من فواجع 2020 الثقافية.. رحيل ” الكفراوي” الحكاء الناسك
صبري الموجي – نائب رئيس مجلس إدارة عالم الثقافة
لم يشأ 2020 أن يرحل دون أن يلطم حياتنا الثقافية لطماتٍ قاسية تركت جروحا بات صعبًا اندمالُها بعد رحيل كتاب ومبدعين أثروا حياتنا بأعمال خالدة، ومن بين هؤلاء المبدعين الحكاءٌ الناسك ” سعيد الكفراوي” أحد أبرز حلقات ” جيل الستينات” والذي ضم كوكبة من رموز الأدب والنقد ملأوا الدنيا وشغلوا الناس من بينهم الناقد الكبير د. جابر عصفور، وقنديل الرواية العربية الروائي محمد المنسي قنديل، والقاص والروائي جار النبي الحلو، و د. نصر حامد أبو زيد، بالإضافة إلي الشاعرين محمد صالح، وفريد أبو سعدة.
ولد الكفراوى فى قرية “كفر حجازى” بالمحلة الكبرى1939م، حيث كانت تموج بالطقوس والموروث، فكانت طفولته سعيا نحو معرفة غائبة، عَثَر علي أول حروف الهجاء في كُتاب شيخ ضرير، عرف من خلاله أن المشقة يُتغلب عليها بالكفاح النبيل، وأن الحياة تسير بقدر، انفتحت أمامه سكك الأدب، بعدما قرأ ” مُختصر حكايات ألف ليلة وليلة” فشغف بالأدب، وقرأ لأساطينه شرقا وغربا.
في شرخ الشباب كَّون مع رفاقه ناديا أدبيا بقصر ثقافة المحلة الكبرى، ومن المحلة يمَّم وجهه شطر القاهرة بحثا عن “محفوظ”، وصاحب ” أم العواجز ” و” قنديل أم هاشم” يحيي حقي وتبعه رفاقه من “شلة المحلة” .
آمن بالقصة القصيرة واعتبرها الشكل الأمثل للتعبير عن تجربته، فظل وفيا لهذا الفن الأدبي من مشرق شمسه حتي مغيبها.
بدأ كتابة القصة القصيرة منذ الستينيات، فأبدع نحو 12 مجموعة قصصية، كانت “مدينة الموت الجميل” أولي مجموعاته القصصية، التي ضمت عددا من القصص القصيرة والشيقة مثل “صندوق الدنيا”، و”الجمعة اليتيمة”، و” مدينة الموت الجميل”، و”خط الاستواء”، و” قمر مٌعلق فوق الماء”.
يغلُب علي قصص هذه المجموعة من الناحية الأسلوبية ما يسمي بـ” التداعي الحُر”، وتمثل مجموعة “مدينة الموت الجميل” صورة من صور الحياة والموت، الماضي والحاضر؛ ممَّا جعلها مُحتفظة بالإمتاع رغم مضي 3 عقود علي نشرها، إذ تتمتع بدقة الوصف في لوحات حياتية يومية مُلونة، وأخرى أسطورية مُتخيلة تغوص في الرمزية، دشن من خلالها الكفراوي ” جاليري” أو “مرسما” مُكتظا باللوحات والمُجسمات والألوان.
تلتها مجموعته “ستر العورة” ، فـ” سدرة المنتهي” ثم ” “مجري العيون”، و” دوائر من حنين”، فـ” كشك الموسيقي”، و” يا قلب مين يشتريك”، فـ”البغدادية”، وأخيرا “زبيدة والوحش”، وهو عبارة عن مختارات قصصية” ضمت المجموعات الست الأولى التي كتبها الكفراوي خلال مشواره الأدبي منذ الستينيات وحتى الآن.
قام بإخراج الكتاب وتصميم غلافه ورسم اللوحات المُصاحبة للقصص، الفنان عمرو سعيد الكفراوي في تجربة بصرية فريدة من نوعها، يقول عنها: ” قمتُ برسم مجموعة من الرسومات مُستلهما عالم القصص، وأيضا مُستوحاة من أعمال رسامي جيل الستينيات الذين عاصروا أبي؛ أمثال حامد ندا وسعيد العدوي، وغيرهم”.
وقد تماوج الكتاب بين سحر الكلمة وجمال الصورة، فجاء كتجربة خاصة وجديدة تمامًا في عالم النشر والكتابة، سرديًّا وبصريًّا، جمع بين عطاء الأب المُبدع الراسخ، أحد آباء جيل الستينيات، والابن الفنان المثقف المُتمرد على الأطر التقليدية.
وبقراءة مجموعات الكفراوي نلمح تناقضات عالمي المدينة والريف بحس أدبي رفيع المستوى، صنع لصاحبه مكانة كبيرة بين مُحبي القصة القصيرة، كما تتجلي مسحة من الزهد والنسك، تتشكل بتنويعات ورؤى مختلفة فنياً وفكرياً، وانتقالات سردية مُباغتة، لكنها تظل مسكونة بالسؤال كركيزة أساسية لمحاولة فهم الذات والعالم المحيط بها، ينعكس هذا كله على “عجينة القص” ، حيث يتلاقح الغرائبي المشدود لبراح المجهول والمكبوت، بالواقعي المؤطر بدبيب البشر وأحلامهم البسيطة في التشبث بالأمل وإرادة الحياة، وهو ما يوفر مساحة لجدلية كاشفة، يتحول فيها الواقع إلى كابوس، والعكس أيضاً، وهي جدليةٌ متجددة، تكاد تشكل حجر الرؤية ومحور الإيقاع في فضاء معظم أعماله، كما يتميز بناؤه الفني بالحفر في دوائر الوعي
ورغم إلمام الكفراوي وحبه للقصة القصيرة، إلا أن الرواية ظلت حلماً يطارده، وسحابة صيف تُداعب خياله، وطائرا يحلق فوق رأسه يتمني قنصه ليُثري نتاجه الأدبي، فأكد مرارا أن بذهنه أفكارًا لروايات يتحين فرصة كتابتها، لكنها تحتاج إلى جهد روحي، ومُعايشة خاصة، لأزمنة وصراعات وحيوات وشخوص لهم طرائقهم المتقلبة في التعامل مع الحياة، ومن تلك الروايات التي كان مأمولا كتابتها ” حافة الخليج”، وتحكي تجربة مدرس مصري مُغترب يعمل في بلد عربي، ويعاني قسوة الواقع، وكذلك رواية ” بطرس الصياد”، وهو مسيحي أنتج فليماً عن تجلي العذراء سبب له العديد من الإشكاليات مع من حوله.
ولعطائه المتجدد والذي استمر حتي ساعاته الأخيرة حصد الكفراوى العديد من الجوائز مثل “جائزة السلطان قابوس بن سعيد للقصة القصيرة عن مجموعته القصصية “البغدادية”، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب 2016م.
ظل الكفراوي منشغلا بالقراءة والإبداع حتي آواخر 2020 م بعدها توقف الملاح التائه عن التجديف ليرحل عن عالم الفناء إلي عالم الخلود والبقاء عن 81 عاما.