شيء من الفن.. مسلسل حديث الصباح والمساء
الدكتور خضر محجز | فلسطين
المسلسل عرضه التلفزيون المصري في موسم رمضاني لعام 2001. لكنه لا يستطيع ان يصبح قديماً أبداً.
“تقول إيه في قلوب ما داقتش الحسرة، وبطون ما داقتش الجوع”
تلكم هي العبارة المكثفة الحكيمة، التي ألقاها السيناريست محسن زايد على لسان “فرجة” التي تؤدها دورها باقتدار حكيم الممثلة القديرة “سوسن بدر” في المسلسل المدهش “حديث الصباح والمساء” عندما رفضت عائلة من الأكابر، تزويج ابنتها صاحبة الصون والعفاف من “داود” ابن فرجة المنحدر من الطبقة المتوسطة، ويؤدي دوره باقتدار مدهش الفنان “خالد النبوي” الذي جاء من أوروبا طبيباً، بعد سنوات طويلة من اختطافه صغيراً على يد جنود الباشا محمد علي، ليعلموه في أوروبا، خلال رحلة محمد علي لتحديث مصر، وتصنيعها بيد جيل جديد من أبنائها، يصنعه محمد علي على عينه.
المسلسل كتب السيناريو الخاص به السناريست الكبير “محسن زايد” عن قصة نجيب محفوظ، وأخرجه المخرج القدير “أحمد صقر”، وأنتجه قطاع الإنتاج للتلفزيون المصري، قبل سبعة عشر عاماً، لم يستطع مرورها أن يمحو أثره من ذاكرتي، من يوم أن شاهدته أول مرة، في موسم رمضان عام 2001.
اليوم أستعيد مشاهدة المسلسل من جديد، فأرى فيه جديداً، كما لو كنت أراه أول مرة. وتلك هي سمة الأعمال الفنية الخالدة.
تمر السنوات بداود، بعد أن يتزوج من عائلة أخرى من الأكابر، ولكنه لا يرى نفسه هناك، بل يظل ممزقاً بين قلبه الذي بقي في الحسين، ومنزله الذي صار في السرايا الجديدة الممنوحة للباشا.
زوجته “سنية الوراق” لا تتوقف عن بذل جهدها لإسعاده. لكنها لا تعرف أن إسعاده لا يكون إلا بنزولها إليه، لا ببقائها معه في مستوى رتبة الباشا، التي نالها باستحقاق. الأمر الذي ينتهي به حتماً إلى فراقها وتطليقها، لأنها لم تستطع أن تقول له، ما كانت تقوله أمه لأبيه: يا سيدي.
صراع بين الأصول الراسخة، والتطلعات الجديدة
الممثلون في هذا المسلسل كلهم عمالقة، يتصارعون لنيل إعجاب المشاهد. أذكر عظماءهم على التوالي: خالد النبوي، سوسن بدر، توفيق عبد الحميد، أحمد خليل، عبلة كامل، سلوى خطاب، دلال عبد العزيز، ليلى علوي، أحمد ماهر، محمود الجندي، أحمد الفيشاوي، أحمد رزق، طارق لطفي، سامي العدل، إبراهيم يسري، علا غانم، ريهام عبد الغفور، أحمد صيام، فتوح أحمد، صبري عبد المنعم…
كل المسلسل مشاهد متميزة. لكن أعظم المشاهد التي رأيتها، إبداعاً في فن التقمص
1ـ المشهد الذي يشبه مشهد ألف ليلة وليلة، للفقير صانع الأحذية، عطا المراكيبي (أحمد خليل) وهو يناجي الأميرة هدى هانم (ليلى علوي) يعرض عليها قلبه. حقاً لقد كان أحمد خليل مبدعاً بحجم السيناريو، إن لم يكن قد أضاف إليه.
2ـ المشهد الذي يجمع الشقيقين ـ داود باشا (خالد النبوي) الطبيب من الطبقة العليا، والموظف عزيز المصري (توفيق عبد الحميد) من الطبقة الوسطى ـ في مرحلة النهاية في أدنى الشيخوخة، حيث يشكو الباشا لأخيه عقوق ابنه الذي غاضبه لطلاق أمه سنية الوراق (موناليزا) ـ بنت الحسب والنسب ـ وزواجه من الجارية السوداء التي تخاطبه بـ”يا سيدي”، حيث يتناجى الأخوان ويتعانقان ويتكلمان بكلام لا يمكن لممثلين سواهما أن يحسناه.
3ـ المشهد الذي يجمع بين الزوجة جليلة (عبلة كامل) وزوجها الأزهري الشيخ معاوية (محمود الجندي) بعد خروجه من السجن معذباً، بعد فشل ثورة عرابي، التي شارك فيها، مع شيخه عبد الله النديم (سعيد طرابيك). حيث نرى الكلام في عيون أربعة أبلغ من كل الشعر.
4ـ المشهد الذي يسجل عودة الصبي داود من رحلة المخطوفين، وقد صار طبيباً شاباً، تشعر بدخوله أمه فرجة (سوين بدر)، قبل وصوله البيت، فتهتف بزوجها يزيد المصري (أحمد ماهر) تدعوه إلى القيام لفتح الباب، قبل أن يطرق الباب أحد.
5ـ المشهد الذي يتقص فيه الأم فَرجة على ابنها داود باشا ـ خائفة من ردة فعله ـ كيف رفضت السيدة من طبقة الباشوات الأصيلة، تزويج ابنتها لداود الباشا الجديد، بسبب اشتراط فرجة على العروس أن تطيع أم زوجها. فيجيب الباشا الجديد أمه بأنها أحسنت، وأن ذلك كان ضرورياً.
6ـ المشهد الذي يعرض لعودة سرور المصري (أحمد صيام) إلى بيته في حالة سكر تام، حيث يعرض ببراعة لصورة السكران وما يلقاه من زوجة صابرة هي زينب (سمية الإمام).
يستعرض المسلسل حياة المحروسة طوال عدة أجيال، تبدأ من عهد محمد علي، مروراً بثورة عرابي، ثم الاحتلال الإنجليزي الذي جاء به توفيق والعثمانيون، وانتهاء بثورة 1919.
المسلسل كتبه محسن زايد بعبقرية لا تقل عن عبقرية كاتب الرواية نجيب محفوظ. بل يمكن القول إن السيناريو المشاهد هو إبداع مواز لإبداع عميد الرواية العربية.
إياكم أن تفوتوا مشاهدة مصر المحروسة حية طوال أجيال في “حديث الصباح والمساء”