جِسْرُ الدَّعارة بين تل أبيب والإمارة
سهيل كيوان | فلسطين
يعملُ في الدَّعارة في إسرائيل حوالي أربعة عشر ألف امرأة، (14000) ويصرف الإسرائيليون أكثر من نصف مليار دولار سنوياً في السوق المحلِّية، هذا إضافة إلى ما يدفعونه في رحلاتهم الجنسية إلى مختلف دول العالم، وخصوصًا في بلدان الشرق الأقصى، ودول أوروبا الشرقية، حيث تعملُ وتنظِّمُ وتسيطرُ على جزء كبير من سوق العمل في أوروبا الشرقية عصابات إسرائيلية تحت مُسمَّيات مختلفة.
صدر هذا في إحصاءات رسمية عن وزارة الشؤون الاجتماعية في إسرائيل عام 2016 أعدَّها باحثون مختصُّون، يعني أن هذا الرقم هو ممن اعترفن بممارسة المهنة، ولا يشمل أولئك اللاتي يمارسنها دون اعتراف بذلك.
في الدراسة تفاصيل كثيرة حول أسباب الانحدار إلى هذا العمل، مثل الضائقة المالية والتورُّط في ديون كبيرة للبنوك أو لشركات القروض الخاصة، أو الرَّغبةِ في الحصول على كثير من المال لشراء بيت كبير (فيللا) أو بسبب الانحدار إلى عالم السُّموم الذي يحتاج إلى مصاريفَ كبيرةٍ، أو ممن أرغمن على هذا العمل بعدما جُلبن من بلدانهن الأصلية، وقد وُعِدن بالعمل في خدمات فندقية ترفيهية وغيرها، لكنَّهن أُجْبرن على الدَّعارة.
وقَسمت الدراسةُ هذا العمل إلى تحت سقف في شقق وعمارات أو في الشوارع، وتحت مسمَّيات مختلفة مثل التَّدليك والمراكز الصحية، ويشمل البحث نسبة العازبات والمنفصلات والأرامل والمتحوِّلين جنسياً، كذلك الراغبات في التخلص من هذا العمل، وماذا يجب أن يتوفَّرَ لهن للتخلُّص من هذه المهنة القذرة.
المفاجئ، لي على الأقل، أن نسبةَ مَنْ خَدمن منهن خدمة كاملة في الجيش الإسرائيلي أو في خدمة أمنية أخرى، تبلغ 28٪ من عدد العاملات في البغاء، هذا يعني أن نسبة كبيرة منهن لم يُرغمن على هذا العمل، بل يمارسنه بإرادة منهن وبعد استقرار وإقامة دائمة في البلاد، ويعني أيضاً أن ما نراه من مُجنَّدات وشُرَطِيات وعاملات في المجالات الأمنية المختلفة ليس ضمانة لهن للعيش في كرامة إنسانية.
ليس مفاجئاً أن يحتلَّ مواليد شرق أوروبا نسبة 52٪ من مجمل العاملين في المهنة العتيقة، و43٪ من مواليد البلاد، والبقية من دول أخرى. تتقدم اللغة الروسية بصفتها لغة الأم للمومسات على غيرها من اللغات، تليها العبرية، ثم الإنكليزية، ثم العربية فالإسبانية، (العربية تشمل نساءً عربيات مَحلِّيات وعربيات مستوردات أصولهن من دول عربية أو أوروبية).
السلطات الإسرائيلية غضَّت الطرف عن هذا النشاط، والقانون لم يمنع ممارسة الجنس مقابل المال باتفاق الطرفين البالِغَين، لكنه يمنعُ دَفعَ أو إغراءَ شخصٍ للعمل فيه مقابل المال، وكانت الدعايات لبيوت البغاء منتشرةً مع عناوينها في الصحف الكبرى والمجلات، مع أرقام هواتف تحت عبارات جنسية وصور إباحية، خصوصاً بعد هجرة أكثر من مليون إنسان من شرق أوروبا والاتحاد السوفييتي إلى فلسطين، بعد تفكُّك المعسكر الشرقي في التسعينيات.
التطوُّرات السياسية اللاحقة في إسرائيل، مثل التحالفات مع الأحزاب الدينية، دفعَت بالحكومة إلى العمل على التخفيف من حدَّة هذه الظاهرة، أولاً من خلال منع الإعلانات المكشوفة، ثم صارت الشرطة تعلن بين حين وآخر عن اقتحام شقّةٍ أو عمارة استخدمت لهذا الغرض، واعتقال مشبوهين ومشبوهات بإغراء أو إرغام نساء للعمل في هذه المهنة.
في المحصلة هي تجارة رقيقٍ أبيضَ استمرت لسنوات طويلة تحت بَصَرِ وسَمْع السُّلطات، وما زالت مستمرة، لكن بصورة أكثر حذراً.
فقط في العام 2019 سنَّ الكنيست قانوناً رسمياً يمنع الدعارة، وقد دخل حيِّزَ التنفيذ في هذا العام المُحتضِر 2020 ويغرِّم القانون من يمارسها، ويقدّمه إلى المحاكمة، سواء الذي يقدم الخدمة أو الذي يستهلكها (الزبون) أو الذي يُغري بها ويؤجِّر مكاناً لهذا الهدف، ورغم ذلك، فما زال المجال واسعاً ومنتشراً تحت مسمَّيات مختلفة، من خلال التلميح.
مع إعلان التطبيع بين الإمارات وإسرائيل، بدا وكأن تُجار الجنس الإسرائيليين هَرعوا إلى دُبي كي يستثمروا في هذه التجارة، لكنَّ دُبي للأسف، ليست متخلّفة أبداً في هذا المجال، بل تتفوق على تل أبيب منذ سنين.
هنالك تقارير صحافية وأبحاث أوروبية تقدِّر عدد العاملات في هذا المجال بخمسين ألفاً، ونسبة لعدد سكان دبي، وهم مليونان ومئتان واثنان وستون ألفاً، منهم مئتان وأربعة عشر ألفاً مواطنون أصليون والبقية من الأجانب.
في مؤتمر عقدته جامعة «فلورنسا» الإيطالية بالتعاون مع عدة مؤسسات أوروبية من بينها فرع اليونسكو، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 عُرض فيلم وثائقي مُدَّتُه 50 دقيقة، حول الدعارة والجنس والاتجار بالبشر، وكيف تحولت دُبي إلى وُجهةٍ عالمية لتجّار البغاء.
ومن التحقيقات الصحافية التي أجراها عدد من الصحفيين الأوروبيين مِن قَبْلُ، والذين أقاموا في دُبيّ عدة سنوات، منهم الصحفي البريطاني وليم بِتلر، الذي أقام فيها أربع سنوات، نشر في الغارديان البريطانية أن «الرَّقيق في دُبي متعدِّدُ الجنسيات، ومعظمهن من مولدافيا ودول شرق أوروبا». إضافة إلى الآسيويات والإفريقيات.
إنه المصدر الأساسي نفسه للنساء الذي يصل في معظمه إلى إسرائيل من شرق أوروبا، ومن خلال هذا نستنتج أن التعاون والتطبيع في مجال الاتِّجار بالرَّقيقِ قائم قبل إعلان التطبيع السياسي بكثير، خصوصاً أن معظم الإسرائيليين من تجار الرَّقيق ورجال العصابات يحملون جنسيات وجوازات مُزدَوجَة، وبقدرتهم دخول أي دولة في العالم بجوازات وحتى أسماء مختلفة.
في فيلم عادل إمام «السَّفارة في العمارة» من تأليف يوسف معاطي وإخراج عمرو عرفة، فإن البغي المصرية التي تكتشف أن زبونها إسرائيلي من موظَّفي السَّفارة، يُجنُّ جنونُها وترفضُه وتطرده من فراشها، أما الدعارة في الأمارة، فهي تُشكل المجال وعامل الجذب الأوسع وجسر التعاون بين عصابات تجار الرقيق الأبيض بين تل أبيب ودُبي، دون أي رادع جدِّي من قبل السلطات، لا من هنا ولا من هناك.