اليهود والهيكل.. قراءة تاريخية منهجية
الدكتور خضر محجز | مفكر فلسطيني
مقدمة حول كتابة التاريخ
يُكتب التاريخ من خلال أربعة مصادر: المشاهدة، والرواية الشفهية، والوثائق الرسمية المحفوظة، الآثار والحفريات. وكل فرع من هذه الفروع الأربعة يعتوره الكثير من الشكوك: فالمشاهدة مصبوغة بهوى المشاهد، ومحدودة بما يرى، والزمن الذي يرى فيه. أما النقل الشفهي عن الرواة، فعرضة للنسيان والهوى. وأما الوثائق الرسمية، فيخطها المنتصرون. وأما الآثار فكثير منها ضائع، وأغلبها لم يُكتشف.
لكن اللافت أن بعض المهتمين العرب بكتابة التاريخ، يظنون أن القرآن لا يصلح مصدراً لكتابة التاريخ، مقتدين في ذلك بمؤرخين غربيين رأوا التوراة كتاباً متناقضاً غير عقلاني، ففصلوا بين ما يقول، وبين ما وقع بالفعل؛ فأُغرم المؤرخون العرب بجعل هذا منطبقاً على القرآن. وفي مثل ذلك يقول الدكتور طه حسين:
“للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً؛ ولكن ورود هذين الاسمين، في التوراة والقرآن، لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي” (في الشعر الجاهلي. القاهرة. ع149. 31).
والحق أن الفرق بين صحة ما قاله القرآن، وما نقلته التوراة كبير وواضح: من حيث أن تدوين أولهما كان في حياة التنزيل، فيما كان تدوين الثاني من الذاكرة بعد قرون.
والحق أن كل ذلك الديني يستحق أن يتم تمحيصه ونقده وعرضه على العقل:
فأما القرآن فقد محصناه بحثاً فوجدناه وثيقة لا يمكن الشك بأي حرف فيها، من حيث الثبوت عن المصدر.
وأما التوراة فشأنها شأن الوثائق المدونة منذ القدم، إن لم تكن أشد وثوقاً، لاعتناء كاتبيها أكثر من غيرهم بما كتبوا.
وأما الرواية الشفهية، فنطبق عليها قوانين ضوابط الروايات الشفهية، قبل تدوينها، ثم طبقنا عليها قوانين فحص صدقية ما ورد في المدونات، بعد أن وصلت إلينا الآن مدونة. لكن دعونا نتذكر بأن الرواية الشفوية ـ في حالة الأحاديث النبوية ـ قد حظيت بسند متين صحيح، ونقد متمعن، أديا إلى الحكم عليها، بعد الامتحان العسير. وكل ذلك حدث قبل وبعد تدوينها في الكتب.
ولعمري أن لو أراد كاتب تاريخ أن يقتصر على المشاهدة والوثائق الرسمية والآثار، لما كتب شيئا يُذكر، ولضاع منه الكثير، مع أنه سيعتمد على مصادر ليست أكثر موثوقية من الكتب الدينية والأحاديث النبوية.
محددات
في هذا المبحث أرجو ملاحظة المحددات الآتية:
1ــ حين ترد كلمة التوراة في كلامي هنا، فسيكون المقصود بها كتاب اليهود الموجود بين أيدينا، لا الذي نزل من السماء، ولا نعرف ما حل به على وجه الدقة، باستثناء أنه قد تم تحريف بعضه.
2ــ التواريخ الواردة قبل الميلاد ــ كما هي في كل البحوث التاريخية ــ تقريبية. ويزداد احتمال دقتها كلما اقتربت من العصور الميلادية.
أبناء إبراهيم:
في العام 1900 قبل الميلاد هاجر نبي الله إبراهيم ــ عليه السلام ــ من العراق إلى فلسطين، بعد نجاته من النار التي ألقاه فيها قومه الكلدانيون. وحين وصل أرض كنعان ــ كما تقول التوراة ذاتها ــ لم يجدها خالية، بل كان فيها سكانها، العرب الكنعانيون والفلسطينيون، سلالة المهاجرين من الجزيرة العربية وبحر إيجة؛ وكانت لهم مدنهم وقراهم وصناعاتهم وحضارتهم وآلهتهم وفنونهم… تنطق بذلك التوراة، ولا تنكره، بل تصرح بأن أهل البلاد الأصليين هم من وهبوا إبراهيم المغارة، التي دفن فيها زوجته سارة، على كليهما السلام. (التكوين. 23/11).
تنقل إبراهيم وزوجته بين عدة أماكن في فلسطين، وسافرا سوياً إلى مصر، ورجعا منها إلى فلسطين بالجارية القبطية هاجر، التي أهداها الحاكم المصري لسارة، بعد قصة درامية حكتها التوراة ـ لا نصدقها رغم نقل البخاري لها ونسبته إياها للنبي ـ فأهدتها لزوجها لينجب منها الولد الذي استعصى رحمها على احتوائه. واستقر الثلاثة في الخليل (حبرون).
أنجبت هاجر إسماعيل، فألقى الله في قلب سارة الغيرة من هاجر، فأمرت ابن عمها أن يطرد الجارية وابنها بعيداً. وإذ علم إبراهيم أنه أمر الله، فقد استجاب (صحيح البخاري. حديث3364) وحمل هاجر وطفلها، إلى واد غير ذي زرع في قلب الحجاز، سيصبح اسمه فيما بعد مكة.
لم يطل الأمر بإبراهيم وسارة حتى أنجبا إسحق عليه السلام. فعاش الطفل ووالداه في فلسطين، في ضيافة سكان سابقين، يملكون السيادة والدولة.
في فلسطين، أنجب إسحقُ يعقوبَ، الملقب بإسرائيل، ثم أنجب يعقوبُ أبناءه أسباط بني إسرائيل، الاثني عشر الذين جاء القرآن على ذكرهم، في سورة يوسف، فكانوا هنا مع الفلسطينيين، متعايشين في أمن وسلام تتسع له أرواحهم، وبلاد الله فلسطين.
أما في الجزيرة العربية، فقد تزوج إسماعيل من العرب اليمنين ـ العاربة ـ فأنجب منهم العرب المستعربة. وبدأ في تكوين أمة جديدة من نسله، سوف يقدر لها أن تظهر على صفحة التاريخ، بعد الزيارة المقدسة، التي سوف يقوم بها أبوه إبراهيم، للمكان الذي سبق أن ألقاه فيه، وصار عامراً بالسكنى حول ماء زمزم، الذي فجره الله للطفل وأمه المصرية، قبل سنوات بعيدة. (صحيح البخاري. حديث3364).
وفي هذه الزيارة المقدسة كان على الشيخ والشاب المقدسين أن يبنيا، سوياً، كعبة للعبادة، وسيكون على جميع سكان الجزيرة ــ من العرب العاربة الأصليين، والعرب المستعربة المتفرعين منهم ــ أن يحجوا إلى هذا البيت الجديد لله… هكذا نشأت مدينة الله وسط الصحراء.
بنو إسرائيل في مصر
أما في فلسطين فقد تآمر أبناء يعقوب على أخيهم الأحب إلى أبيه يوسف، فألقوه في بئر مهجورة، ليعثر عليه بعض المسافرين، فيبيعوه في مصر لوزيرها الأول “العزيز” ثم لا يلبث ــ بعد قصة درامية ممتعة ــ أن يحظى بوزارة المالية، في دولة الهكسوس. حتى إذا ما حل الجدب ببلاده التي أخرجته، يحضر إخوته الأحد عشر ليتمونوا بقمح مصر، الذي أحسن يوسف تخزينه قبل سنوات. وهناك يتعرف الأخوة على أخيهم، فيغفر لهم، ويدعوهم إلى الهجرة من فلسطين، ليعيشوا في كنفه بمصر. وهكذا يرحل يعقوب وأبناؤه الاثنا عشر سبطاً، إلى مصر. وتكرم مصر الرسمية وفادتهم. فينجبون ويتكاثرون ويثرون، وتعيش أجيالهم اللاحقة من بعدهم في أمان، طوال حكم الملوك الرعاة “الهكسوس”.
لكن تحرير مصر من الهكسوس، سوف يغير كل هذا إلى عكسه: فلا جرم صار الحكام الوطنيون العائدون من المنفى ـ الفراعنة ـ ينظرون إلى سلالة بني إسرائيل، لا باعتبارهم دخلاء فحسب، بل عملاء للمحتل الذي تم طرده. ولكي نعرف شيئاً من عواطف المصريين نحو الهكسوس، وما يمثلون، دعونا نقرأ النص التالي، الذي كتبه الكاهن المصري مانيتون على ورق البردي:
“في عهد تيماؤوس، أحد ملوكنا، سمح الرب ــ وكان غاضباً منا دون أن نفهم لذلك سبباً ــ بأن يأتي، من جهة الشرق، جيش ينتمي لشعب ليست له أية شهرة، وأن يسيطر بسهولة على بلادنا، وأن يقتل بعضاً من أمرائنا، ويضع السلاسل في أيدي آخرين، وبأن يحرق مدننا ويدمر معابدنا، وأن يعامل السكان بغلظة شديدة، ويقتل عدداً كبيراً منهم، وأن يسبي النساء والأطفال، وأن ينصب ملكاً علينا ــ واحداً من أمته ــ يسمى سالاديس”. (وصف مصر/2. هامش267).
ولا شك أن هذه الصورة القاتمة، التي يرسمها كاهن مصري ـ في عهد الحرية، لعهد الاستعباد ـ تشي بما كان يكنه المصريون من عواطف سلبية، تجاه سلالة من كانوا وزراء ومستشارين لعهد الاستعباد. وقد عزز من ذلك اختلاف أولئك عن هؤلاء في الدين: إذ كان بنو إسرائيل موحدين، على بقايا دين إبراهيم ويعقوب وإسحق، فيما كان المصريون يعبدون الشمس والفرعون.
هذا من جهة البشر. أما من جهة الله، فقد كان الوضع مختلفاً؛ إذ من الطبيعي أن يكون بنو إسرائيل أقرب إلى الله. وهذا ما يفسر لم فضلهم ــ وقتئذ ــ على العالمين: إذ لم يكن في العالم موحد سواهم.
لذا فمن المنطقي الاستنتاج بأن بني إسرائيل في مصر، كانوا يشعرون بالتميز على أهل البلاد، الأمر الذي أدى إلى ازدياد السخط عليهم، بحيث تجاوز هذا السخطُ الحدود المنطقية، وتحول إلى اضطهاد، تغذيه ذكريات (تعاونهم مع الاحتلال). ولا شك أن فرعون ــ الذي لا يقبل أن يكون معه في بلده إلٰهٌ غريبٌ لا يعترف به ــ قد استغل هذا الغضبَ الشعبي المصري، ونفخ في أواره.
لقد كان من الطبيعي أن يقف الله إلى جانب شعب موحد مظلوم. لكن الذي لم يكن طبيعياً أن يظن هذا الشعب أن الله اختاره، لمجرد أنه يَمُتّ إليه بصلة النسب والقرابة. لكن هذا المعتقد كان قد بدأ يتبلور في سلالة يعقوب للأسف، يغذيه ما رأوه من كون آبائهم أنبياءً. (المائدة/18).
الأرض الموعودة والشعب المختار
وإذن فقد أرسل الله موسى ــ عليه السلام ــ ليحرر بني إسرائيل من هذا الاستعباد، وليقودهم نحو الأرض التي جاء منها آباؤهم.
ولا شك أن هذا التفسير كان سيحظى بالقبول لدينا، خصوصاً حين رأينا بني إسرائيل يسيرون على خطى النبي موسى عليه السلام. لكن الأمر لم يواصل حدوثه وفق المتوقع؛ إذ رأينا قيادة بني إسرائيل تؤول إلى يوشع، بعد وفاة موسى. ولم يكن يوشع التوراة هذا يشبه موسى في شيء، إذ لم يعد لديه من دلائل النبوة، عندنا، سوى أحاديث مروية لا يقبلها العقل، وينقضها فعله الوحشي في فلسطين. أما إن كان نبياً، فيجب أن ننكر ما ورد عنه في التوراة، كما أنكرنا ما ورد فيها عن داود وسليمان من مساخر، لا يقبلها العقل ولا الدين.
مرة اخرى: لاحظوا هنا أننا ننكر نبوة يوشع التوراة التي بين أيدينا: إذ لو قبلنا بالتوراة مصدراً تاريخياً، لكان لنا أن نرى كيف كان يوشع التوراة هذا متوحشاً لا يشبه الأنبياء في شيء، يغزو فلسطين عام 1210 ق. م، فيحرق البشر والشجر والحجر والحيوانات (يشوع6) ثم لا يستطيع أن يقيم إلا كياناً هزيلاً، مكوناً من اتحاد متقلقل لقبائل متفرقة، تحكمه شخصيات يراها اليهود بطولية، ويسمونهم «القضاة». وتنتهي هذه الفترة بدولة يحكمها أول ملك هو شاؤول (1030 ق. م) الذي سيمهد للفتى الراعي، الذي سيصبح نبي الله داود، أن يقاتل الفلسطينيين الوثنيين، فيقتل بطلهم جالوت وينتصر عليهم (البقرة/251) ويتولى حكم ما يمكن أن نسميه دولة إسرائيلية موحدة عام 1010 ق. م، في مملكة عاصمتها أورشليم التي بناها ملوك سابقون على بني إسرائيل.
إذن فقد استطاع النبي داود عليه السلام، حين كان يقود قوماً فاضلين، أن يبني لهم مملكة، في القدس وبعض بقاع فلسطين، يورثها ابنه سليمان، سرعان ما تعتورها عوامل التحلل، بعد وفاته بقليل، فتنقسم إلى مملكتين، شمالية وجنوبية في العام 922 ق. م (الملوك الأول14 و15): أي بعد ثمانية وثمانين عاماً فقط من انتصار داود عليه السلام. وفي عصر سليمان، قبل الانقسام بقليل، سيتم بناء الهيكل الأول، المسمى بهيكل سليمان.
الانقسام اليهودي
في العام 928 ق. م، أنشق عشرة من أسباط بني إسرائيل، عن المملكة الموحدة، فأقاموا لهم دولة في شمال فلسطين سُميت مملكة إسرائيل التي اتخذت لها السامرة عاصمة؛ فيما تبقى سبط يهوذا في الجنوب، فيما سمي بمملكة يهوذا، التي عاصمتها القدس.
ضمت مملكة إسرائيل الشمالية مناطق بحيرة طبريا، ونابلس، والجليل، وبعضاً من الشريط الساحلي، وأجزاءً من الضفة الشرقية لنهر الأردن. فكانت مساحتها ثلاثة أضعاف المملكة الجنوبية.
لم تقدس المملكة الشمالية الهيكل، لكونه تحت حكم ضرتها المملكة الجنوبية، بل أنشأت لها معابد خاصة، لتحافظ على استقلالها الديني عن القدس. ورغم ذلك فلم تتمتع بأي استقرار، بل عانت من الصراع الداخلي والانقلابات العسكرية، وتدخل القوى الكبرى، إلى أن أغراها حكام مصر بالانضمام إلى الثورة السورية، التي قامت في تلك الأثناء ضد الأشوريين. فحاصر الأشوريون السامرة ثلاث سنوات، حتى سقطت في يد الملك الأشوري سرجون الثاني، عام 721 ق. م، فهجر عديداً من سكانها، وأصبحت أراضيها جزءاً من المملكة الأشورية، فيما واصلت المملكة الجنوبية حياتها بعد ذلك لمدة 134 عاماً أخرى، قبل أن يسبي نبوخذ نصر أهلها ويبيعهم في بابل عبيداً في العام 587 (المسيري/4. 181 ــ 154).
إذن فتاريخ الهيكل والسنهدرين واليهود يوشك أن يتركز كله في الدولة الجنوبية ـ مملكة يهوذا ـ التي ظلت ـ رغم ضيق مساحتها وفقرها ـ المركز الروحي لليهود. وهي التي تتمحور حولها كل حكايات التوراة، الحقيقية والمزيفة.
وقبل اختتام هذه الفقرة ربما يجب علينا التذكير بما سبق من قولنا: بأن فلسطين لم تخل من الفلسطينيين، حتى في أوج ازدهار كل مملكة من الممالك الإسرائيلية الثلاث: فالجزء الجنوبي من أراضي وسهول الساحل ـ من تل أبيب إلى غزة ـ ظل تحت سيطرة الفلسطينيين. (المسيري/4. 179).
قانون وراثة الأرض هنا
لقد أمر الله سلالة يعقوب أن يعودوا إلى الأرض المقدسة، التي خرج منها آباؤهم ـ بل إنه كتبها لهم ـ لا لأنهم أبناؤه وأحباؤه، بل ليقيموا فيها العدل والسلام. (المائدة/21). لكنهم ــ كما تشهد بذلك التوراة ــ أقاموا فيها محرقة عظيمة للبشر والشجر والحيوان. ثم استقروا في بقعة منها فقط، قبل أن يعيدوا إنتاج الدين الوثني للسكان الأصليين (يشوع. 6/21، و10/6، وإرميا. 23/10 ــ 15). مما جعل الله يحول تفضيله السابق لبني إسرائيل إلى لعنة كبيرة. (المائدة/78).
إذن فقد انتهت الأفضلية بشهادة الرسل في القرآن، وذلك لأنها لم تكن ملكاً خاصاً يتوارثونه، بل ناتج استقامة سابقة؛ أخذت الآن تبحث لها عن أهل آخرين.
وهنا جاء دور أبناء الطفل الذي ألقى به الله وسط الصحراء، ليتولوا إقامة ما عجز عنه أبناء عمومتهم، أقصد محمداً صلى الله عليه وسلم، وصحبه رضوان الله عليهم. أفلا يحق لنا الآن أن نتدبر ما يفعل في الوقت الحاضر أتباع محمد، لنرى إن كانوا يعيدون إنتاج ما فعله أبناء عمومتهم من أتباع موسى، فيستحقون ما استحقوا؛ أم على قلوب أقفالها!
قصة الهيكل
ثمة حقيقة تاريخية معروفة تقول بأن فلسطين كانت دوماً ساحة صراع بين القوى الكبرى: مصر والعراق، اليونان والفرس، الرومان والفرس.
في عهد الأنبياء الفاضلين، وقبل أن ينحرف بنو إسرائيل، كان من الطبيعي أن يبني قائدهم وملكهم نبي الله سليمان مسجدا لعبادة الله، الرحمن الرحيم. ففعل.
وإذا كان لنا أن نصدق ما ورد في وصف المصادر اليهودية له، فيمكن أن ننقل ما يلي من وصفها للهيكل الأول، هيكل سليمان:
“ولم يكن هذا الهيكل كنيسة بالمعنى الصحيح، بل كان سياجاً مربعاً يضم عدة أجنحة. ولم يكن بناؤه الرئيسي كبير الحجم، فقد كان طوله حوالي مائة وأربع وعشرين قدماً، وعرضه حوالي خمس وخمسين، وارتفاعه اثنين وخمسين؛ أي أنه كان في نصف طول البارثنون [معبد الإلهة الإغريقية أثينا]… وكان في صدر البناء الرئيسي مدخل كبير، يبلغ ارتفاعه مائة وثمانين قدماً، مرصع بالذهب. وكان الذهب ــ فضلاً عن هذا ــ يغشي كثيراً من أجزاء الهيكل ــ إذا جاز لنا أن نصدق المصدر الوحيد الذي نعتمد عليه في هذا الوصف ــ على سقف البناء الرئيسي، والعُمُد، والأبواب، والجدران، والثريات، والمصابيح، ومقصات الفتائل، والملاعق، والمباخر. وكان فيه مائة حوض من الذهب. وكانت الحجارة الكريمة ترصع أجزاءً متفرقةً منه، كما كان ملكان مغطيان بصفائح الذهب يحرسان تابوت العهد. وشُيدت الجدران من حجارة كبيرة مربعة، أما السُقُف والأعمدة والأبواب فكانت من خشب الأرز والزيتون المنقوش. وجيء بمعظم مواد البناء من فينيقية، وكان يقوم بمعظم الأعمال صناعٌ من صيدا وصور”. (ديورانت/2. 335 ــ 336).
لكن كُتّاب التوراة اليهودية أنكروا أن يكون هذا المسجد لله الرحمن الرحيم، بل جعلوه خالصاً لإلٰهٍ آخر قاسٍ فظٍّ غليظٍ، يحب رائحة الدم واللحوم المشوية، ويرتكب في سبيل انتصار “شعبه” من ضروب الوحشية ما تشمئز منه نفوسنا. (الخروج. 29/ 15 ــ 18 وديورانت/2. 341).
ولقد تبع الكثير من أبناء شعب الجبارين اليهود في هذا الإنكار، لدواع قومية لا تكتفي بالتنكر للأحاديث الصحية، بل وتنسف كذلك آيات التنزيل العزيز، وذلك إذ رغبوا في إنكار وجود مسجد لسليمان في القدس. بل إن بعضهم أحب أن يكون ذلك في بلاد أخرى، حتى لو لم تكن مباركة.
لكن الفرق بين عشق ما تهوى والتنزيل السماوي كثيراً ما يكون كبيراً.
لقد بُني المسجد، وعُبد فيه الله الرحمن الرحيم. لكنه بعد حين تحول إلى هيكل ليهوه، الرب البشري الذي اختلقه كاتبو التوراة وأسكنوه جبل صهيون، على الأرض، وسموه رب الجنود، الذين هم بنو إسرائيل فقط (أشعياء/8. 18). فكان أن أرسل الله إلى هذا الهيكل من دمره. وتلك سنة الله في عباده، يسلط بعضهم على بعض.
مشاعر قومية
يغرم الفلسطينيون بإنكار وجود الهيكل في فلسطين. وبالإمكان تفهم دوافعهم في ذلك. لكن العقل والدين لا يأبهان للدوافع الوطنية. فلا الفلسطينية تستطيع أن تدفع نصوص القرآن، ولا العلمية المزيفة قادرة على إثبات ما لم يتم دحضه.
فالقرآن يقول إن ثمة إسراءً بمحمد صلى الله عليه وسلم قد تم إلى المسجد الأقصى. ولا نعرف مسجداً أقصى سوى ما كان في القدس، ويسمى هيكل سليمان، بدليل صلاة رسول الله في الأقصى، الذي هو المسجد المقدس للأنبياء السابقين، الذين كانوا كلهم من بني إسرائيل.
ولا أجد عندي أدنى رغبة في مناقشة سخف ولا علمية رجال ينكرون ذلك، أو يحولوه إلى مكان آخر. فلا بلاد مقدسة مباركة كلها سوى فلسطين.
ولقد أقدر كل التقدير رغبة أقوام في مجابهة الدعوى الصهيونية في فلسطين، من خلال بحوث وطنية ــ تقترح على نفسها صفة التاريخ ــ مع أن التاريخ علم.
فإن كان المؤرخ موضوعيا ومسلماً، يعتبر القرآن وثيقة تاريخية صالحة للاحتجاج، فيجب ألا يرد نصوصه، إلا بنصوص منه، أو بعلم يقنيني يضطرنا إلى تأويل ظاهرها.
إن عدم اعتبار الغربيين للتوراة مصدرا تاريخيا نزيهاً، أمر له اعتباره العلمي، ولكنه لا ينطبق على القرآن الكريم، لاختلاف طريقة الحفظ، منذ البداية، ولحقيقة أن التوراة الموجودة بين أيدينا ليست كلها صحيحة النسبة إلى موسى عليه السلام.
فحتى الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى عليه السلام، كُتبت بعد زمن بعيد من وفاته. الأمر الذي يؤكد أن نصوص التوراة التي بين أيدينا لا تصح نسبتها إلى السماء، بنفس مستوى الدقة التي ميزت نسبة نصوص القرآن إليها.
لكن الفرق بين اعتبار التوراة كتاباً تم تحريفه، وبين انعدام قبولها مصدراً تاريخياً، بالمطلق، كبير، ولدينا عليه تحفظات كثيرة، أهمها أنه وثيقة من بين الوثائق البشرية الأكثر دقة منها جميعاً.
فلنتأمل الآيات الآتية:
1ـ “يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ” (المائدة/21).
2ـ “وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا” (الأعراف/137).
3ـ “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ” (الإسراء/1).
4ـ “وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ* وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ* وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ” (الأنبياء/69 ــ71).
5ـ “وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ” (الأنبياء/81).
كل هذه الآيات تقول إن ثمة أرضاً مباركةً عاش فيها الأنبياء، ووعد الله بها أتباعهم. ومهما أحب أحد ان ينفي أنها فلسطين، فإن الآيتين (3+4) أعلاه، تبينان ذلك بما لا يدع مجالا للشك.
إنها أرض فلسطين، وهي المباركة، وهي التي دخلها بنو إسرائيل ذات حقبة من زمن، لأن الله اختارهم يومها عباداً له.
وحقيقة أننا لم نشأ أن نستدل بالأحاديث الصحيحة، في هذا المضمار، يجب أن تلفت انتباه من يناقشنا بأن عليه ألا يسمح لنفسه باستحضار روايات شفاهية مغرقة في القدم، ينقلها رغم عدم صحتها، مع أنها من قبل عصور التدوين بآلاف السنين.
فلو شئنا أن نفعل أفضل من ذلك، باستحضار الأحاديث لفعلنا. وشتان بين أحاديث صحيحة لم نستدل بها، وبين روايات إخبارية لا سند لها وشديدة القدم، ويستدل بها.
وبدلاً من أن يتم دحض هذه الآيات ــ نكاية في الصهاينة ــ ببعض من قصص الإخباريين غير الثابتة هذه، ربما يجدر بنا أن نناقش ما يقوله الصهاينة من أحقيةٍ لهم مزعومةٍ في أرض فلسطين، من خلال النقاط المحددة الآتية:
1ـ هل يجوز أن تُستدعى النصوص الدينية، لاستلاب أرض شعب يعيش فيها منذ القدم؟
2ـ هل هذ النصوص الدينية نهائية وأبدية، وغير منسوخة بنصوص نزلت من بعدها، ووصلت بطريقة أقوى وأشد ثبوتاً.
3ـ هل هناك علاقة قربى بين الله وقوم، بحيث يمنحهم أرضاً، بغض النظر عن طبيعة المهمة الموكولة إليهم؟
4ـ هل كانت فلسطين خالية حين دخلها بنو إسرائيل؟
5ـ وأخيراً: إذا كانت الدعاوى القديمة صالحة للمطالبة بوطن، فهل دعوى الفلسطيني بالقدم لا تشبه دعوى اليهودي؟
أما قول بعض من يناقشون بعدم قدرة علم الآثار على أن يثبت وجود هيكل في القدس، فيكفي في الرد عليه التذكير بأن الآثار تثبت ولا تنفي. بمعنى أن اكتشاف أثر ما يثبت وجود الموضوع، ولكن الأمر لا ينعكس: فعدم وجود آثار، بمستطاعه فقط ألا يثبت وجود الموضوع، تاركاً إثباته لأدلة أخرى.
والحقيقة أننا لن نعرف كل الماضي، من علم الآثار. إن علم الآثار يقدم لنا أدلة على وجود شيء ما ـ حضارة أو حدث ـ ولكنه لا يستطيع أن يزودنا بنفي كل ما لم تُكتشف له بقية في باطن الأرض. فمن قال إن باطن الأرض يعرف كل شيء؟ ثم من قال بأننا عرفنا كل ما في باطن الأرض؟ ثم من قال بأن باطن الأرض ظل دوماً محايداً لا يغيره البشر؟
فصحيح أننا لو وجدنا آثاراً لقوم ما في مكان ما، لكان هذا دليلاً على أنهم وُجدوا يوماً فيه، ولكن هذا الأثر عينه لا يستطيع أن ينفي احتمال انتقالهم إلى مكان آخر.
إن الدليل يثبت الوجود، ولا يثبت العكس. ولتوضيح الصورة أكثر نضرب المثال:
فلو أن رجلاً رأى بعرة في الطريق، لاستنتج ـ بحق ـ أن بعيراً مر من هذا الطريق، قبل وقت من الزمن. لكن لو لم يجد بعرة في الطريق، لما كان مستطيعاً أن يجزم بأن بعيراً لم يمر من هنا قط: فربما مر من هنا ثم لم يبعر، أو أبعر والتقط أحدٌ بعرته، أو سفّت الريحُ على البعرة بعضاً من الرمل، أو تحللت البعرة بفعل عوامل التعرية، أو أكلها حيوان يعيش على البعر… إلخ.
لقد استغربت بالفعل ممن يستنتجون نتائج، يرونها حقيقية، من مجرد هذا النوع من الغياب. ورغم أنهم ليسوا علماء فيلولوجيا (الفيلولوجيا حقل بحث ظني في فقه اللغة الحديث) إلا أنهم يفترضون في أنفسهم أنهم فيلولوجيون، ثم يجعلون من فيلولوجييتهم المفترضة هذه مصدراً للحقيقة، فيلوون أعناق الكلمات ليستخرجوا منها احتمالات معاني، تصدر عن اشتقاقات متوهمة، لا يقوم عليها دليل، اللهم إلا إن كان الشعور القومي دليلاً.
أرجو أن أكون قد أوضحت رأيي فيما قيل عن “نزول التوراة في جزيرة العرب” أو “التاريخ الحقيقي للتوراة”؛ خصوصاً وأننا لو وافقنا على قولهم، لكان مقتضى ذلك تحويل أطماع الصهيونية نحو بلد عربي آخر!
فيا للعواطف القومية!
إذن فنحن نقطع بأن هيكل سليمان هو المسجد الأقصى، الذي صلى بين بقاياه رسول الله الخاتم في رحلة الإسراء، مع ضرورة أن نتذكر دوماً أن ثمة محراباً كان يتعبد فيه زكريا ومريم الطاهرة، قبيل مبعث نبي الله عيسى. ولا محراب بلا مسجد (آل عمران/37).
استعراض تاريخي
قلنا سابقاً بأن فلسطين كانت طوال التاريخ ساحة صراع دائم بين القوى الكبرى. وفي لحظة تاريخية نادرة بين هذه القوى الكبرى المتصارعة، قامت مملكة داود وسليمان.
لكن سرعان ما غزت الدولة البابلية العراقية القدس بقيادة نبوخذ نصر، واحتلتها عام 597 ق. م، وفككت دولة يهوذا الجنوبية، ولكنها لم تعرض للهيكل بأي أذى، وتركت اليهود يمارسون حياتهم وشعائرهم، بعد أن نصبت عليهم ملكاً منهم تابعاً لبابل اسمه صدقيا.
لكن صدقيا تأثر بمحيطه، فقاد البلاد إلى ثورة على أسياده البابليين، مستعيناً بدعم الفراعنة في مصر، فعاد نبوخذ نصر فحاصر القدس سنة كاملة، واحتلها في تموز من العام 587 أو 586 ق. م ـ أي بعد عشرة أعوام، أو أحد عشر عاماً، فقط من احتلالها الأول ـ فدمر القدس وأحرق هيكل سليمان. وعلى عادة الدول القديمة، وخلافاً للمرة السابقة، اقتاد المنتصر المهزومين عبيداً إلى بابل (ديورانت/2. 357 ــ 358).
تلكم كانت قصة الهيكل الأول، هيكل سليمان. أما قصة الهيكل الثاني فقد مرت بمرحلتين:
المرحلة الأولى: هيكل زرياب بابل (538 ق. م ــ 20 ق. م):
بعد أقل من خمسين سنة من السبي والعبودية، انتهى عصر المملكة البابلية في العراق، وقامت مملكة أخرى فارسية مكانها، حكمت الشام، حيث أمر الملك الفارسي قورش في العام 538 ق. م، بإعادة المسبيين إلى فلسطين. فعاد بعضهم وأعرض بعض مفضلا البقاء في بابل. وبنى قورش للعائدين منهم الهيكل على نفقته، وتسمي المصادر التاريخية هذا الهيكل باسم هيكل زرياب بابل (ديورانت/2. 364 ــ 365).
انتهى العهد الفارسي في فلسطين، بهزيمة الفرس واحتلال الإسكندر لبلادهم، ثم قدومه إلى فلسطين في العام 334 ق. م حيث رحب به مجلس السنهدرين (مجلس الحكم الذاتي المكون من حكماء اليهود) ورئيسه، وصارت فلسطين ولاية يونانية (ديورانت/2. 397 ــ 398).
ثم ما لبث الإسكندر أن مات شاباً، فآل حكم البلاد التي فتحها إلى قادة جيشه، فقسموها بينهم، وصارت مصر من نصيب بطليموس وسلالته ـ كليوباترة هي آخر هذه السلالة ـ فيما آلت الشام إلى حكم السلوقيين، قبل أن ينتزعها منهم البطالمة المصريون في العام 323 ق. م.
عصر البطالمة هذا هو الذي سيسميه المؤرخون فيما بعد بـ(العصر الهيللنستي)، وفيه شهدت الثقافة العالمية نزوحها من بلاد اليونان وروما إلى الإسكندرية.
وكما شهد هذا العصر ازدهار كافة مناحي الثقافة، في كل المجالات، فقد شهدت الثقافة اليهودية، في الإسكندرية والقدس، عهدها الذهبي، وكتب فيها اليهود الهللنستيون أعظم أسفار التوراة، وأجمل أشعارها، إضافة إلى الكثير من الآثار الدينية والأدبية (ديورانت/8. 93 ــ 94).
في العام 198 ق. م، استعاد السلوقيون فلسطين، وانتزعوها من أيدي البطالمة.
وفي العام 143 ق. م، انتهز يهوذا المكابي فرصة الصراع، القائم بين الدول الكبرى في المنطقة، فأعلن ثورة اليهود على السلوقيين، وأقام الدولة الهسمونية اليهودية في فلسطين، التي استمرت حتى العام 70 ق. م.
لكن النزاع الداخلي قسم الدولة الهسمونية، بعد مائتي عام من قيامها. ففي العام 63 ق. م استدعى اليهود احتلال الدولة الرومانية الشابة: إذ اختصم على عرش المملكة اليهودية نجلا الملكة شالوم اسكندرا (هركانس الثاني) و(أرستبولس الثاني) إلى القائد الرومان الشهير بومبي (Pompey)، الذي كان في تلك اللحظة واقفاً في دمشق، على رأس فيالقه، المنتصرة على السلوقيين. فحكم بومبي لصالح هركانس. لكن أرستبولس رفض نتيجة التحكيم، وتحصن بجيشه في بيت المقدس، معلناً التمرد. “فحاصر بومبي القدس، واستولى على أجزائها السفلى. ولكن أتباع أرستبولس احتموا بأفنية الهيكل المسورة، وظلوا يقاومون بومبي ثلاثة أشهر”، إلى أن تمكن منهم بومبي، فقتلهم شر قتلة، وذبح منهم اثني عشر ألفاً، ونصب عليهم هركانس حاكماً يهودياً صورياً تابعاً لروما (ديورانت/11. 162). وهذه القصة هي التي صورتها أفلام هوليوود مراراً.
ولكن لا هذا الهيكل، ولا هيكل سليمان الأول، هو الذي سوف تخلده في وعيها الذاكرة اليهودية؛ بل الهيكل الذي سيقام على أنقاضه.
والجدير بالذكر أن بومبي لم يهدم هيكل زرياب بابل، في هذه الحرب، بل أمر “رجاله بألا يمسوا ما في الهيكل من كنوز” مكتفياً بفرض غرامة كبيرة على اليهود (ديورانت/11. 162).
لم تمض عشرون سنة أخرى، حتى تمرد اليهود على روما، فقمعهم الوالي الروماني بسوريا (لينغينس)، ونكل بهم تنكيلاً، ثم باع منهم ثلاثين ألفاً في أسواق الرقيق عام 43 ق. م (ديورانت/11. 163).
وبعد بضع سنوات، وتحديداً في العام 37 ق. م عينت روما على اليهود في القدس والياً يهودياً هو هيرودوس الأكبر (ديورانت/11. 163) وهو غير الذي سيقتل يحيى بن زكريا. ورغم أن اليهود كانوا يطعنون في يهوديته، إلا أنهم أحبوا أن يسموه ملكاً، على عادتهم في تضخيم كل صغير يعود إليهم: فقد رأيناهم من قبل يعتبرون أن سليمان قد ملك العالم، مع أن مملكته لم تتعد حدود فلسطين وأطرافها الشمالية والشرقية أحياناً.
المرحلة الثانية: هيكل هيرودوس (20 ق. م ــ 70م)
وجد هيرودوس هيكل زرياب بابل متداعياً، فأحب أن يعيد بناءه من جديد، وبطريقة مختلفة. ويمكن الاستنتاج من كلام الزوجين ديورانت، بأن الشروع في البناء قد حدث منذ العام 20 ق. م، نظرا لما يقوله المؤرخان الأمريكيان، من أن أعمال نقش الهيكل الجديد وتزيينه، لم تتم إلا قبيل قدوم فيالق تيتوس (Titus) الرومانية. فنحن نعرف أن فيالق تيتوس قد وصلت القدس في العام 70 بعد الميلاد (ديورانت/11. 188).
الهام في الأمر أن هيرودوس قد تم له بناء الهيكل، وسُمي باسمه. ويبدو أن روعة هذا البناء الهيرودي، قد خلبت لب اليهود، وأنستهم هيكل زرياب بابل، ومحت ذكراه من قلوبهم، بحيث رأيناهم يعتبرون هيكل هيرودوس هو الهيكل الثاني، وكأنهم يرونه الخليق بوراثة مجد هيكل سليمان، رغم كل ما فيه من مظاهر الوثنية البارزة.
وصف الهيكل الثاني
أي بناء هذا الذي يفعل بأهله كل ذلك؟ سننظر إليه من خلال هذا النص:
“وقد سوى [هيرودوس] على جبل موريا أرضاً تقرب مساحتها من 750 قدماً مربعاً، وأقام على أطرافها أروقة ذات سُقُفٍ من خشب الأرز، ذات نقوش عجيبة، تعتمد على صفوف متعددة من العُمُد الكورنثية، كل عمود من كتلة واحدة من الحجر، تبلغ من الضخامة حداً يصعب معه على ثلاثة رجال أن يطوقوه بأذرعهم. وكان في هذا البهو الرئيسي مظلات للصرافين ــ الذين يبدلون نقود الأجانب بالنقود التي تُقبل في الهيكل ــ وكان فيها أيضاً المرابط، التي يستطيع الإنسان أن يشتري منها ما يريد أن يقربه من الحيوانات، والغرف أو الأروقة التي يجتمع فيها الطلاب لتعلم اللغة العبرية والشريعة، والمتسولون الصخابون الذين لا مفر من وجودهم في كل مكان.
ومن هذا الهيكل الخارجي، يتم الصعود بواسطة مجموعة من الدرج إلى فضاء داخلي مسوّر، يحرم على غير اليهود دخوله. ويقع في هذا الفضاء (بهو النساء) الذي يأوي إليه الطاهرون من الرجال مع نسائهم. ومن هذا الحرم الثاني يصعد العابد على مجموعة أخرى من الدرج، ويمر خلال أبواب مصفحة بالفضة والذهب، إلى (بهو الكهنة) حيث يقوم، في الهواء الطلق، المذبحُ الذي تُقرّب فيه المحروقات إلى يهوه. وتلي هذه درجات أخرى، يمر الصاعد فوقها خلال أبواب من البرونز، يبلغ ارتفاعها 75 قدماً، واتساعها 24، تعلوها كرمة ذهبية ذائعة الصيت، وتؤدي إلى بناء الهيكل الرئيسي، الذي لا تُفتح أبوابه إلا للكهنة وحدهم. وقد شُيّد هذا البناء كله من الرخام الأبيض، على هيئة طباق تتدرج في الصغر كلما علت، وصُفّحت واجهته بالذهب، وقُسم داخله قسمين يفصلهما ستار مزركش، يمتد في عرض فراغه، فيه من الألوان الأزرق والأرجواني والقرمزي. وأمام هذا الستار كانت الماثلة الذهبية ذات الفروع السبعة [وهي الشمعدان المنقوش على قطعة النقود اليوم] ومذبح البخور، والمائدة عليها خبز التقدمة غير المختمر، الذي يقدمه الكهنة ليهوه. ومن خلف الستار قدس الأقداس [المبخرة الذهبية وتابوت العهد].
وكان الهيكل القديم [هيكل سليمان الذي هدمه نبوخذ نصر] يحتوي على مبخرة ذهبية وعلى تابوت العهد، ولكن هذا التابوت [في هذا البناء الهيرودي] لم يكن يحتوي على شيء، كما يقول يوسفوس. ولم تكن قدم الإنسان تطأ هذا المكان إلا مرة واحدة في العام، وذلك في يوم الكفارة، حين يدخله الكاهن الأكبر وحده. وقد استغرق بناء الأجزاء الرئيسية من هذا الصرح التاريخي ثمانية أعوام، أما أعمال نقشه وتزيينه فقد ظلت قائمة ثمانين عاماً، ولم تتم إلا قبيل مجيء فيالق تيتوس. وكان الناس يفخرون بهذا الهيكل العظيم، الذي يعد من عجائب العالم في عهد أغسطس، وكادوا لعظمته وبهائه يتجاوزون عن وجود عُمُده الكورنثية، القائمة عند أبوابه، وعن النسر الذهبي الذي يتحدى عقيدة اليهود في تحريم الصور المنحوتة، ذلك النسر الذي يرمز عند مدخل الهيكل لروما، عدوة اليهودية وسيدتها” (ديورانت/11. 166 ــ 168).
اليهود والمسيح
لقد نقلنا الوصف التفصيلي للهيكل هنا، ليتضح بجلاء كيف تحولت الديانة اليهودية إلى وثنية شبه خالصة. فالقوم يقدسون الهيكل أكثر مما يقدسون من تتم عبادته في الهيكل.
كان الهيكل الثاني ـ هيكل هيرودوس ـ قائماً في القدس، حين انطلقت دعوة نبي الله عيسى عليه السلام، بين اليهود في فلسطين. وكانت قلة أنصاره من المؤمنين، في البداية، قد جعلت زعماء اليهود لا يتنبهون لخطورته. فلما أن حظي فيما بعد باستقبال حماسي في أورشليم، “تحيّر زعماء اليهود، وقد صاروا يخشون أن تلتهب حماسة هذه الجماعات [اليهودية] ــ التي اجتمعت في عيد فصح ــ فتدفعها عواطفها الثائرة، ونزعتها الوطنية، إلى الثورة على السلطة الرومانية، ثورة طائشة عقيمة لم يحن موعدها بعد، فتكون عاقبتها القضاء على كل ما تستمتع به اليهودية، من حكم ذاتي وحرية دينية. ومن أجل هذا دعا الحاخامُ الأكبر السنهدرين [مجلس حكماء صهيون] إلى الاجتماع وقال له: إنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلها. ووافقه أغلبية الحاضرين على رأيه. وأمر المجلس بإلقاء القبض على المسيح (ديورانت/11. 234 ــ 235).
وفي اليوم الرابع عشر من شهر نيسان العبري ــ وهو اليوم الثالث من شهر أبريل من العام الثلاثين، في أرجح الأقوال ــ أكل عيسى ورسله عشاء عيد الفصح، في دار صديق له في أورشليم”. “واجتمع السنهدرين في صباح اليوم التالي”، وأثبت على رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ جريمة الكفر، “وكان عقابها الإعدام في تلك الأيام؛ وقرر أن يسوقه أمام الحاكم الروماني” (ديورانت/11. 235 ــ 236).
كان الكيان اليهودي في القدس في تلك الفترة عبارة عن حكم ذاتي لليهود، تحت السيطرة الرومانية. وبناء على هذا سمحت الإمبراطورية الرومانية لليهود أن يتحاكموا إلى شرائعهم. وكان عيسى عليه السلام منهم، كما نعلم. لذا فقد رأوا أنه خاضع لحكم مجلس الحكماء (السنهدرين)، فرفعوا أمره إلى الوالي الروماني بيلاطس، وطالبوه بإعدامه.
لكن بيلاطس شعر بأن المتهم مظلوم، بل لعله اقتنع بأنه قديس، فامتنع عن الاستجابة لمطلبهم، فهددوه برفع الأمر إلى الإمبراطور في روما. وعند هذا الحد خشي بيلاطس من إغضاب قوانين الإمبراطور، لكنه ظل متخوفاً من إعدام هذا القديس. فلما ازداد الضغط عليه، استسلم كارهاً.
حول دعوة عيسى عليه السلام
ازداد كفر حكماء بني إسرائيل، ونسوا عهد الله للآباء، كعادتهم. فأرسل الله إليهم رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويدعوهم إلى أمرين:
1ـ العودة إلى الجادة.
2ـ والتخفيف من أغلال الشريعة القاسية.
وأعلن لهم أنه ما جاء ليغير كتابهم الأول، بل مصدقاً به، ومتمماً إياه، ومبشراً بالنبي الخاتم الذي أخذ الله عليهم العهد في الطور أن يؤمنوا به إذا ما جاء (الأعراف/155 ــ 157 والصف/6).
لكن أكلهم المال الحرام، كان قد أكسب قلوبهم الكثير من القسوة، إضافة إلى ما اعتقدوه من أن الله هو ربهم الخاص، الذي لا يهون عليه أن يعذبهم.
فأخذ عيسى يقرعهم بالمواعظ:
“أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟… لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ. وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هذَا الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ. وَلَمَّا سَمِعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ أَمْثَالَهُ، عَرَفُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ. َوإِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ، خَافُوا مِنَ الْجُمُوعِ” (متى/22. 42 ــ 46).
“وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذلِكَ تَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ” (متى/23. 13 ــ 14).
فلما شعر حكماء إسرائيل، بخطورة هذه الدعوة على امتيازاتهم، قرروا التخلص منه.
سلطة الفن
لطالما صور الفن الأشياء فخلدها. ولئن كانت حادثة إعدام من ظنه كثيرون رسول الله عيسى، قد غيرت مجرى التاريخ؛ فلقد يُسمح لي ـ على غير العادة ـ أن أورد في هذا المبحث، سطوراً من رواية الكاتب السوفيتي ميخائيل بولغاكوف “الشيطان يزور موسكو” تصف الحوار الذي انتهى بتصديق الوالي الروماني، على حكم الإعدام الذي أصدره مجلس حكماء اليهود في القدس عام 30م على الفتى اليهودي المقلق الذي يدعي النبوة، والمسمى بعيسى الناصري عليه السلام.
لقد هدد الفتى سلطة الفريسيين، واستلابهم المجرم لأموال الناس، وشراءهم بآيات الله ثمناً قليلاً، بحيث أصبحت السلطة المحدودة، التي يمتلكها حكماء صهيون المزعومون، مهددة بالزوال، خصوصاً فيما لو اتبعه شبان طائشون يعلنون الثورة على السيدة روما. لذا فقد قرر السنهدرين إعدامه. وكان على الوالي الروماني أن ينفذ، وفقاً لقوانين الحكم الذاتي التي منحها الإمبراطور لليهود في فلسطين.
يصف بولغاكوف المشهد بهذه الكلمات
“على الأرض المزخرفة بالفسيفساء، قرب النافورة، أُعدّ مقعدٌ للجلوس. جلس عليه الوالي، ودون أن يلتفت، مد يده جانباً. وبكل احترام، وضع أمين السر في اليد الممدودة صفحة رِقّ.
ألقى الوالي نظرة عجلى على الصفحة أمامه، ودون أن يتمالك نفسه من ألم الصداع، أعاد الورقة إلى أمين السر، وبصعوبة فائقة قال:
ـ الموقوف الجليلي؟ أحولتم أوراقه إلى اللجنة؟
فأجابه أمين سره:
ـ نعم حضرة الوالي.
ـ وماذا قررتْ؟
فأوضح أمين السر:
ـ رفضتْ إصدار أي حكم. أما حكم الإعدام الذي أقره المجمع، فقد حُوّل إليك لتصادق عليه.
فاختلج خدّ الوالي، لكنه ما لبث أن قال بهدوء:
ـ أحضروا المتهم.
وفي الحال، اقتاد جنديان شخصاً في السابعة والعشرين من عمره، فساقاه من تحت الرواق إلى الشرفة، حيث المقعد. وكان يرتدي (خيتوناً) قديماً بالياً أزرق اللون، وقد لفت رأسه عصابة بيضاء غطت جبهته. فيما يداه مقيدتان وراء ظهره. وقد أُصيب بكدمة تحت عينه اليسرى، وعند الفم خدش تخثر دمه.
ألقى الموقوف على الوالي نظرة قلقة مستطلِعة. لكن هذا الأخير كان يلوذ بصمت عميق.
سأله الوالي بهدوء وباللغة الآرامية:
ـ أأنت الذي حرضت الشعب على هدم هيكل أورشليم؟
ألقى الوالي سؤاله وهو جامد في مكانه كالصخرة، لا يبدي حراكاً. لقد كانت شفتاه فقط هما اللتان اختلجتا. لقد كان خائفاً من أن يحرك رأسه المستعر بألم جهنمي.
اقترب المكبل قليلاً إلى الأمام، وقال:
ـ صدقني أيها الإنسان الصالح…
ولكن الوالي الذي ما برح جامداً في مكانه، قاطعه بصوت خفيض:
ـ أتدعوني إنساناً صالحاً! أنت تخطئ بهذا: ففي كل أنحاء أورشليم يتهامسون بأنني وحشٌ ضارٍ. وهذه هي الحقيقة ـ وأضاف بصوت جرى على وتيرة واحدة ـ ليأتِ القائد كريسابوي إليّ.
وإذ مثل مارك الملقب بكريسابوي أمام الوالي، فقد خيل للجميع أن العتمة أسدلت ستارها على الشرفة. فقد كان أطول جندي في الفيلق، قد حجب بمنكبيه نور الشمس عن الوالي، الذي خاطب قائد جيشه باللاتينية قائلاً:
ـ المجرم يسميني إنساناً صالحاً. خذه دقيقة واحدة، وأفهمه كيفية التحدث معي، دون أن تمثل به.
رافقت أنظار الحاضرين مارك كريسابوي، وهو يشير بيده للموقوف أن يتبعه. وبقي الوالي وحده جامداً كالصخر. فيما أخذت عيون الحاضرون تشيع قامة مارك المديدة، ووجهه المشوه، وأنفه الذي حطمته ضربة هراوة.
سُمع وقع حذاء مارك الثقيل على الفسيفساء، وتبعه المتهم صامتاً مكبل اليدين. وساد في الرواق صمت أين منه صمت المقابر.
كان هديل الحمام، في الشرفة المطلة على الحديقة، يؤلف مع خرير مياه النافورة أغنية شجية بالمعاني. وأراد الوالي أن ينهض، ويضع صدغه تحت شلال الماء، لكنه أدرك ان هذا لن يفيده.
خلال اجتياز كريسابوي الرواق، سائقاً المتهم إلى الحديقة، جذب من يد جندي واقف عند قاعدة التمثال البرونزي، سوطاً. وبرفق، لوح به في الهواء، وألهب به كتفي المتهم.
ورغم أن الضربة كانت خفيفة وطائشة، إلا أن الموقوف سقط بفعلها على الأرض، كأنما بُترت ساقاه؛ فاختنق وشحب وجهه وزاغ بصره. فما كان من مارك إلا أن مد يده اليسرى للمتعثر، فرفعه إليه، وخاطبه بكلمات آرامية مكسرة، فيما الخُنّة تخنق نبرات صوته:
ـ والي الرومان يُسمى إيغامون. ولا داعي لكلمات غير ذلك. أفهمت، أم أعود إلى ضربك؟
ترنح الموقوف، غير أنه تمالك نفسه، فعاد إلى وجهه لونه، والتقط أنفاسه، وأجاب بصوت أجشّ:
ـ فهمت، فلا تضربني.
وبعد دقيقة عاد يسوع فمثل من جديد أمام الوالي.
ودوّى صوتٌ كئيبٌ ذاوٍ:
ـ الاسم؟
ـ اسمي؟
سارع الموقوف إلى الرد، معبراً بكل كيانه عن استعداده للإجابة بوضوح، ودون إغضاب أحد.
فقال الوالي بصوت خافت:
ـ نعم، اسمك. فاسمي أعرفه. لا تبد أكثر حماقة مما أنت.
وسارع الموقوف وأجاب:
ـ يسوع.
ـ أتحمل لقباً ما؟
ـ الناصري.
ـ من أين أنت؟
ـ من غمالا.
أجاب المتهم وقد أومأ برأسه إلى مكان بعيد في الشمال.
ـ أصلك؟
ـ لا أعرف بالضبط ـ أجاب الموقوف بحيوية ـ لا أذكر أهلي. قيل لي إن أبي كان سورياً.
ـ أين مكان إقامتك الدائم؟
فأجاب الموقوف خجلاً:
ـ لا مكان إقامة دائم لي. فأنا أتنقل من مدينة إلى أخرى.
ـ يمكننا القول بأنك متشرد، تهيم على وجهك في طول البلاد. ألك أقارب؟
ـ لا أقارب لي، فأنا وحيد في هذا العالم.
ـ متعلم؟
ـ نعم.
ـ أتعرف لغة غير الآرامية؟
ـ نعم، أعرف اللغة اليونانية.
ارتفع جفن الوالي المتورم قليلاً، وحملقت العين الملفعة بضباب العذاب بالمتهم، فيما بقيت العين الأخرى مغمضة. وسأل بيلاطس باليونانية:
ـ لماذا أردت هدم الهيكل، ودعوت الشعب إلى فعل ذلك؟
وهنا انتعش الموقوف من جديد، وفارق الهلع نظراته، فأجاب باليونانية أيضاً:
ـ أنا أيها الصالـ… ـ وعند هذا الحد لمع الرعب في عينيه، إذ كاد أن يغلط، لكنه استدرك قائلاً ـ أنا يا إيغمون ما أردت يوماً هدم الهيكل، وما حرضت على هذا العمل السخيف أحداً.
وعند هذا بدا الاستغراب على وجه أمين السر، المنكب على منضدة منخفضة يدون المحضر، فرفع رأسه ثم عاد إلى الرق. وقال الوالي بصوت رتيب:
ـ جموع بشرية شتى تتوافد إلى المدينة بحلول العيد. وبين هذه الحشود سحرة وفلكيون وعرّافون وقتلة. وبينهم أيضاً كاذبون. أنت مثلاً إنسان كاذب. فها هنا قد خُطّ بوضوح: حرّض على هدم الهيكل، وبهذا يشهد الناس.
ـ إنهم أناس صالحون ـ وهنا شعر الموقوف بأنه أخطأ، فأردف مسرعاً ـ يا إيغمون، هؤلاء الناس لم يتعلموا شيئاً فتبلبلت أفكارهم، ولم يفهموا كلامي على الوجه الصحيح، وبت أخشى من أن تستمر هذه البلبلة زمناً طويلاً، بسبب كلام نُقل عني خطأ.
ساد الصمت من جديد، وعادت العينان المريضتان تتأملان الموقوف بقسوة:
ـ أنبهك التنبيه الأخير. فلا تتظاهر بالجنون، فأنت لص ـ لفظ بيلاطس كلماته برفق ورتابة، ثم أردف ـ قليلةٌ هي الكلمات التي كُتبت ضدك، ولكنها كافية للحكم عليك بالموت شنقاً.
ـ لا لا يا إيغمون ـ هتف الموقوف وقد اضطرم رغبة في إقناع محدثه ـ يمشي، يمشي وحيداً، حاملاً قطعة رقٍّ من جلد الماعز، ويكتب باستمرار. وفي إحدى المرات ألقيت نظرة على ورقة الرق هذه، فيا لهول ما قرأت!. لم أتفوه بكلمة مما كتبه عني. لقد رجوته بحق الله أن يحرق أوراقه. فكان جوابه أن انتزعها من يدي وهرب.
فسأله بيلاطس متقززاً، وقد وضع كفه على صدغه:
ـ من الذي فعل معك هذا؟
فأجاب الموقوف منشرحاً:
ـ ليـﭭـي ماتـﭭـي. كان يعمل جابياً للضرائب. ولقيته أول مرة في طريقي إلى فيفاغي. هناك، عند زاوية البستان، تحدث معه. في البدء تكلم بجفاء، أهانني، أو بالأحرى ظن أنه أهانني، إذ سماني كلباً ـ ضحك المتهم ساخراً ثم أردف ـ أما أنا شخصياً فلا أرى شراً في هذا الحيوان، يجعلني أغضب من مناداتي باسمه ـ وهنا انقطع أمين السر عن الكتابة، ونظر خلسة إلى الوالي وقد بدا عليه التعجب. وأكمل يسوع ـ بعد ذلك، وفيما كان يصغي إليّ، رق ولان ثم رمى المال في الطريق، وأعلن بأنه سيترك كل شيء، ويشاركني أسفاري.
ضحك بيلاطس ساخراً وقد اختلج أحد خديه، وكشر عن أسنان صفراء، ومال بجذعه نحو أمين سره، وقال:
ـ أورشليم يا أورشليم، أي شيء لا يُسمع تحت سمائك!. أسمعتَ عن جابي ضرائب رمى المال في الطريق؟
وقبل أن يفكر أمين السر في الجواب، رأى أن عليه أن يبتسم كما فعل بيلاطس. ثم طفق يروي أخبار مَتّى الغريبة:
ـ وقال إنه منذ ذلك الحين أصبح يمحض المال كراهيته الشديدة، وصار يسوع رفيقي وصديقي.
تأمل الوالي المتهم، وكان ما يزال مكشراً، ثم نظر إلى الشمس الصاعدة فوق تماثيل أحصنة الميدان المنبسط يميناً، وفجأة تذكر والألم المثير للغثيان يفترسه، بأن المسألة أبسط مما يتصور المرء: الآن يأمر بطرد اللص غريب الأطوار، ويلفظ كلمتين فقط: ليمت شنقاً. ثم يأمر بطرد الخفير، ويغادر الرواق إلى القصر، ويعتم غرفته، ويستلقي على الأريكة، ويرسل وراء الماء البارد، ثم ينادي كلبه بانغا بصوت حزين، فيشكو إليه آلام رأسه.
وحدثت مريضَ الرأس نفسُه أن يشرب السم! ـ يا للنفس الأمارة بالسوء! ـ ونظر إلى المتهم بنظرتين زائغتين، ثم عاد فصمت قليلاً، وتذكر، فلم تنفعه الذكرى هذه المرة، بل آلمته أشد الإيلام، وتساءل: لماذا يمثل أمامه هذا المتهم، وفي هذا الصباح الباكر، فيما شمس أورشليم لافحة القيظ، أشعتها تحرق بلا رحمة. نعم، لماذا يمثل أمامه هذا الذي شوهت وجهه الخدوش؟ وأية أسئلة سخيفة يجب أن يطرحها عليه؟
وعاد فأغلق عينيه وسأل بصوت أجشّ:
ـ ليـﭭـي ماتـﭭـي!
ـ نعم، ليـﭭـي ماتـﭭـي.
ترامى إلى سمع الوالي صوت واخز مؤلم.
ـ ومع ذلك، أريد أن أعرف ماذا قلت عن الهيكل، أمام الجميع في البازار.
وسُمع صوت يجيب بكلمات وخزت صدغ بيلاطس، وسببت له صداعاً شديداً:
ـ أنا يا إيغمون قلت إن هيكل الديانة القديمة سيزول، وسيرتفع هيكل جديد مكانه هو هيكل الحق. قلت هذا ليفهمني الجميع.
ـ ولماذا، أيها المتشرد، أحدثت بلبلة بين الناس بحديثك عن الحق، الذي لا تملك عنه أي تصور. فما هو الحق؟
وهنا خاطب الوالي نفسه: أيتها الآلهة، ماذا حدث لي لأسأله في المحكمة عن أمور جانبية!. أتراني فقدت عقلي. (ومن جديد تراءت له الكأس ذات السائل الغامق: ناولوني السم.. السم). وسمع المتهم يجيب:
ـ بادئ ذي بدء أقول إن رأسك يؤلمك. فهل ما أقوله حق؟. وإن آلامه لفظيعة إلى درجة تجعلك تفكر بالانتحار صاغراً. ثم إنه ليس بمقدورك أن تخاطبني ولا حتى أن تنظر إليّ. إذن فأنا الآن جلادك، شئت أم أبيت، وهذا يؤلمني ويحزنني. إنك الآن عاجز عن التفكير في أبسط المسائل، وتحلم فقط بأن يعود إليك كلبك، المخلوق الوحيد الذي تخلصه الود. لكن اطمئن، فسوف تتلاشى أوجاع رأسك وستشفى.
حملق أمين السر في المتهم، ولم يعد يكتب كلمة واحدة مما يتفوه به. أما بيلاطس فحدق في المتهم بعينين مبرحتين، فرأى الشمس وقد درجت في السماء فوق الميدان، وقد تسربت أشعتها إلى الرواق، حتى وصلت إلى خفي يسوع الباليين، الذي غير مكانه ليتقي لهيبها.
نهض الوالي عن المقعد وقد احتضن رأسه بكلتا يديه، وبدت على وجهه النحيل الأصفر علامات الخوف. لكنه سرعان ما بدده بقوة إرادته وجلس من جديد. وأثناء ذلك أخذ المتهم يكمل حديثه، دون أن يدون أمين السر منه كلمة، مكتفياً بأن يمد عنقاً كعنق الإوزة، مجتهداً أن يسمع كل ما يقول.
ـ لقد انتهيت من كلامي ـ قال المتهم وهو يتأمل الوالي بعين الرضا. لكنه سرعان ما أكمل ـ إنني مسرور. أنصحك يا إيغمون أن تترك قصرك، ولو لبعض الوقت، وتتنزه مشياً على قدميك في الضاحية، أو في جنائن جبل إليون. ستهب عاصفة عند المساء ـ والتفت المتهم ينظر إلى الشمس وقد زَرَّ عينه، وأردف ـ أنا مستعد لمرافقتك في النزهة المفيدة. ولديّ بعض الأفكار الجديدة التي قد تنفعك. إنني أدعوك بكل محبة وسرور لتشاركني أفكاري؛ لا سيما وأنك كما يبدو لي قد أوتيت نصيباً وافراً من الذكاء.
وهنا بدا ظاهراً شحوب الموت على وجه أمين السر، حتى إنه أوقع أوراق الرقّ على الأرض. فيما أكمل المتهم المقيد دون مقاطعة:
ـ إن مصيبتك تكمن في انطوائك على نفسك، وفقدانك التام للثقة بالناس. لا يجوز أن تمنح ثقتك وحبك للكلب وحده. إن حياتك يا إيغمون شحيحة فقيرة. ولا أظنك غير موافق على كلامي.
وهنا سمح المتكلم لنفسه بابتسامة، في غمرة دهشة أمين السر وذهوله: أيصدق ما تسمعه أذناه أم لا يصدق؟ تخيل كيف سينصب غضب الوالي الساطع الصاعق على المتهم، الذي وصلت جرأته حد الوقاحة. فرغم معرفته الجيدة بالوالي، لم يكن مستطيعاً تصور مدى سَورة غضبه في مثل هذا الموقف.
لكن صوت الوالي الأجشّ دوّى متقطع النبرات باللاتينية:
ـ فكوا وثاقه.
ضرب حارس الأرض برمحه، ثم سلمه لآخر، فاقترب من الموقوف وحرره من قيوده. أما أمين السر فوضع لفافة الورق جانباً، مقرراً ألا يكتب ولا يستغرب شيئاً بعد الآن. أما بيلاطس فسأل الموقوف باليونانية:
ـ أتكون طبيباً عظيماً؟ اعترف.
ـ لست طبيباً أيها الوالي.
أجاب الموقوف وهو يفرك راحة يده المتورمة الموسخة القرمزية اللون. وكان يفعل ذلك متلذذاً.
فعبس بيلاطس ورشق يسوع بعينين يتطاير منهما شرر يعرفه المحيطون، وقال:
ـ لم أسألك إذا ما كنت تحسن اللاتينية.
ـ نعم أعرفها.
اصطبغت وجنتا بيلاطس الصفراوان بالحمرة، وسأله باللاتينية:
ـ كيف عرفت بأنني أرت مناداة الكلب؟
ـ بكل بساطة: حركت يدك في الهواء ـ وهنا أعاد السجين تمثيل ما فعله بيلاطس، مردفاً ـ كأنما أردتَ أن تُمَسِّد… وشفتاك…
ـ نعم.
وران الصمت من جديد. ثم عاد بيلاطس وطرح سؤالاً باليونانية:
ـ إذن فأنت طبيب؟
فأجاب الموقوف وقد انتعش:
ـ صدقني أنني لست طبيباً.
ـ ليكن ما تريد. ولا بأس عليك، إذا ما أردت الاحتفاظ بهذا السر لنفسك. فلن يغير ذلك من مجريات الأمور. أتجزم بأنك لم تحرض على هدم الهيكل، أو إشعال الحريق فيه، أو تدميره؟
ـ لم أدع إلى مثل هذه الأعمال يا إيغمون. فهل تراني مجنوناً حتى أفعل؟
فأجاب الوالي بهدوء وقد بدت على مخايله ابتسامة مخيفة:
ـ لستَ مجنوناً. فأقسم إذن بأنك لم تحرض أحداً، ولم تدع إلى أعمال تخريبية.
أجاب الموقوف وقد انتعش:
ـ بأي شيء تريد أن أقسم لك؟
ـ بحياتك. ولا سيما أن الظرف مناسب لتقسم بها. أجل، أقسم بحياتك المعلقة بشعرة. وإنك لتعرف هذا.
ـ أو تظن يا إيغمون أنك أنت الذي علقت حياتي بتلك الشعرة؟ أنت مخطئ إن ظننت ذلك.
فارتعش بيلاطس وغمغم:
ـ أنا قادر على قطع هذه الشعرة.
ـ بل أنت مخطئ، مخطئ وأيم الحق ـ أجاب الموقوف وقد أشرق وجهه بنور ابتسامة، واتقى أشعة الشمس بيده، وأردف ـ إن الذي علق الشعرة وحده هو القادر على قطعها يا إيغمون.
ـ لا أتعجب، إذا كان هذا هو منطقك، من أن يتبعك المتشردون والبطالون في أورشليم. لا أعلم من الذي علق لسانك، لكنني متأكد من أنه قد عُلق جيداً. وطالما أن الشيء بالشيء يُذكر، فأجبني: أصحيح أنك دخلت أورشليم من البوابة الضيقة ممتطياً حماراً، ووراءك رعاع يهتفون لك كنبي من الأنبياء؟
ـ لا أملك حماراً يا إيغمون. نعم دخلت أورشليم. هذا صحيح. لكن مشياً على الأقدام، وبصحبة ليـﭭـي ماتـﭭـي وحده، ولم يهتف لي أحد، لأن لا أحد في أورشليم حينذاك كان يعرفني.
قال بيلاطس وهو ينظر إلى المتهم:
ـ أتعرف كلاً من ديسماس وغستاس، وذاك الثالث باراباس؟
ـ لا أعرف هؤلاء الناس الصالحين.
ـ حقاً؟
ـ حقاً.
ـ والآن قل لي: لماذا تكثر من استعمال كلمات: «أناس صالحين»؟ أتطلق هذه التسمية على الناس جميعاً؟
ـ على الناس جميعاً. نعم. لا أشرار في هذا العالم.
ضحك بيلاطس ساخراً، وقال:
ـ لم أسمع بمثل هذا الكلام من قبل. وقد يكون مرد ذلك إلى قصور خبرتي بالحياة ـ وهنا أمر بيلاطس أمين سره ـ يمكنك الآن أن تدون ـ ثم عاد وقال ليسوع ـ لعلك قرأت هذا في أحد الكتب اليونانية؟
ـ اهتديت إلى هذا بعقلي.
ـ وتبشر بما اهتديت به؟
ـ نعم.
ـ ومارك الملقب بكريسابوي هل هو إنسان صالح أيضاً؟
ـ نعم، وإن كان بائساً: فمنذ أن شوهه وضربه بعض الناس الصالحين، أصبح فظاً قاسياً. وأنّى لي أن أعرفهم.
فأجاب بيلاطس:
ـ بمقدوري أن أخبرك بما حدث له، لأنني شهدت تلك الواقعة. لقد انقض عليه بعض الناس الصالحين، كما تنقض الكلاب على الدب، وأمسكوا بيديه ورجليه، وتشبثوا برقبته، فسقط المسكين على الأرض، فطوقوه. ولو لم تقتحم جمعهم كوكبة من الخيالة، تحت إمرتي، لما كان باستطاعتك، أيها الفيلسوف، التحدث مع كريسابوي. لقد وقعت تلك المعركة في وادي الدموع قرب إديستافيزو.
وفجأة تكلم الموقوف حالماً:
ـ لو نوقش، فأنا واثق من تماماً أنه كان سيتبدل كلياً.
أجاب بيلاطس:
ـ أظنك لن تدخل فرحة كبيرة في قلب قائد الفيلق، بحديثك مع أي من ضباطه أو جنوده. ومختصر القول بأنه لن يُتاح لك التحدث مع أحد، لحسن حظ الجميع، وأنا أول معارضيك.
في تلك الأثناء جنحت إلى الرواق سُنونوّة، رفرفت بشكل دائري تحت السقف الموشى بالذهب، حتى كادت تلامس بجناحها المشحوذ، وجه التمثال النحاسي في القمرة. ثم عادت فتوارت تحت إفريز الرواق. ربما واتتها فكرة أن تضفر لها عشاً هناك. وفي تلك اللحظة اعتملت في رأس الوالي الفكرة التالية:
بعد النظر في قضية الفيلسوف الشريد يسوع، الملقب بالناصري، يرى الإيغمون أن عناصر الجريمة غير متوفرة، خصوصاً وهو لم يجد أية علاقة ـ ولو من بعيد ـ بين أعمال يسوع والحوادث المخلة بالأمن التي وقعت منذ فترة في أورشليم. هذا وقد تبين أن الفيلسوف الشريد مريض نفسياً. وعلى ضوء هذه الأدلة، لن يصادق الوالي على الحكم بموت الناصري: الحكم الذي أقره المجمع الصغير. لكن بما أنه يوجد ثمة شك بأن أحاديث الناصري الطوباوية المتهورة، ربما كانت وراء الاضطرابات في أورشليم، فالوالي يأمر بإبعاد يسوع عن المدينة، ومعاقبته بالسجن في قيساريا، على البحر الأبيض، حيث يملك الوالي استراحة هناك.
لم يتبق إلا أن يملي الوالي فكرته على أمين السر. وصفقت السنونوّة بجناحيها فوق رأس الإيغمون، ثم جنحت نحو حوض النافورة، وطارت محلقة في السماء. ونظر الوالي إلى المتهم، فرأى عموداً من الغبار منتصباً قربه، فسأل أمين سره:
ـ أهذا كل ما عندك عنه؟
فأجابه في الحال:
ـ للأسف لا.
قال هذا وناول بيلاطس قطعة أخرى من الرق. فتساءل بيلاطس وقد قطب ما بين حاجبيه:
ـ ماذا بعد؟
(وكان في الرق وشاية كاذبة، بأن يسوع قد هاجم القيصر؛ الأمر الذي قلب المعادلة كلها، وأرجف خوفاً بالوالي بيلاطس)
قرأ بيلاطس تقرير الوشاية، ثم قال وهو يتأمل يسوع بنظرات طافحة بالدهشة والجزع، فيما تنذر ملامح وجهه بشر مستطير:
ـ اسمع يا ناصري، هل تعرضت بكلامك للقيصر العظيم؟ أجب: هل فعلت أم لم تفعل؟
ومد بيلاطس حرف «لم» أكثر من العادي. ثم أتبع كلامه بنظرة، كأنه أراد لها أن تخيفه. غير أن يسوع اكتفى بالقول:
ـ قول الحقيقة سهلٌ ومفرح.
فأجابه بيلاطس بصوت مختنق النبرات ينفث شراً:
ـ لا يهمني أن أعرف إذا ما كان قول الحقيقة مؤلماً أو مفرحاً لك، لا سيما وانت مُكرَه على البوح به. زن كل كلمة تتفوه بها لتتجنب منية شنيعة. أما الموت، فلا بد أنك ذائقه… أتعرف شخصاً من بيت لحم اسمه يهوذا؟ بم حدثته عن القيصر؟
فشرع السجين يعترف بسرور:
ـ حدث أنه مساء أمس الأول، تعرفت قرب الهيكل إلى إنسان في مقتبل العمر، يسمي نفسه يهوذا، من بيت لحم، ودعاني إلى بيته الذي يقع في الحي السفلي من المدينة.
فسأل بيلاطس وقد التمعت في عينيه نار إبليسية:
ـ وهل هو إنسان صالح؟
ـ نعم إنه إنسان صالح، ومحب للمعرفة. وقد أبدى اهتماماً كبيراً بأفكاري.
فقال بيلاطس وعيناه تلتمعان:
ـ لعلك ستقول إنك نسيت بم أجبته!
ـ مما قلته: إن كل سلطان هو اغتصاب لحقوق الناس، وإنه سيأتي زمن يزول فيه الملوك، ويدخل الإنسان مملكة الحق والعدل، حيث لا حاجة إلى أي سلطة.
ـ وبعد ذلك؟
ـ قيد الناس يديّ واقتادوني إلى السجن.
فسارع أمين السر إلى رسم كلمة واحدة على الرق. أما بيلاطس فعلا صوته يقول متقطعاً، وقد رمى أمين السر بنظرة كراهية:
ـ ما عرف العالم، ولن يعرف، سلطة أفضل من سلطة الإمبراطور تيـﭭـاريا. منذ متى كان انتقاد السلطة من شأنك أيها المجرم المجنون؟ ـ ثم صرخ آمراً ـ ليغادر الحارس الرواق ـ ثم التفت إلى أمين سره قائلاً ـ دعوني أختلي بالمجرم، فالقضية تتعلق بالسلطة.
أغنية مياه النافورة وحدها ما عكر الصمت. نظر بيلاطس إلى المياه تفيض من الحوض. وقال السجين:
ـ أعتقد أن مصيبة وقعت بحديثي مع الشاب التلحمي. قلبي يحدثني بأن نكبة ستحل به يا إيغمون. وكلي شفقة عليه.
أجاب الوالي بضحكة ساخرة:
ـ ثمة من هو أحق بالشفقة وأبأس مصيراً من الشاب التلحمي ـ وأكمل ـ الجلاد كريسابوي الفظ الغليظ، والناس الذين ضربوك لأجل تعاليمك (وأشار إلى الخدوش في وجه يسوع) واللصان ديماس وغستاس اللذان قتلا مع أعوانهما أربعة جنود، والخائن القذر يهوذا؛ كلهم أناس صالحون بنظرك؟
ـ نعم.
ـ وسيأتي ملكوت الحق؟
ـ سيأتي يا إيغمون.
وهنا صاح بيلاطس بصوت مخيف ترددت أصداؤه في الحديقة:
ـ لن يأتي أبداً. أنت مجرم مجرم ـ ثم بصوت خفيض ـ أتؤمن بآلهة يا يسوع الناصري؟
ـ نعم، بالإله الواحد.
ـ فصل له بخشوع، لكني أقول لك بأنه لن ينفعك ـ ثم بكآبة خرساء ـ هل أنت متزوج؟
ـ لا، فأنا أعزب ووحيد.
وفجأة هز الوالي كتفيه، وكأنما سرت قشعريرة من البرد في مفاصله. فمسح كفيه كمن غسلهما، وتمتم مخاطباً نفسه: تباً لك أيتها المدينة البغيضة، ثم قال ليسوع:
ـ لقد كان موتك أفضل لك من لقاء يهوذا التلحمي.
تهدج صوت السجين، وقال:
ـ أطلقني يا إيغمون. أظنهم يريدون قتلي.
ـ أتظن أيها البائس أن الوالي الروماني يطلق إنساناً تفوه بما تفوهت به؟! أيتها الآلهة، أيتها الآلهة، اسمعي. لعلك تعتقد أنني مستعد للجلوس مكانك! احترس مني. هل تسمعني؟
ـ يا إيغمون.
ـ اسكت.
صرخ بيلاطس. وبنظرات مجنونة واكب حركات السنونوّة، ثم أعاد الصراخ:
ـ إليّ.
وحين عاد أمين السر والحارس، أعلن بيلاطس أنه يصادق على حكم الإعدام، الذي أصدره المجمع الصغير [السنهدرين] بحق المجرم يسوع الناصري.
طلب الوالي من أمين سره أن يدعو إلى القصر كلاً من: رئيس المجمع واثنين من الأعضاء، ورئيس حرس الهيكل.
ما إن خرج بيلاطس إلى الحديقة، حتى تناهت إلى أذنيه غمغمات خافتة آتية من بعيد، ما لبثت ان انجلت عن صراخ خافت وعويل، فأدرك بيلاطس أنها أصوات الجموع من سكان المدينة، جاؤوا ليشهدوا الأحكام. فدعا رئيس الكهنة إلى الجلوس معه في الشرفة، غير أن قيافا اعتذر بلطف. فما كان من بيلاطس إلا أن وضع قلنسوة على رأسه الذي بدأ يغزوه الصلع، وراحا يتحدثان باليونانية.
قال بيلاطس إنه نظر في قضية يسوع الناصري، وصادق على حكم الإعدام، الذي لن ينجو منه ثلاثة لصوص أيضاً، وهم ديسماس وغستاس وباراباس. وسيتم التنفيذ اليوم.
ديسماس وغستاس حاولا إثارة الشغب والدعوة إلى التمرد، فهما من سلطة الوالي. أما المجرمان الآخران باراباس ويسوع فمن سلطة المجمع اليهودي (السنهدرين)، وقد أصدر حكمه بشأنهما. واليوم هو عيد الفصح المجيد، حيث اقتضت التقاليد إطلاق سراح واحد منهما. وبذا فإن الوالي يرغب في معرفة نية المجمع: أي المجرمين يختار لإطلاق سراحه: بارباس أم الناصري؟
أومأ قيافا برأسه أن المسألة واضحة: فالمجمع يطلب إطلاق سراح باراباس.
أبدى بيلاطس دهشته ثم قال برفق:
ـ أخاف أن يكون ثمة تسرعاً أو خطأ. إن السلطة الرومانية الزمنية لن تتعدى حدود السلطة الروحية المحلية، وهذا ما يعرفه رئيس الكهنة. ولكن جريمة باراباس مختلفة عن جريمة الناصري: فإذا كان الناصري ـ وهو المجنون حقاً ـ متهماً بأقوال تافهة، فباراباس سمح لنفسه بالدعوة إلى العصيان علناً، وخطف الحارس وقتله… واستناداً إلى ذلك يلتمس الوالي من رئيس الكهنة إعادة النظر في الحكم.
تأمل قيافا في عيني بيلاطس بنظرات مفعمة بالصراحة، وأجابه بصوت هادئ النبرات، مؤكداً أن المجمع قد درس القضية باهتمام بالغ، ويرغب في إطلاق سراح باراباس.
ـ حتى بعد شفاعة من باسمه تتكلم روما؟
فكرر قيافا بهدوء:
ـ للمرة الثالثة نعلن أننا سنطلق سراح باراباس.
لا خلاص للوالي من آلامه الجهنمية، ولن تنجح في علاجها وسيلة. ليست فكرة الموت ما شغل قلبه، بل كآبة خرساء مرعبة. وقال مجيباً قيافا:
ـ حسناً. ليكن ما تريد.
هتف قيافا:
ـ إنه يوم خانق الحرارة، لا بد أن يعقبه هبوب العواصف.
ـ لست متضايقاً من الحر، بل منزعج مما حدث يا قيافا ـ وأردف وهو يزر عينيه ويبتسم ـ احترس يا رئيس الكهنة.
لمعت عينا رئيس الكهنة القاتمتان، وبدت على وجهه دهشة، وأجاب بثقة وكبرياء:
ـ ماذا أسمع أيها الوالي؟ أتهدد بعد إقرار حكم أنت صادقت عليه بنفسك؟
ـ اعلم يا رئيس الكهنة أن الطمأنينة لن تزورك بعد اليوم، ولن يعرفها شعبك ـ وأشار بيلاطس بيده إلى اليمين، حيث تلألأ الهيكل على قمة عالية في البعيد ـ هذا ما يخاطبك به بيلاطس البنطي، الفارس ذو الرمح الذهبي.
ـ أعرف هذا ـ أجاب قيافا ذو اللحية السوداء بلا وجل، وقد لمعت عيناه ورفع يديه إلى السماء ـ شعب اليهودية يعرف مدى الكراهية التي يكنها قلبك له، ويعلم كم من الآلام تسببت له. لكنك لن تقدر يا بيلاطس أن تقضي على هذا الشعب، فالرب يحميه، وقيصر القادر يسمعنا ويحمينا من شرك، أيها الفاسد المفسد.
ـ لطالما شكوتني يا قيافا للقيصر. والآن أتى دوري للكلام: تذكر كلماتي يا رئيس الكهنة: سيزحف فيلق كامل من الحرس الإمبراطوري حتى أسوار أورشليم، وستزحف خيول العرب أيضاً. وحينذاك ستسمع أصوات العويل، وستتذكر باراباس الذي خلصته، وستندم لأنك أسلمت للموت فيلسوفاً يبشر بتعاليم المحبة والسلام” (الشيطان يزور موسكو. 21 ــ 38).
انتهى النقل من رواية بولغاكوف الفنية. ونعود من ثم إلى الحدث التاريخي:
إذن فقد كان بيلاطس يخشى أن يقع على عاتقه إثم قتل رجل يراه قديساً. لكن التحريض اليهودي، الذي اتخذ من وشايته بأن عيسى عليه السلام ينتقد الإمبراطور، كان يرعب الوالي الروماني: فقد رأينا العهد الجديد يروي أن بيلاطس غسل يديه من إثم قتل المسيح، أمام جميع الكهنة اليهود الذين ساقوه إليه، قبل أن يقول لهم: “أنا بريء من دم هذا الرجلِ! دبروا أَنْتُمْ أمره”. فلما أجابوه: “دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا”، أسلمه إلى الصلب مكرهاً (متى/27. 24، 25 ــ 26).
فأنجاه الله من كيدهم، ورفعه إليه، وشَبّهَ بغيره على جلاديه. وصار اليهود من يومها يفتخرون متبجحين بقولهم: ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا*بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيما﴾(المائدة/157 ــ 158).
وإذ غاب عيسى عليه السلام عن الأرض؛ فقد انساح حواريوه والمؤمنون برسالته، في أصقاع الإمبراطورية الرومانية، حتى صار الدين الجديد يهدد الوثنية في عقر دارها، مما نبه الأباطرة إلى خطورة الأمر، فأخذوا يلقون المسيحيين الأوائل، من تلاميذه، إلى الموت تعذيباً، وفي المجتلدات.
وفي هذا الصدد كثيراً ما قيل بأن تحريض اليهود ــ الذين كانوا أعلم الناس بخطورة الدين الجديد، الذي يدعو إليه واحد منهم ــ كان من أقوى أدوات إقناع الدولة بضرورة هذا الاضطهاد؛ الأمر الذي سيجعل المسيحيين المضطهدين يرحبون فيما بعد بتدمير تيتوس للهيكل، عام 70م، ويرونه لنبوءة المسيح (ديورانت/11. 381، 245).
الشتات اليهودي الأوسع
يبدو لدينا الآن أن الخضوع اليهودي قد تطور إلى نوع من التحالف الصامت، بين جهاز الحكم الذاتي الرسمي اليهودي في القدس (السنهدرين)، وبين السيدة روما. لكن هذه (الحكمة اليهودية) لن تستمر إلى الأبد، إذ لن يلبث حكم السنهدرين أن ينهار، على يد شبان يهود ثائرين، يتمردون على الدولة الرومانية، فيحاصرون الحامية الرومانية المعسكرة في مسادا (Massada)، وبعد أن وعدوها بالأمان، قتلوا رجالها عن آخرهم. وبذا فلم يحل شهر سبتمبر عام 66 م حتى كان الثوار اليهود قد أتموا الاستيلاء على القدس، وعلى فلسطين كلها تقريباً، وحرروها من سيطرة روما تماماً (ديورانت/11. 186 ــ 187).
لكن الفيالق الرومانية ــ بقيادة تيتوس ــ سرعان ما وصلت في العام 70 م، وحاصرت القدس والهيكل، ثم اقتحمتهما. ولم يكن تيتوس مثل بومبي، بل أمر فيالقه بهدم الهيكل على رؤوس أصحابه. وقبض القائد الروماني على سبع وتسعين ألفاً من اليهود، وساقهم أمامه مصفدين في الأغلال، ليبيعهم رقيقاً، أو ليلقي بهم إلى الموت في المجتلدات، التي أقيمت ضمن احتفالات النصر في روما، وقيسارية وبيروت. وبذا فلم لم يبق من اليهود في فلسطين أحد، إذ كانت هذه هي البداية الحقيقية لأوسع شتات يهودي، قاد أهله إلى الانتشار الواسع في الأرض، فسكن آلاف منهم في بلاد الرافدين، وحل كثير منهم في الجزيرة العربية، ومنها عبروا البحر إلى بلاد الحبشة. وسكن آلاف أخرى منهم سوريا ولبنان، وتركيا واليونان وشمال أفريقيا وروما (ديورانت/11. 186 ــ 190).
في العام 323م تنصرت الدولة الرومانية في عهد قسطنطين، وبنت أمه هيلانة كنيسة القيامة، وانتقلت بذلك من فتاة حانة إلى قديسة (ديورانت/11. 382، 401).
النور القادم من الصحراء
في عام 605 م أعلن كسرى أبرويز الحرب الدينية على المسيحيين. ويبدو أن اليهود قد عاودوا التسلل إلى فلسطين، في بعض فترات التاريخ، بعد تدمير تيتس للهيكل، إذ نرى ستة وعشرين ألفاً منهم ينضمون إلى جيش كسرى، نكاية في الدولة المسيحية.
وبذا فقد حقق الفرس انتصارات كبيرة على الإمبراطورية البيزنطية، واحتل الشام ومصر وآسيا الصغرى وفلسطين، ونهبت جيوشه المتحدة، في عام 614م مدينة القدس وقتلت تسعين ألفاً من المسيحيين، وأحرقت كثيراً من كنائسها، ومن بينها كنيسة الضريح المقدس، وغنم الفرس (الصليب الحق) أعز أثر على المسيحيين (ديورانت/12. 295 ــ 196).
وفي تلك اللحظة التاريخية الفارقة، كان نجم نسل إسماعيل ـ الطفل الذي ألقاه أبوه في الصحراء، قبل حوالي 2500 عام ــ يصعد في السماء، مبشراً بأنه لن يطول به الوقت، حتى يملأ الأرض نوراً وخيراً وحقاً وبشائر بالعدل. لقد وُجد الآن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة. ورغم أن دعوته كانت ما تزال في بداياتها، ورغم أنها كانت تعاني في تلك اللحظة أشد ضروب الإنكار والحصار من أهلها العرب في مكة، إلا أن صوتها كان يرتفع معلناً تعاطفه مع الأقرب إليه ديناً، المسيحيين الرومان، فيأسى لهزيمتهم على يد الوثنيين عبدة النار، حتى يشفق الله سبحانه على حزنها الكريم الصامت، فيواسيها ويسليها بأن هذه الهزيمة، للمسيحيين، لن تستمر طويلاً، لأن انتصارهم لن يتأخر أكثر من بضعة من السنين (الروم/1 ــ 5).
إذن فقد انتصر الفرس الوثنيون على المسيحيين الرومان، وحزن المؤمنون العرب، فيما فرح “المؤمنون” اليهود، وعادوا إلى القدس يحتفلون بنصر حليفهم على الرومان. ولنا أن نتصور حال المسيحيين من سكان القدس، حين أصبح الذين يرونهم قاتلي المسيح سادتهم. ولنا أن نتصور كيف عادوا إلى مشاهدة القمامة اليهودية، تُلقى على ما يرونه الضريح المقدس لعيسى، في كنيسة القيامة (ابن كثير/7. 68).
لكن دوام الحال من المحال. فلم تمض إلا أقل من عشر سنوات، حتى استعاد الروم القدس ومصر من الفرس، وكل ما خسروه. وفي نفس اللحظة التاريخية التي كان هرقل فيها يعيد “الصليب الحق” إلى مكانه بالقدس، في العام 629 م، كانت سرية بسيطة من رجال محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ تشتبك مع جيشه المنتصر في مؤتة، معلنة انطلاقة عهد جديد (ديورانت/12. 296، 304).
لكن ماذا حدث لليهود، بعد عودة سلطان المسيحية إلى القدس؟ يبدو أنه تم ترحيلهم، فقد وجدنا الطبري ينقل أن واحداً من شروط تسليم المدينة للمسلمين ــ فيما بعد ــ كان عدم السماح لليهود بالإقامة بها (الطبري/2. 449)، مما يسمح لنا بالاستنتاج بأنهم لم يكونوا موجودين ثمة آنئذ.
وعلى أي حال، فقد أخذ السكان المسيحيون في القدس، ينتقمون لما أصابهم من اليهود، بكيفية مشابهة، إذ صاروا يلقون قمامتهم على الصخرة ــ التي هي قبلة اليهود، ويقال إنها من بقايا الهيكل ــ ولم نر اليهود ينظفونها، مما يقوي من اعتقادنا بأنهم لم يكونوا في القدس حينها. ولم تتوقف هذه الإساءات إلى الصخرة المشرفة، إلا بمجيء عمر ــ رضي الله عنه ــ بعد سنوات قليلة، ليطهرها وينظفها ويزيل عنها القاذورات بيديه (ابن كثير/7. 65).
العهدة العمرية
فتح المسلمون القدس، صلحا، في العام 638 م. فبعد حصار لم يطل كثيراً، “وافق البطريق سفرونيوس (Sophronius) على تسليم بيت المقدس، إذا جاء الخليفة نفسه للتصديق على شروط التسليم. وقبل عمر هذا الشرط، وجاء من المدينة في بساطة أفخر من الفخامة، وقابل سفرونيوس مقابلة ملؤها اللطف والمجاملة” (ديورانت/13. 76) وكتب لهم العهد الآتي:
“بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر ــ أمير المؤمنين ــ أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها، وبريئها، وسائر ملّتها: أنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقَص منها، ولا من حيّزها، ولا من صليبهم، ولا من شيءٍ من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضارُّ أحدٌ منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحدٌ من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية، كما يعطي أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمنٌ على نفسه وماله، حتى يبلغوا مأمنهم. ومن أقام منهم فهو آمنٌ، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويُخلي بِيَعُهم وصُلُبَهم، فإنهم آمنون على أنفسهم، وعلى بِيَعِهم وصُلُبِهم، حتى يبلغوا مأمنهم… وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين”(الطبري/2. 449).
تعقيب أخير
وهكذا يتضح لنا من نص الطبري، بأن أحد شروط تسليم القدس للمسلمين، كان ألا يسمح المسلمون لليهود بسكنى القدس. وتبدو لنا هذه الرواية صحيحة، بناء على ما أوردته المصادر من أن الذي أقنع صلاح الدين ــ فيما بعد ــ بانتهاك هذه العهدة العمرية، والسماح لليهود بالعودة إلى القدس، هو طبيبه اليهودي موسى بن ميمون في العام 1188 تقريباً (ديورانت/14. 121). الأمر الذي يقوي استنتاجنا القائل بأن اليهود كانوا قد غادروا القدس عام 629م، فور هزيمة حلفائهم الفرس، إن لم يكونوا قد أُجلوا عنها.
إذن فقد فتح أصحاب محمد ــ صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ــ مدينة الله القدس، وصلى الفاروق هناك. فإن كان لنا أن نقبل برواية الزوجين ديورانت، فقد كان تلك الصلاة بمحراب داود (ديورانت/7. 65)، الذي ربما يكون الأثر الباقي من هيكل هيرودوس. ثم بنى من بعد هناك مسجداً بين القبلة وموضع الصخرة، التي يقال إن الملك جبرائيل قد ربط بها البراق ليلة الإسراء. وهذا هو الذي سُمي بالمسجد الأقصى، أو مسجد عمر، الذي يقع الآن بين الصخرة والقبلة (ابن حبان/1. 235 وابن كثير/7. 68). ونحن لا نعرف إن كان هذا المسجد، الذي بناه الفاروق، قد بناه مكان محراب دواد المذكور أم لا، مع أننا نعلم أن القدس كلها مسجد أقصى.
في عهد الانقسام السياسي بين المسلمين، بعد وفاة معاوية ــ وتحديداً في العام 66هـ ــ بدأ حاكم الشام عبد الملك بن مروان ببناء مسجد فخم فوق الصخرة، ولم ينته من بنائه إلا في العام 73 هــ. ويبدو فعلاً أن عبد الملك كان يهدف، من وراء إقامة هذا البناء المتلألئ، إلى إلهاء الشاميين عن الحج إلى مكة، والاستماع إلى خطب (الخليفة الآخر) عبد الله بن الزبير التحريضية، التي يلقيها على الناس في كل موسم حج (ابن كثير/8. 308).
المصادر:
*القرآن الكريم.
*الكتاب المقدس. ط1. جمعي الكتاب المقدس في لبنان. بيروت. 1993
1ـ ابن كثير. البداية والنهاية. ط1. دار إحياء التراث. بيروت. 1988. الأجزاء: 7،8
2ـ تاريخ الطبري. تاريخ الأمم والملوك. منشورات محمد علي بيضون. دار الكتب العلمية. بيروت. 1997. المجلد الثاني.
3ـ صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان. تحقيق شعيب الأرناؤوط. ط2. مؤسسة الرسالة. بيروت. 1993. الجزء الأول.
4ـ صحيح البخاري. دار ابن كثير. ط1. دمشق. 2002
5ـ صحيح مسلم. دار طيبة. ط1. الرياض. 2006
6ـ عبد الوهاب المسيري. موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية. ط1. دار الشروق. القاهرة. 1999. مجلد4
7ـ مجلة القاهرة. العدد149. أبريل1995
8ـ مجموعة من المؤلفين. وصف مصر. ترجمة زهير الشايب. مكتبة الأسرة. القاهرة. دون تاريخ. الجزء الثاني.
9ـ ميخائيل بولغاكوف. الشيطان يزور موسكو. ترجمة إبراهيم شكر. دار المروج. بيروت. 1986
10ـ ول وايريل ديورانت. قصة الحضارة. عدد من المترجمين. دار الجيل للطبع والمنظمة العربية للتربية الثقافة والعلوم. بيروت وتونس. 1988. الأجزاء: 2، 7، 8، 11، 12، 13، 14