كورونا… وقفة مع الذات
سهيل كيوان | فلسطين
أتاحتْ جائحة كورونا للكثيرين، وأنا واحدٌ منهم، استراحةً ووقفةَ تأمّلٍ في حالِ الإنسان ومعنى وجودِه.
هذا الإنسانُ الذي يرسلُ المركباتِ الفضائيةَ إلى الكواكبِ البعيدةِ، ويرسلُ آلةً تأتي له بحفنةِ ترابٍ عن سطحِ القمرِ أو المرِّيخ، مخترعُ الكمبيوتر، ومُبدعُ الكهرباء والموسيقى وندوات “زووم”، وسدرِ الكنافةِ وطبقِ الحُمّصِ الأكبرِ في العالم، يقف حائرًا أمام فيروسٍ غامضٍ، يحتاجُ إلى تكبيره عشرات آلاف المرّات كي يستطيعَ رؤية حُزمةٍ منْهُ.
تابعوا تطبيق “عرب ٤٨”… سرعة الخبر | دقة المعلومات | عمق التحليلات
إنها فرصةٌ للتأمل، ماذا سيكون مصيرُ البشريةِ إذا ما هاجمها فيروس أشرسُ وأشدُّ قوّة من (كوفيد- 19)؟
الحقيقة أن هذه الجائحة منحتني فائضًا من الفراغ، وأعادتني إلى ذاتي، وإلى داخلي.
أرجعتني الصدف والفراغ إلى هواية قديمة، كنت قد بدأت في ممارستها قبل أربعين عامًا ،ولكنني كنت قد أقلعت وتنازلت عنها بعد أشهر في حينه، لسببٍ لا أودُّ التطرقَ إليه، وهي هواية العزف على آلة الغيتار، فقد أحضر ابني لحفيدتي غيتارًا، وصرتُ شريكًا معها، وعدتُ لأمارسَ هوايتي القديمة بشغفٍ، فأشعر بالرضا إذ أمارس أمرًا أحبّه، وهذا جعلني أقارن بين الموسيقى والكتابة التي أحبها، وأستمتع بها.
الموسيقى متعةٌ لا تضاهيها متعة، فهي تنقلك إلى عوالمَ مدهشةٍ. هي شيء غير ملموس، إنها مثلُ الفكرة، فإما تكون متناسقة وجذابة، أو مشتتة تفتقر إلى التناسب بين جملِها ووحدةِ موضوعها ومنفّرة.
قبل الجائحة، كنت قد بدأت في كتابة قصّة للفتيان حول موضوع التبرّع بالأعضاء، هذه الفترة أتاحت لي صقلها حتى صارت جاهزة، وسوف تصدر خلال أسابيعَ قليلةٍ إن شاء الله، وذلك عن “مكتبة كل شيء” في حيفا.
كذلك كنت قد بدأتُ في كتابة روايةٍ عن العنف الذي يضرِبُ مجتمعنا، وبرأيي أنه أخطر من كورونا، وقد منحني هذا الفيروس النذل وقتًا وفرصةً لبلورتها وصياغتها. أسميه نذلا لأنه يهاجم المسنين ومن يعانون أمراضًا مزمنة.
مشاهد المطارات وميادين المدن وأمكنة الترفيه والمراكز الثقافية الفارغة، دفعت بمشهدِ ضعف الإنسان إلى السطح.
شعرتُ بمأساة موت ذلك الإنسان الذي لا يستطيعُ ذووه أن يودِّعوه للمرة الأخيرة. تشعر بأهمية هذا الوداع له ولهم، وبعزاءِ موتِ الإنسانِ محترمًا بين أحبائه، وبِحُرقةِ وحسرةِ أولئك الذين يموتون غرباء عن أهلهم وعن أوطانهم، فلا يُمسك أحد بأيديهم لحظة الوداع، ويدفنون في أرض غريبة، لا أنيس فيها، لا فوق ولا تحت الأرض.
هذا أخذني إلى سؤال فلسفي؛ هل هناك أهميةٌ للتربة والمكان الذي يُدفن الإنسان فيه بعد موته؟ ما الفرق بين دفنِه في بلده في مجد الكروم مثلا، وبين دفنه غريبًا في هلسنكي؟ ولماذا يتمنى أكثر المغتربين والمهاجرين الموتَ في أوطانهم، حتى أنّ بعضهم قد يوصي بحرق جثمانه وأخذِ رمادِه وذرِّه أو دفنِه في وطنه الأول، كما في رواية مصائر للكاتب ربعي المدهون، وقبلها في رواية باب الشمس لإلياس خوري.
ألن يغدوَ الجسدُ ترابًا وعدمًا هنا وهناك؟ إذن ما سر هذا الحنين إلى تراب الوطن حتى ولو بعد الموت؟
تشعر أن كبار السّن ليسوا عبئًا على المجتمع، ولا تنتهي صلاحيتُهم للمسة حب منهم وإليهم، مهما كبروا وشاخوا، بل هم صورتُنا إذا ما كنا صالحين أو جاحدين.
عندما ترتفعُ وتيرةُ الموتِ، تشعر بخفّة مفارقة الإنسان للحياة، وحتى أولئك الذين ظننت أنهم ما زالوا أقوياء وأصحاء وقادرين على مواجهة المرض، فجأة ترى صُورَهم ونعيَهم، ومن جديد تشعر بهشاشة الإنسان وضعفه.
اقرأ/ي أيضًا | لامبالاة…
في الوقت ذاته، لا يسعك إلا أن تحترم أولئك البشر الذين يصلون الليل بالنهار، كي يجدوا العلاجَ أو اللقاح لهذا الوباء أو غيره، وتلاحظ مدى تخلف النظام العربي كله عن ركب الإنسانية، في الوقت الذي يبدع فيه بعض الأفذاذ العرب في شتى مجالات العلوم، ولكن هناك بعيدًا عن أوطانهم، في أوروبا وأميركا، حيث تعطي تلك الأنظمة موارد لا تنتهي للبحث العلمي.
تشعرُ كذلك بقوةِ الدعايةِ في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، فبعض الناسِ ما زال ينظرُ إلى المرضِ كمؤامرة عالمية تهدف إلى تقليلِ أعدادِ البشر، وتكتشف كم يعاني الناس من الاستلاب أمام الأجنبي، الذي قد يكون كلامُه هراءً غير مستندٍ إلى قواعدَ علميةٍ أو إلى أي منطق.
الوباء حقيقةٌ وليس مؤامرةً، فالخسائر الاقتصادية هائلة، فهل يتآمر الشيطان على نفسه؟
أتمنى للجميع لقاحًا ناجحًا بدون أعراض جانبيّة ترافقه، والعودة إلى الروتين، فالروتين لا بأس به أيضًا، وليس علينا سوى أن ننتبه إلى ابتسامته لندرك جماله.