وجبة.. قصة قصيرة

د. سامي الكيلاني 

يتحرك حركات لا يريد لها أن تتوقف عساها تعطي جسده بعض الدفء في هذه الزنزانة المكتظة أجواؤها بإبر من البرد الكانوني تخز كل عضو في جسمه، ويمارسها خشية أن ينام في هذا البرد الشديد على أرض الزنزانة العارية. أمران أحلاهما مر، إن حرمت من النوم سينهار جسدك، وإن غفوت على هذه الأرضية الثلجية سوف تيبّس جسدك، فاختار الأولى لأن النوم والتعب يمكن تعويضهما عند الخروج المأمول من هذه الثلاجة. عزّى نفسه بأنه في حالة السيء وليس الأسوأ، إنه اليوم غير مقيّد اليدين خلف الظهر، وأنه غير مقيد للحائط كما كان الوضع قبل يومين، نافذة من الإيجابية انفتحت له، فزاد من حركته وشعر بدفء جديد يدب كالنمل في جسده.
كانت جولة التحقيق الأخيرة صعبة، توحش المحقق فيها أكثر من الجولات السابقة، فقد أعصابه إزاء فشله في أخذ ما يريده، وفي نهايتها ضربه ضربة مفاجئة موجعة على ظهره وشتم شتيمة بالعبرية وخرج. جاء آخر وأخرجه من غرفة التحقيق ووضعه في هذه الزنزانة دون قيد بيديه وخرج. فكّر “لماذا فعل ذلك؟”، أسكت تساؤله ورد عليه “مهما كان السبب، كن مستعداً لما سيأتي بعد ذلك، معركتك الآن مع البرد، كل شيء في وقته”، وعاد إلى معركته مع البرد.
تحرك بسرعة أكبر ليزيد من حصاد الدفء، ولكنه شعر بتعب مفاجئ، انضمت المعدة الفارغة التي يعتصرها الجوع إلى العناصر التي تستهدف هذا الجسد. لم يأكل منذ الأمس شيئاً. قبل ساعات جاءه أحد ضباط المخابرات الذين يحققون معه بصحن فيه بعض الطعام، وضعه أمامه ثم نظر في وجهه بحركة مصطنعة “أنت؟! آسف، أنت لا يلزمك طعام” وأتبعها بضحكة ساخرة لئيمة ثم أخذ الصحن ومضى.
ترك كوة الزنزانة مفتوحة، ربما لغاية في نفس يعقوب، ياكوف المحقق السيء الصيت وليس النبي يعقوب. مهما كان الأمر، فالكوة المفتوحة خير من المغلقة مهما كانت حاجة النفس اللئيمة لياكوف. المعتقل الموجود في ممر زنازين التحقيق قبالته صامت ويجلس القرفصاء مسنداً رأسه إلى كفيه، حاول التحدث معه أكثر من مرة لكنه بقي صامتاً، يبدو أنه غارق في القلق أو مكبلاً بخوف من “الذين يسمعون الهمسات” كما يعتقد أو كما جعلوه يعتقد بأنهم يرصدون حركته وأنفاسه. لمح بقايا طعام في صحن قريب منه، فطلب منه أن يعطيه البقايا من بين قضبان الكوة التي بقيت مفتوحة، لكنه كان خائفاً، همس بصوت يكاد لا يسمع مستعيناً بإشارات من يديه وعينيه، “قد يعرفون ويضربونني”، كان فتى يعلو وجهه زغب لحية في طور النشوء، شجّعه “لن يعرفوا”، فتشجع الفتى وناوله البقايا قطعة قطعة من خلال القضبان بسرعة كالإنسان الآلي وهو يرتجف وعينه على طرف الممر.
شكره، وأكد له بأنهم يكذبون، لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً من مخاوفه، إنهم مشغولون بالتحقيق مع غيرهما الآن، واختتم على عجل بكلمات تشجيعية.
جلس على الأرض الباردة، ووضع الوجبة التي وصلته في حضنه، تناولها لقمة لقمة بتلذذ وكأنها مائدة وافية الكمال. قضم بقية الفلفل الأخضر الملاصقة لعنق الثمرة بعناية ليأتي عليها كاملة، كانت وجبة انتصار أكثر من كونها طعاماً، أكلها بشهية وتجشأ بصوت عالٍ. نظر إلى البقية التي سلمت منه، عنق الفلفل الأخضر وتجمع البذور البيضاء، ضحك في سره، تذكر وصايا والدته “الولد الشاطر لا يبقي في صحنه شيئاً”، بوده أن تسمعه وهو يقول “هل أعجبتك؟ هل تعطيني شهادة ولد شاطر؟” ويحصل على شهادة منها بذلك.
نظر إلى الفتى الذي لم يعد مقرفصاً كما كان وصار يتحرك حركة موضعية فرأى علامات من الانفراج على وجهه الذي كان قبل قليل يقطر قلقاً وخوفاً، فبدأ هو الآخر يتحرك بالجري الموضعي ويستقبل في جسده مزيداً من أمواج الدفء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى