أدب

حس المغامرة والاستكشاف في رواية (هيبي) لباولو كويلو

رواية هيبي، ترجمة: رنا الصيفي

بقلم: علي جبار عطية|بغداد
يغريك الكاتب البرازيلي باولو كويلو للمضي معه في رحلته الاستكشافية، وبحثه عن المعنى في روايته (هيبي) التي يكشف فيها جانباً من سيرته الذاتية، وهو يقول في ملاحظةٍ دونها في نهاية الرواية: (أشخاص هذا الكتاب كافة حقيقيون، وقد غيرت أسماءهم ما عدا اثنين لاستحالة إيجادها ذلك أنَّني لم أعرف الأشخاص سوى بأسمائهم الأولى.. رويت مشهد سجني في بونتاغروسا ١٩٦٨ بإضافة تفاصيل من إقامتين آخريين في السجن تعرضت لهما في ظل الديكتاتوريه العسكريه في آيار عام ١٩٧٤ عندما كنت كاتب أغنيات).
باولو وكويلو روائي وقاص برازيلي، ولد في ريو دي جانيرو سنة ١٩٤٧ ومارس الصحافة، والإخراج المسرحي، والتمثيل، وعمل كمؤلف غنائي، وله ما يزيد عن الستين أغنية.
كان مولعًا منذ شبابه بالسفر، والبحث عن المعرفة، وديانات الشرق، والروحانيات.
نشر أول كتبه سنة ١٩٨٢ بعنوان (أرشيف الجحيم )، ولم يحظَ بالنجاح المطلوب إلا أنَّ روايته (الخيميائي) الصادرة سنة ١٩٨٨عُدت أهم الروايات البرازيلية، وأكثرها مبيعًا، ودخلت موسوعة جينيس للأرقام القياسية بحصولها على صفة أكثر كتاب مترجم لمؤلف على قيد الحياة لترجمتها إلى إحدى وثمانين لغة .
ترجمت رواية (هيبي) المترجمة اللبنانية رنا الصيفي التي لها ١٦ كتابًا مترجمًا حصة الأسد فيها لباولو كويلو إذ ترجمت له تسعة روايات، وقد أصدرت روايةً واحدةً عنوانها (عطر الشوك) /٢٠٢٣م
في رواية (هيبي) يروي الكاتب شطرًا من شخصيته فهو (باولو) الشاب الهيبي بل المغرم بالهيبية تلك الحركة الشبابية الاحتجاجية الرافضة للمجتمع المادي الاستهلاكي، وقد ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ثمَّ انتشرت في أوربا لتختفي مع مطلع الثمانينيات مع تقدم المنضمين لها بالعمر،وذوبانهم في حركات، وتنظيمات سياسية تطالب بنبذ العنف، وتدعو إلى العدالة، والسلام، والمساواة، والمزيد من الحرية،وتحول بعضهم إلى اعتناق الدين والقيم الروحية.
تعني كلمة هيبي: (الوعي،المعرفة)، والمنتمون لها من عائلات الطبقة المتوسطة البيضاء، تتراوح أعمارهم من ١٥ إلى ٢٥ عاماً وهم باحثون عن حياةٍ مختلفةٍ، ومن مظاهرهم: إطالة الشعر، وارتداء الملابس المهلهلة والفضفاضة، والتجول حفًاة، ودعوتهم إلى ممارسة (الحب الحر)، وارتبط سلوكهم العام بتعاطي المخدرات، والولع بموسيقى الروك الصاخبة.
تدور أحداث رواية (هيبي) نهاية ستينيات القرن العشرين، ويروي الكاتب رحلته عندما كان في العشرين من عمره، ولم يصبح كاتباً بعدُ فيقرر السفر هرباً من الحكم العسكري البرازيلي الدكتاتوري بحثاً عن الحرية والروحانية.
تبدأ الرحلة حين يُقام تجمع (ثلاثة أيام من السلام والموسيقى) في وودستوك بنيويورك عام ١٩٦٩، وشيئًا فشيئًا يظهر شباب (الهيبيز) في جميع أنحاء العالم. وفي أمستردام بهولندا، يلفتون الأنظار، وهم يرتدون ملابس باذخة الألوان، ويعزفون الموسيقى، ويناقشون القضايا المختلفة من دون تحفظات.
في هذه الأجواء يلتقي باولو بشابةٍ هولنديةٍ متحررةٍ تدعى كارلا ترى أنَّ هولندا كلها مضجرةٌ: (حيث يولد المرء تحت جناح الحكومة، وحيث تكون شيخوخته مضمونةً بفضل دور رعاية المسنين، واستحقاقات الخلف، والضمان الاجتماعي المجاني وشبه المجاني، وحيث الملكات هنَّ مَنْ يتربعن على العرش منذ جيلين ..) ! ص ٦٨.
تكون كارلا رفيقته في السفر مع نحو عشرين مسافراً آخر كلٌ له قصته هدفهم الوصول نحو أبرز مراكز (الهيبيز) في العالم في نيبال، باستخدام الباص السحري الذي يكون همزة الوصل بين أوروبا وآسيا في رحلة طويلة لاكتشاف العالم والذات، والوصول إلى خلاصة ذلك على وفق مبدأ (إذا أردتَ أن تتعمق في معرفة نفسك، ابدأ باكتشاف العالم من حولك).
ولا يتوقف الباص سوى في محطات بميونخ وأثينا واسطنبول وبلغراد وطهران وبغداد.
يقول الكاتب: (راح يعاين الخارطة، يجتازان جبال الألب، ثمَّ بلدين شيوعيين على الأقل، ليبلغا البلد المسلم الأول الذي سيزوره للمرة الأولى في حياته. كان قد قرأ الكثير عن الدراويش الذين يرقصون ويدورون، وهم يشرعون أنفسهم للأرواح حتى أنه حضر استعراضًا لمجموعة كانت تجول البرازيل، في أحد مسارح المدينة الأساسية. أمكن أن يصبح حقيقةً كل ما كان حتى حينه مجرد حبر على ورق.
مقابل سبعين دولارًا يمضي برفقة أشخاص لديهم حس المغامرة مثله.
نعم، لم يكن ميدان البيكاديللي ـ في لندن ـ سوى ساحة دائرية يتحلق حولها ناس بثياب زاهية، في بلد لا يحمل فيه عناصر الشرطة أسلحةً، وتقفل الحانات فيه عند الساعة الحادية عشرة ليلاً. ويقتصر الجاذب فيه على الآثار التاريخية، وأشياء من هذا القبيل.
كان قد بدَّل رأيه بعد دقائق، فالمغامرة أكثر تشويقًا من ساحة في مدينة، جاء عن الأقدمين أنَّ التغيرات دائمة وثابتة، لأنَّ الحياة قصيرةٌ. ولوكان كل شيء ثابتًا، لانتفى العالم.) ص١٢٥
يتتبع الكاتب حيوات الأشخاص المسافرين لهذه الرحلة، وتحولاتهم فمنهم السائق مايكل، وهو حاصل على شهادة في الطب يقول الكاتب : (قدم إليه والداه سيارة فولسفاكن مستعملة، وبدل أن يختال بها أمام الفتيات أو أن يزهو بها أمام أصدقائه في أدنبره انطلق بعد أسبوع في سفرة إلى جنوب إفريقيا. كان قد ادخر من المال ما يكفيه لسفر سنتين أو ثلاث، وذلك بالعمل طبيبًا مقيمًا في عيادات خاصة. حلم باستكشاف العالم، إذ كان قد استوفى معرفته لجسم الإنسان.. يعتني بالمرضى ويواسي المنكوبين، وتعوَّد فكرة الموت الوشيك.. وقطع عهدًا على نفسه ألا يدع يومًا الفقراء بلا عناية، ولا المتروكين بلا عزاء. واستخلص أنَّ للإحسان مفعولاً منقذًا وحمائيًا، لم يعانِ الضيق مرة، ولم يشعر بالجوع مرة. ولم تكن سيارته الفولسفاكن المصنوعة منذ اثنتي عشرة سنة، معدةً لهذا النوع من الأسفار لكنَّها صمدت، باستثناء ثقبٍ أصاب عجلتها.. ومن دون أن يدري، راح الخير الذي قدمه مايكل، يسبقه أينَّما حل. كان يستقبل على أنَّه المنقذ في كل بلدة توقف بها.. ) ص١٦٦.
ليس للرواية حدث واحد بل هي مجموعة أحداث، ففي الرحلة تتكشف الطبائع البشرية، ويتعرف كل شخصٍ على نفسه، وطبيعة الآخر.. (كأنهم يقولون : لهذا السبب نحيا حجاجًا لأننا ننتمي إلى عالم يكره الركود) ص ١٤١ ويتعلمون أهمية المشاركة، وكيف تجمع المصاعب الناس، وتعلمهم كيفية التخلص من الأنانية.. يقول: (علينا التشارك طبعًا، حتى، وإنْ كان في أمر نعلمه جميعًا. من المهم ألا ننجرف مع أفكارنا الأنانية بأن نكون الشخص الوحيد الذي سيبلغ منتهى الرحلة. ومَنْ يفعل ذلك، سيجد جنّةً خاويةِ، تخلو مما يسترعي الاهتمام، وسرعان ما سيجد نفسه في ضجر قاتل.
يجب ألا نستحوذ على القناديل التي تنير دروبنا ونحملها معنا. متى فعلنا ذلك، نملأ حقائبنا بالقناديل، لكن لن يملأ كل هذا النورالذي تحمله فراغ الرفقة التي إليها نفتقر. فبمَ يُفيدنا ذلك؟) ص ٧٨
يا لها من رحلةٍ شاقةٍ ومثيرةٍ تتخللها الكثير من العواطف البشرية والتناقضات التي تفضي إلى فهمٍ عميقٍ لجوهر الوجود.. (كثيرة هي الانفعالات التي تحرك القلب البشري عندما يختار أن يكرس نفسه لدرب الروحانيات. قد يكون دافعه نبيلًا مثل الإيمان أو حب القريب أو الإحسان. وقد يتلخص في نزوةٍ، في الخوف من الوحدة، في الفضول، أو في رغبة أن نحب.
لكن لا أهمية لأيٍّ من كل هذا. فالدرب الروحانية الحقيقية لهي أقوى من الأسباب التي تدفعنا إليها. تُفرض علينا شيئًا فشيئًا، وتحمل معها الحب، والانضباط، والكرامة. وتحل لحظة نستحضر فيها ما ولّى، ونتذكر ما كنا عليه في بداية رحلتنا، فنضحك على أنفسنا. استطعنا أن نكبر، وإنْ مشينا الدرب لأسبابٍ وجدناها مهمةً، غير أنَّها كانت تافهةً في الحقيقة.
استطعنا أن نغير مسارنا لحظة اقتضى الأمر ذلك. إنَّ محبة الله لهي أقوى من الأسباب التي تدفعنا إليها. آمن باولو بذلك بكل جوارحه. فقدرة الله معنا في كل آن. علينا بالشجاعة لتتجلى هذه القدرة في أرواحنا في مشاعرنا، في تنفسنا علينا بالشجاعة لنغير رأينا عندما ندرك أنَّنا لسنا سوى أداة بسيطة لمشيئته، وأن مشيئته هي ما علينا الوفاء به) ص ١٢٥ و١٢٦
ثمَّ يتوصل كل شخصٍ منهم في النهاية إلى العودة من حيث بدأ، مدركًا أهمية التكيف مع المجتمع .. (لكن سيكون عليه أن يتأقلم. فالتأقلم مرادف للحياة)ص ١٢٨
يُمطر الكاتب القارىء بخلاصة تجربته الحياتية الفريدة، ومن ذلك لقاؤه بأحد المتصوفة وسؤاله ممن تعلمت الحكمة فيجيبه أنَّ له آلاف المعلمين طوال حياته : (كنتُ تلميذ الحياة ولا أزال. واستطعت أن أتعلم من أبسط الأمور، وأقلها توقعًا)، لكنَّه يتوقف عند أبرز ثلاثة معلمين هم :
لص وكلب وصبي !
ويفصل ذلك بأنَّه عاد يومًا إلى بيته، وقد أضاع مفتاح الباب فاستعان بلصٍ فتح له الباب فكافأه بأن أواه لمدة شهر كان اللص يخرج كل يومٍ للسرقة دون أن يحصل على شيءٍ لكنَّه لم يفقد الأمل يقول المتصوف: (أتذكر كلمات اللص (ليس الليلة إنْ شاء الله سأحاول في الغد)، ويعلق : (عرفت قوتي لأستمر) .
أما المعلم الثاني فهو كلب كان ظمآنًا فكلما اقترب من النهر رأى طيفه فيه فيفزع ثمَّ (قرر مواجهة الوضع وارتمى في النهر، عندها اختفى الطيف) .
أما المعلم الثالث فهو صبي سأله المتصوف، وقد رآه يحمل شمعةً:(هل تخبرني من أينَ جاءت الشعلة الملتهبة الآنَ؟
ضحك الصبي أطفأ الشمعة، وسألني من ثمَّ وأنت سيدي هل تخبرني أين اختفت الشعلة.. عندها فهمت كم كنت غبيًا فمن ذا الذي يشعل نار الحكمة، أين تختفي؟
فهمت أنَّ الإنسان على مثال الشمعة يحمل في قلبه الشعلة المقدسة في لحظة معينة لكنه يجهل من أين جاءت، مذاك، رحت انتبه لكل ما يحيط بي للسحب والشجر والأنهر والغابات، والرجال والنساء. كل شيء من الأشياء زودني بالمعرفة التي احتجت إليها) ص ٢٤٠
لا يتوانى الكاتب عن تقديم معلومات توثيقية عن الأماكن التي مر بها لكنَّه يولي اهتمامه ـ كعادته ـ في رواياته ببث خلاصات لما انتهى إليه من تجارب مثل قوله: (عرفت أنَّ حكمة التصوف بمعظمها لا ترد في النصوص المقدسة، بل في القصص والصلوات والرقص والتأمل) . ص ٢٤٠
(العقل هو ظل معرفة الله) . (اخرج من الظل، اذهب إلى الشمس، ودع شعاعاتها تلهمك بدلاً من كلام الحكمة).
(البحث عن المعرفة هو كمحاولة الاغتسال بالرمل، وبئر الماء العذب إلى جانبنا) . ص١٩٦
وبعد أن يصبح باولو كويلو كاتبًا ذائع الصيت يُدعى سنة ٢٠٠٥ إلى برنامج تلفزيوني حواري في امستردام بهولندا يعلن تخليه عن فكرة أن يصبح متصوفًا لكنَّه لم يتخلَ عن أملٍ ضئيلٍ في حضور رفيقته كارلا !
يقول: (خلال المؤتمر، روى جزءًا من القصة المسرودة، وفي لحظةٍ من اللحظات، لم يتمكن من ردع نفسه وسأل: كارلا، أنتِ هنا؟ لم ترفع أي امرأة يدها، يحتمل أنَّها لم تسمع بخبر زيارته المدينة، ويحتمل أنَّها كانت هنا لكنها آثرت ألا تغوص في الماضي من جديد.
هكذا كان أفضل) ص ٢٧٤.
*رواية (هيبي) للكاتب باولو كويلو، ترجمة : رنا الصيفي، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر/بيروت/٢٠١٨ عدد صفحات الرواية ٢٧٥ من القطع المتوسط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى