستعمال قواعد استنتاج بعد إخضاع العمليات المعرفية إلى امتحان منهجي للوضعية. كما تحرص العقلنة بهذا على منح الذات العارفة تفسيرا مقبولا عن دوافع تصرفاتها وبواعث ميولاتها وجاذبية مصالحها التي تظل بالنسبة إليها غير واعية وتمكنها من التخلص بصورة فعلية من كل تحيز19[19]. أما العقلانية فهي تدل على الطابع الذي يستند عليه العقل في محاولته التكيف مع الطبيعة وجهده المبذول في اتجاه إنتاج المعرفة العلمية على الصعيد النظري وتشريع القيمة المناسبة لتوجيه السلوك الإنساني20[20]. على هذا الأساس يوجد علاقة قربة بين العقلاني والمنطقي وبين المعرفة المعقولة والضرورة المنطقية ويجب على العقلاني أن يكون متفقا بشكل تام مع قواعد الاستدلال وطريقة التفكير حتى يمتلك وسائل تقنية تكون قادرة على بلوغ نتائج يقينية وينبغي أن يتأسس المتعالي على مبادئ قبلية يتضمنها العقل المحض21[21].في حين يصادر المذهب العقلاني على خلاف المذهب التجريبي بأن كل أمر يحوز على سبب وجوده في العقل وينتمي إلى سلسلة موضوعية من الحقائق الأبدية والضرورية التي تكون مستقلة عن الفكر البشري.بطبيعة الحال يرفض المذهب العقلاني أن تكون المعارف متأتية بصورة حصرية من معطيات التجربة ويقر بأن الإحاطة بالواقع يتطلب أوليات وقواعد بديهية يستمدها من ذاته ولا تأتيه من التجربة الحسية22[22].بهذا المعنى يعد العقل الملكة التنظيمية للتجربة عن طريق تصورات ومبادئ قبلية التي توفر الأطر الصورية لكل معرفة ممكنة بالظواهر وتحوز بذلك على قدرة تفسيرية للواقع الخارجي عن طريق التركيب الموجه بين المعايير والانطباعات ومن خلال تأليف منهجي بين المقولات والخبرات23[23]. في نهاية المطاف يمكن إطلاق مصطلح العقلانية النقدية على التواضع الذي يبديه العقل في دعاويه نحو امتلاك الحقيقة ومعرفة الواقع في ذاته كما يزعم الوثوقيون واكتفائه بمعرفة المظاهر وتاريخية المعرفة. إن الوثوقوية هي اللاعقلانية والريبية وثوقية مضادة لنفيها إمكانية المعرفة، أما المذهب العقلاني فيقبل الصيرورة والتغير ضمن معارفه ويثق بقدرة الإنسان على إنتاج معرفة موضوعية وبناء حكمة ملموسة. فماهي القيمة المضافة للعقل في المجال المعرفي وفي الحقول التطبيقية؟ وكيف تكون العقلانية في صيغة المفرد والمعقولية في صيغة الجمع أداة الشعوب في الانعتاق والتقدم؟

يعتمد المرء على العقل في حياته مثل اعتماده على الوسائل الإدراكية والمعرفية الأخرى بغية الوعي بالذات والاتصال بالعالم الخارجي والتأقلم مع المجتمع وتشييد مجموعة معايير متفق عليها بين الكل. بيد أن استعمالات العقل تختلف من شخص إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى وتتزايد وتتناقص حسب الطلب والحاجة وتتراوح بين السلب والإيجاب وبين الضرر والنفع وبين التخصيص والتعميم وتتأرجح بين التحرير والتقييد وتتعالى على الحواس والنص حينا وتخضع لمحك التجربة والتثبت العلمي أحيانا أخرى.

لقد عرفت العقلانية تحولات قسرية دفعت بها إلى خوض معركة ضد الطبيعة من خلال التقنية الصناعية وارتداء ثوب الأداتية وممارسة الترييض للظواهر الفيزيائية وسعت إلى تكميم النوعية والسيطرة التقنية على العالم والتخلي التدريجي عن المصادر الإغريقية لكلمة عقل التي تفيد الحوار والخطاب والتوضيح.

فما المقصود بالعقل الأداتي؟ ومتى تشكل؟ وماهي وظائفه ومجالاته؟ ولماذا اعترض عليه العقل النقدي  وناقشه ؟ وماهو الدور العمومي للعقل؟ هل يقتصر على البعد التداولي الحسابي أم يمكن إيجاد أرضية تواصلية حوارية؟ وكيف يحل العقل التواصلي محل العقل الأداتي؟ وماهي مكاسب العقل التواصلي؟

يعبّر العقل الأداتي عن العقلانية الأداتية التي لعبت دورا هاما في تطور المجتمع الرأسمالي على الصعيد المادي ويتفق مع العقل الحسابي والعقل التقني والذكاء الاصطناعي ولكنه يمثل أيضا منطقا في التفكير وأسلوب في الحياة ورؤية للعالم تنبني على التخطيط والبرمجة والتنفيذ والعد والتوجيه والتسيير والمتابعة المستمرة ويقر بتبعية الجانب النظري التأملي للجانب الواقعي المنفعي وأولوية انتقاء الوسائل قبل الغايات.

بيد أن العقل في مظهره الأداتي تحول إلى أداة لممارسة الهيمنة على الإنسان والطبيعة وتقنية للاستعباد والاستغلال في المجالات التبادلية وحاز على طبيعة اختزالية لقوته وفقد قدرته على إدراك الحقائق وتمييز الأشياء وتقلصت وظيفته المعيارية الأصلية وأصبح أيديولوجيا متكلسة وآلة فاقدة للمعنى والحياة وتتصف بالإقصاء والتمييز والانتقاء وترجع اتخاذ القرار إلى جملة من الخبراء وتعطي سلطة التصرف للتقنيين.   ” العقل الأداتي هو العقل المهيمن في المجتمعات الرأسمالية الحديثة التي فقد فيها العقل دوره كملكة فكرية وتم تقليصه إلى مجرد أداة لتحقيق أهداف معينة، وفقد رؤيته للهدف وأصبح مجرد أداة لتوفير الوسائل”24[24] ، على هذا النحو تأتي سلبيات العقل الأداتي من تمركزه حول ذاته والتعامل مع النموذج العلمي التقني بوصفه معيار الصلاحية وشرط النجاعة وإخضاع كل الأبعاد العملية والفنية للقولبة واغتصاب ما فيها من جمالية وتعبيرية والتركيز على البعد الكمي وعلاقات التماثل والتطابق والثبات عند النظر إلى الإنسان والطبيعة وتعمده إهمال الخصوصية ومحاولته إتلاف التغير والاختلاف والتنوع وإغفال الجدة والابتكار. أما في الفلسفة الاجتماعية يقصد بالعقل الأداتي ذلك النمط من التفكير الذي يعرف مشكلة ما ويسعى لحلها مباشرة دون تساؤل عن مضمون هذه الحلول والتبعات التي تنجر عنها وما إذا كانت إنسانية أو لا، بينما العقلانية الأداتية هي موضوع دراسة لكل من  السوسيولوجيا والفلسفة الاجتماعية والفلسفة النقدية ، وأول ناقد جدي ربما لهذه الأداتية هو مارتن هيدجر الذي يحاجج معاصريه بأن أكبر خطر يحدق بالعالم الراهن هو العلاقة الأداتية التي تربط العلم بالعالم والقائمة على السيطرة على الطبيعة واستعباد الإنسان للإنسان. في العقلانية الأداتية يتم التعامل مع العقل كشيء منفصل لذاته ومعزول عن الإنسان ويمكن استعماله كأداة بمعزل عن غاياته وأهدافه الإنسانية وخارج إطار الذات الواعية التي تحمله والحرية التي ترتبط بمصيره. لقد بات العقل أداة لإنتاج أشياء قابلة للتداول وصناعة الثقافة والنجاح وبرمجة العقلنة بشكل مسبق ونشرها في العالم بطريقة مسقطة وتعسفية وكرس الاستعمال الناقص والخاطئ والمشوه لما ينتجه التفكير الحاذق. كما يهتم العقل الأداتي بأسئلة كيف وبماذا ومتى؟ ولكن يهمل أسئلة لماذا وما الغاية من وما قدر هذه؟ وينقد الأشكال دون المضامين ويسقط في التشيئ والاغتراب ويعكس آليات التبادل المجرد والشكلي للرأسمالية.

والحق أن العقل الأداتي هو جهاز تكنوقراطي يسيّر المعرفة والمجتمع من المركز ويهمّش جل الأطراف ويؤسس للشخصية السلطوية والنظام الشمولي وبيروقراطية الإدارة واستبداد الديمقراطية وفردانية الحكم.

بهذا المعنى يشرع العقل الأداتي العلاقة النزاعية بين الإنسان والطبيعة ويحول المعرفة العلمية إلى أداة للغزو ويترتب عن ذلك إهدار لإنسانية الإنسان وتلقائيته وبراءته الأصلية وطاقته وقدرته على المبادرة ويعود في الأصل إلى هيمنة المنطق على عالم الحقيقة وميله إلى إخضاع الأشياء وينتصب عائقا معرفيا بتفضيل الاكتفاء بالمحصل والقيام بعمليات الإحصاء والحساب والتنظيم والتوقف عن الاستشراف والخلق.

 المشاكل التي أوقع في ها العقل الأداتي الحداثة هي المحاكاة والإسقاط والفصل بين الذات والموضوع والتشكيل العقلاني للمجتمع من خلال النموذج السبرنيطيقي والتنكر لهموم السياسية البشر ومطلب التحرر وصناعة الإنسان ذي البعد الواحد في المجتمع ذي البعد الواحد وتكثيف أدوات القمع والعمل على إفناء الذات وجعلها آلة راغبة وأداة للاستهلاك في عالم مفتوح يعج بالصور والرغبات غير قابلة للإشباع.

فكيف ساهمت العقلانية الأداتية في قيام العقلانية النقدية في شكل متقدم وفي مستوى أعمق ومزدوج؟

يأتي العقل التواصلي بديلا عن العقل الأداتي ويتم التركيز على العقلانية التواصلية ونقد العقلانية الأداتية وتم الاعتراف بفعاليات وأبعاد يتضمنها العقل تتجاوز العد والحساب والتمركز والانتقاء والتجزئة والهيمنة ووقع الإقرار بأن مسارات العقلنة تجرى في دروب متنوعة وتغطي كل ما اعتقد أنه معقلن وما لا يقبل العقلنة وتجسد ذلك في نظرية الفعل التواصلي عند يورغن هابرماس والمبدأ الحواري عند بول ريكور.

” إن هذا العقل يتجاوز العقلانية الغربية التي أعطت أولوية مطلقة للعقل الغائي والتي تهدف إلى تحقيق مصالح وغايات معينة، فهذا العقل يبنى على فعل خلاق يقوم على الاتفاق وبعيدا عن الضغط والتعسف وهدفه بلورة إجماع يعبر عن المساواة داخل فضاء عمومي…يرتكز على التفاهم والتواصل العقلي”25[25]

لقد طالب بورغن هابرماس في نظرية الفعل التواصلي بوجوب أن يكون الفعل التحرري مؤسسا على العقل، لأن المهمة الجوهرية للنظرية هي تعقيل الواقع والأحداث وذلك بإقامة نظام عقلاني للمجتمع.      

يقوم هابرماس بتقسيم أنشطة العقل إلى قسمين: نشاط معرفي أداتي مرتبط بغاية ويحقق منفعة ويستخدم المعرفة من خلال التقنية بغية التحكم في الطبيعة والبيئة التي تحيط بالإنسان. في حين يعد النشاط الثاني فعلا تواصليا تمارسه الذوات القادرة على الكلام والفعل والحوار ويكون غرضه الأول بلوغ التفاهم.

تدور العملية التواصلية التي ينخرط فيها العقل بشكل مباشر في العالم المعيش وتمثل الشخصيات العاقلة دور البطولة في هذه العملية وذلك عن طريق اللغة واللسان والكلام والفعل والحديث والحوار والنقاش والتفاوض والمشاركة الايجابية في صناعة القرار والتأثير في الرأي العام وتوجيه الميولات والأذواق.

ليس العقل جوهرا مكتملا ولا واقع بذاته بل حالة افتراضية وخزان من الوعود المشرعة على المستقبل وطاقة تفكير وتصميم وعمل ونسق من البدائل الممكنة التي تنتظر اتفاق الذوات على وضعها محل تنفيذ.

يعترف هابرماس بأن العقل التواصلي متجذر في الممارسة اللغوية وبأنه يهدف من استعماله وضع نظرية نقدية في المجتمع والتدخل في الفضاء العمومي عن طريق تجاوز الذات لذاتيتها وإقحامها في المشاغل المشتركة والإحساس بالآخر وتقديم يد العون له ولذا يضطر إلى التأليف التقاطعي بين العلم مجال الواقعية الموضوعية والأخلاق مجال المعايير والمشروعية والفن مجال القيم والدلالات الرمزية والأبعاد الجمالية.

لا يمكن بلوغ درجة العلاقات التواصلية عن طريق الواسطة اللغوية التي تتدخل ضمن النشاط الاجتماعي ويتم تثمين أبعادها التداولية والارتقاء من الأقوال والألعاب اللسانية إلى الحركات اللغوية وأفعال الخطاب.

كما تسمح اللغة بالنقاش والحوار ويسمح المناظرة والمحادثة من التفاوض والتنازل والتسويات ويؤدي ذلك إلى التعاقد والاتفاق والتفاهم والقبول بالعيش المشترك والرضا بالقسمة العادلة في المصالح والمواقع.

 من شروط التواصل هو التحرر من أشكال الضغط والسيطرة والإكراه والهيمنة وتمكين جميع الأطراف من التعبير عن آرائها والدفاع عن نفسها وتكريس ديمقراطية النقاش التي تضمن الإجماع عن طريق الإقناع بالحجة الكافية والتفاعل الايجابي بين الذوات وتقريب وجهات النظر وتقديم التنازلات. فإذا كانت اللغة هي الوسيط الأساسي للتواصل بين الذوات وكان التفاهم رهين الاتفاق بين المشاركين في كل عملية للنقاش العمومي فإن مهمة الفعل التداولي هو إعادة بناء الشروط الممكنة للتفاهم في كل حوار يقع تنظيمه. 

تسعى العقلانية التواصلية إلى بناء وعي متكامل له توجه اجتماعي عبر عقلنة الواقع وتطهيره من أشكال الاغتراب والممارسات اللاإنسانية ومن براثن اللاّعقل الذي يحاصر الحياة وخلق شروط القيمة المضافة بعدم التكيف مع تفاهة المجتمع ومقاومة الإحباط واليأس ونقد النزعة الوضعية وإدماج الأنظمة الشمولية

جملة القول أن الأفعال التواصلية لا تتحقق إلا بتغيير جذري وشامل في المجتمع عن طريق ارتقاء بالكلام المتداول بين الذوات إلى طبقة عالية من العقلانية والاحتكام الى قواعد صلبة ومعايير صالحة في الكليات التداولية واكتساب أشكال نموذجية من أفعال الكلام مع تحصيل الكفاءة على الأداء والمقدرة اللغوية على التأثير والفعل.  لكن كيف أدت العقلانية التواصلية إلى المطالبة بتشييد تداولية كونية بين المجتمعات؟

الإحالات والهوامش:

[1] أنتوني جوتليب، حلم العقل، ترجمة محمد طلبة نصار، دار العلم والمعرفة، القاهرة، طبعة جديدة، 2018  ص121.

[2] Descartes René, discours de la méthode, GF, partie 2, p47.

[3] Leibniz G.W, Nouveaux essais sur l’entendement humain, GF, livre, IV, chap XI, paragraphe 13, p396 ; chap XVII, paragraphe03, p421-422.

Rousseau J.J, Émile, livre 4, G F,  p.387.

Cournot A.A, Essai sur les fondements de la connaissance, cité in Textes choisis de Critique philosophique, édition PUF, pp55-57.

[4] Aristote, Organon, Seconds analytiques, édition Vrin, livre II, chap2, 90a 6-19, p164-165.

Leibniz G.W, Essai de théodicée, édition GF, partie 3, paragraphe 307, p299.

[5] Marc Auréle, Pensées, in les Stoïciens, PL Gal, livre 1-2, p1179.

Montesquieu, De l’esprit des lois, édition GF, chap 1,, p123.

[6] Aristote, Ethique à Nicomaque , édition Vrin, livre VI, chap2, 1139a5, p275.    

[7] Platon, la République, Pl Gal, livre VI, 511e, p1101.

Hobbes Tomas, Leviathan, Sirey, chap5, p37-38.

Pascal Benes, Pensées, Pl Gal, pensée110, p1221-1222.

Hume David, Enquête sur l’entendement humaine, GF, se, IV, partie 1, p87.

[8] Epictete , Entretiens, in les stoïciens, Pl Gal, livre1, paragraphe 4-6, p808.

Descartes René, discours de la méthode, GF, partie1, paragraphe33, partie4, p65, partie5, p79-80.

Spinoza B, Traité théologico-politique, GF, chapitre XV,p254.

[9] Descartes R, lettres à Elisabeth, lettre 4 aout 1645, GF, p113,lettre 1 septembre 1645, p126.

[10] De Condillac  E, Traité des animaux, édition Vrin, partie 2, chapitre V, pp490-491.

Rousseau J.J, Emile, GF, livre2, p202.

[11] Leibniz G W, Essais de Théodicée, GF, Discours, paragraphes 50, 58, p84.

[12] Marc Aurele , Pensées, in les stoiciens, PL Gal, livre IV, 4, p1160.

Spinoza B, Ethique, GF, partie4, scolie de la proposition XVIII,p236-237.

Kant E, Fondements de la Métaphysique des mœurs, édition Delagrave, section2, p114,120.

[13] Kant E, Critique de la raison pure, Édition PUF, dialectique transcendantale, introduction, II, pp. 254-256-258.

Kant E, Fondements de la Métaphysique des mœurs, édition Delagrave, section3, p190-191.

[14] Kant E, Critique de la raison pure, Édition PUF, dialectique transcendantale, introduction, II, pp.13-14.

Kant E, Prolégomènes à toute métaphysique future, édition Vrin, introduction, p17.

Kant E, Critique de la faculté de juger, édition Vrin, paragraphe 76, p218.

Kant E, Critique de la raison pratique , édition PUF, introduction, pp13-14.

[15] Hegel F, principes de la philosophie du droit, édition Vrin, préface, p57-58.

Hegel F, Science de la logique, AM, tomme1, livre1, introduction, p17.

Hegel F, phénoménologie  de l’esprit, édition Aubier, tomme1, p196, tomme2,p09.

Hegel F, leçons sur la philosophie de l’histoire, édition Vrin, introduction, p22.

[16] Husserl E, Méditations cartésiennes, édition Vrin, méditation 3, paragraphe 23, p48.

[17] Bachelard G, la philosophie du non, édition PUF, chapitre1, p33, chapitre144.

Bachelard G, la formation de l’esprit scientifique, édition Vrin, chapitre, p17.

[18] Lalande A, la raison et les normes, édition Hachette, chapitre1, pp16-17 .

[19] Hegel F, principes de la philosophie du droit, édition Vrin, préface, pp54-56.

Hegel F, phénoménologie  de l’esprit, édition Aubier, tomme1, p49.

[20] Cournot A A, Essai sur les fondements de la connaissance, in textes choisis de Critique philosophique, Edition PUF, p30.

[21] Kant E, Critique de la raison pure, édition PUF, Dialectique transcendantale, livre1, section2, pp267-271.

[22] Descartes R, Principes de la philosophie, in Œuvres philosophiques III,  Ga, pp775-776.

[23] Kant E, Critique de la raison pure, édition PUF, préface de la 2 édition, p17.

[24]Horkheimer  Max,  l’éclipse de la raison,  traduit par Jacques Debouzy et Jacques Laizé, éditeur Payot,  Paris, 1974.

[25]Habermas Jürgen, la théorie de l’agir communicationnel, 1981,

 Tome1 : rationalité de l’agir et rationalisation de société,

 tome2 : pour une critique de la raison fonctionnaliste, VI, édition Fayard, traduction française 1987.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى