الديموقراطية واللاديموقراطية

توفيق شومان | مفكِّر وخبير سياسي لبناني 

ينتقد اللاديمقراطيون، الديموقراطية السياسية، ويتتبعون عيوبها ويترصدون نواقصها.
بالأصل، ومنذ مرحلة الديموقراطية في مدينة اثينا قبل الميلاد، وحتى القرن الواحد والعشرين الميلادي، لم يحدث أن أحدا من الديموقراطيين استثنى الديموقراطية من العيوب، أو اعتبرها نظرية كاملة الأوصاف ومكتملة الصفات.
في المقابل، يغدق اللاديموقراطيون على نظرياتهم ما تيسر لهم من محاسن ولطائف وبدائع، فيوغلون في إطنابها، ويكيلون لها مدحا وحمدا، ويهيمون في تبجيلها وتمجيدها، مما يعني بحسب اللاديموقراطيين أن اللاديموقراطية مطلقة الكمال وكلية الاكتمال.
وحيال هذه المقارنة التمهيدية بين ديموقراطيين يقرون بنواقص الديموقراطية وبين لاديموقراطيين لا يرون في نظرياتهم عيبا ولا نقيصة: يتقدم إلى واجهة المقارنة سؤال: من العقل الأكثر نضوجا ورجاحة: العقل الذي يعترف بعيوبه أم العقل الذي ينسب إلى حاله الكمال والإكتمال؟
تفتح الديموقراطية باب الفرص أمام متنافسين من اتجاهات نخبوية عدة لتقلد مقاليد السلطة وتوابعها ، ومع انفتاح هذا الباب، تتوسع دائرة المنافسة، فيما اللاديموقراطية تغلق الباب وتسده، وتحصر سلطات الحكم بقبضة اتجاه واحد يُسقط على نفسه صفة النخبة أو الصفوة أوالأخيار أو الطليعة .
السؤال الثاني المتأتي من مقارنة ثانية: أيها أكثراحتراما للناس والمجتمعات: الديموقراطية التي تشهد على التعددية النخبوية لدى الجماعات المتعددة، أو اللا ديموقراطية التي تنكر على الآخرين إنتاج نخبهم وتزعم احتكارها للصفوة والعقول الراجحة؟
غالبا ما يقول اللاديموقراطيون إن مهمات الحُكم والسلطة تقع على عاتق النخبة، وهذا قول متفق عليه ولا جدال حوله، ولكن من يحدد النخبة؟ وما مواصفاتها؟ وماذا لو تنازعت الجماعات والاتجاهات على التحديد والتوصيف ؟ لمن تكون كلمة الفصل حينذاك؟ للسيف والدم أم للإنتخاب و لصناديق الإقتراع؟
هذا السؤال له إجاباتان لدى اللاديموقراطيين، الأول هو السكوت والصمت ، والثاني هو السيف والدم .
وبما أن السكوت والصمت يعنيان اللاشيء وحيث لا يمكن نقاشه أو التعليق عليه ، يبقى هذا السؤال : أيهم أكثر إنسانية : الديموقراطيون الذين يقولون إن الحسم عبر صناديق الإنتخاب ، أم اللاديموقراطيون الذين يشهرون سيوفهم ويقولون إن الحسم عبر الدم ؟ الديموقراطيون الذين يقولون بالمنافسة ام اللاديموقراطيون الذين يقولون بالصراع ؟.
وحول النخبة أيضا ، يقول اللاديموقراطيون إنهم لايقصدون بنظريتهم السياسية التفرد بالحُكم والإستبداد ، بل ثمة دور للنخبة من خلال الأخذ برأيها والتشاور معها أو الإستماع إلى توصياتها ، والسؤال هنا : من هي تلك النخبة التي يؤخذ برأيها ؟ أهي ” النخبة السياسية ” التي تنتجها الشمولية فتكون من نوعها وتحت طاعتها؟ أو “النخبة العشائرية أوالقبلية أو الجهوية ” التي تستمد حضورها من الغلبة والوراثة ولا يكون لمن تحتها رأي ولا قول ؟ أو ” النخبة المالية والتجارية ” التي تنمو في ظل ورعاية نظام لاديموقراطي فتكون وجهه المالي والطبقي ؟.
أهذه هي النخبة أم هذه مرايا اللاديموقراطية ؟ .
في الديموقراطية تتكون النخبة ذاتيا ، وفي اللاديموقراطية تتكون ” النخبة ” عن طريق الإنتاج والإصطناع ، وإذ يتتالى تجديد النخبة في الديموقراطية تكيفا وتأقلما مع دورة الحياة والأعمار والسنن البشرية ، فإن اللاديموقراطية تجحد ذلك ، وترفض التأقلم مع سنن الحياة والبشر ، وتتمسك بقديمها وماضيها ، وتحول دون التجديد والتطوير والتغيير .
وعلى ذلك يطل هذا السؤال : من الأكثر تصالحا مع السنن البشرية : الديموقراطية التي تجدد نخبها وحياتها أم اللاديموقراطية التي تتجمد على حالها فتتوقف معها دورة الحياة ؟.
اللاديموقراطيون يقولون إنه من أجل الحفاظ على الأمن والإستقرار ، من الضروري أن يسود الرأي الواحد ، ويقول الديموقراطيون إن تسييد الرأي الواحد هو التعسف بذاته ، والتعسف لا يصنع الإستقرار بل يستجلب الرعب ، وللرعب حدود في الزمن ، وما بعد الرعب سوى الإنفجار ولو بعد حين ، ودلائل التاريخ والراهن أكثر من أن تُحصى ، فالرأي الواحد يخالف الإجتماع البشري ، فلا اجتماع على رأي واحد ، علاوة على ذلك ، فإن تسييد الرأي الواحد يؤدي إلى إقصاء الآراء الأخرى وقهرها ، وهذا كله يطرح السؤال التالي : من يعطي لهذا ” الرأي الواحد ” أحقية التسيد والشرعية ؟.
وإلى السؤال السابق ، ثمة سؤال آخر : إذا كانت البشرية قائمة على تعدد العقول والألوان والأعراق والقوميات والثقافات واللغات ، أيها يكون أكثر انسجاما وتناغما مع الحياة والخلق والفطرة : الديموقراطية التي تدير التعددية أم اللاديموقراطية التي تنادي بالآحادية ؟.
في التاريخ عموما ، تكونت السلطة السياسية والمالية عن طريق العنف والقوة ، فأي جماعة مسلحة يفوق عددها ويتفوق سلاحها على جماعة أخرى ، كانت تستلبها وتتحكم بها ، وجراء ذلك نشأت طبقة العبيد والأرقاء ، بين الأسر الكبيرة والصغيرة أولا ، ثم بين تحالف الأسرالمسمى عشائر ثانيا ، ثم بين تحالف العشائر المسمى قبائل ثالثا ، واستمر هذا الأمر إلى ما بعد نشوء الدولة بمفهومها القديم ، فطبقات العبيد والأرقاء والأجراء الذين ما كانوا يملكون إلا ما تجنيه أياديهم من غذاء يحصلونه من زراعة أراضي وحقول الأسياد والإقطاعيين وقادة الجيوش ، كانوا يشكلون الكثرة الغالبة من سكان الأرض ، ولا رأي لهم ولا حول ، وأما الأسياد والإقطاعيون والقادة العسكريون ، فقد مثلوا تلك ” النخبة والصفوة ” التي كان ” يأخذ برأيها ” صاحب الصولة والدولة ، فهل تلك ” النخبة ” هي المطلوبة في عالم اليوم ؟.
بعد نشوء الدولة بمفهومها الحديث ، أي بمعنى المساحة الجغرافية المحددة والجماعة البشرية المعينة وسلطات الحكم المعلومة ، برزت ظاهرة الإنقلابات العسكرية حول العالم ، وبما أن هذه الظاهرة انتهجت القوة سبيلا إلى السلطة ، فقد ركنت إلى عامل القوة ذاته للإحتفاظ بالسلطة ، وهذا ما جعل عامل القوة ميزان تعاملها مع خصومها وميزان تعامل خصومها معها ، فغلب الإضطراب على تلك الدول إلى أن استقامت بالمشاركة.
هذا الإستدعاء لكيفة تشكل ” النخبة ” عن طريق القوة يطرح على بساط الجدال إشكاليتين في غاية الأهمية والخطورة :
ـ الأولى : أية إنسانية تبرر استعباد الناس وتجعلهم رقيقا وعبيدا ، وتجعل في الوقت نفسه أصحاب القوة والسيف ” نخبة محمودة ” أو على ما قال العرب الأقدمون ” أهل الربط والحل “؟.
ـ الثانية : أي استقرار يمكن أن تجلبه ” نخبة مسلحة ” وصلت بالقوة إلى السلطة ، فراح مناوؤها يبادلونها القوة وتبادلهم بالمثل ؟.
يُكثر اللاديموقراطيون الحديث عن ” قلة وعي الشعب ” وتدني فهمه ، وذلك يفقده أهلية الممارسة الديموقراطية التي تتطلب ” وعيا عاليا وفهما رفيعا ” ، وبما أن الوعي غائب عن الشعب ، ويستحيل عليه معرفة الصالحات من الطالحات ، فيجب جره إلى الطاعة جرا !!.
في هذه الأحكام المبرمة ، تظهر الخلاصات التالية :
ـ نظرية الإستعلاء على الآخرين واحتكار المعرفة .
ـ احتقار الناس واتهامهم بالغباء .
ـ الإستئثار بدور ” النخبة ” لتبرير الإسئتثار بالسلطة .
ـ إغلاق باب ” النخبة ” بوجه كل مخالف ومعارض ومجادل .
وأمام تلك الأحكام المبرمة إياها : من يكون الأكثر حرصا على شؤون الناس : الديموقراطيون الذين يحترمون عقول الناس أم اللاديموقراطيون الذين يحتقرون عقول الناس ؟.
جملة أخيرة وسؤال أخير :
من المتصالح مع الإنسانية ؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى