نهارات بلا تجاعيد لعبد الرزاق الربيعي: موت المعشوقة يعيد الانبعاث
ناجح المعموري | رئيس الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقي
عرف الأدب العراقي القديم في الحضارة السومرية تعدّدات العناصر المكونة للأدب القديم ومن أهمها الشعر الأكثر حضوراً وتمركزاً في الحياة العامة الدينية والثقافية.
وكان للطقوس حضور مهيمن للغاية ، لذا برز ضمن هذه الفعاليات البدئية الشعر وخصوصاً ما له علاقة بالزواج الإلهي المقدس . وتحول هذا الطقس حاضراً وفاعلاً وتزاوله الممالك السومرية ، في الربيع والصيف . وكانت الإلهة أنانا / عشتار هي الإلهة العروس ، والإله دموزي / تموز هو العريس. وينوب الملك عن الإله الشاب ، والكاهنة عن أنانا في الشعر المكتوب عن طقس / عيد الجنس المقدس وهذا تمجيد كبير للجسد ، ساهم بإنتاج نوع من الشعر اللذي ، أو نصوص تمجيد الجسد . وتميزت النصوص الأكدية من القرن الرابع عشر ق . م بعنوان نشيد لدموزي وأنانا . ومن هذه النصوص هذا المقطع للدلالة : أيها الرجل الشاب المحب .
تعال أيها الراعي ، يا عاشق عشتار
سوف اغني للراعي المقدام ، سأبتسم للراعي اللامع .
الآن . خذني الى المنزل أيها الراعي
كيف سأبتسم للرجل المفعم بالحيوية
عندما تعرف عيني اليمنى
سوف اتيح لك البقاء هذه الليلة ، أيها الشاب
الليلة … هذا المساء
حبك جوهري ، ابتسامتك ذهب
تعال جذلاً ، أيها الملك .
الإشارة لشعر طقس الجنس المقدس، يقتضي المرور سريعاً لنصوص الندب والمرائي التي تناولت المدن وهي الاكثر حضوراً والملوك والأصدقاء والزوجات وما تضمنه ديوان الشاعر عبد الرزاق الربيعي ” نهارات بلا تجاعيد ” تضمن عديداً من النصوص الشعرية المتنوعة التي تتمركز حول العلاقة الثنائية بين الذكر والمؤنث وما تبثه خزانات العشاق وما تحكيه مستعاداً خزانات الذاكرة . وأكثر ما أثارني وأنا اقرأ ديوان صديقي الشاعر المعروف عبد الرزاق الربيعي ” نهارات بلا تجاعيد ” هي نصوص الاستذكار والاستعادة من سرديات الذاكرة التي حافظت على مرويات كثيرة . وانا معجب جداً بقدرات الربيعي الفنية التي استحضرت محكيات الماضي ، الما قبل الغياب وتعامل معها بوصفها تمجيداً لتاريخ طويل ، نهضت فيه شعرية عالية . ونهضت مرويات كثيرة . كان الشاعر الربيعي وظل وحده الخازن والحافظ والمردد لها ، وكأنه عبر ذلك لا يؤشر نسيان الما قبل . بل يستحضره ويستعيده وكأنه يعيشه بكل لحظاته . هذا ما توحي به المرائي والبكائيات . ولأن هذا الطقس الثقافي والديني كان وظل وسيستمر ، ذهب إليه عبد الرزاق الربيعي ، من أجل أن يعطي عشتار وقوة ويضفي عليها طقسيات الماضي الخالدة التي منحتها بقاء أبدياً .
ملايين الأعين / بكت عليها / جنباً الى جنب / مع الأرواح الرهيفة المحتشدة / في ساحات الحداد / وسرادق العزاءات / عدد لا يحصى من الصلوات / على روحها البيضاء / في عرضها الاخير / ص43.
عشتارته الغائبة في فضاء طقسها العشقية استحضرها الشاعر محمولة بأجنحة الملائكة / رفرفت على طريق معراجها / الى السماء . اضفى عليها خصائص مقدسة ، تشبه بالآلهة المذكرة ، لهم مكان سماوي وارضي . والإلهة عشتار سماوية وأرضية ، متماثلة مع الأمّ الكبرى / الأرض الرمزية الأمومية ، لم يتركها بيضاء الجسد / بل أخذها نحو طريق المقدس ، الخاص بالأنبياء من خلال معراجهم وهم يصعدون السماء .
منحها مقدسات ، لم يحز عليها إلا الرموز ، ويبدو بأن فاطمة أحد أهم رموز الدنيا . الفضاء الذي عاشها وشاخ فيه الشاعر عبد الرزاق الربيعي ، هو يرى آلهته تتحضر للغياب لحظة ، بلحظة ، متماثلة مع لإلهة المقدسة التي تعطلت طقوسها الدينية في ممارسة الجنس المقدس ، ولن يكون لها حضور في شارع المركب في احتفالات الاكيتو وحطت وجلة / فوق الشارع الذي حمل اسمها / والساحة التي سيقف بها / شامخاً / تمثالها ساحراً / الاف القلوب شيعت / جراحها / العشوائية / الى مثوى الجمال / مئات معارض الاناقة / علقت صورها / على زجاج واجهاتها التي ابيضت من الحزن / عشرات الفضائيات / وضعت / على بسمتها اشرطة عويل / ص45//
غابت الإلهة المجروحة ، وهذا النص البياض قدم لنا مروية عن المعشوقة المجروحة ، كل المملكات يواجهن الموت / والغياب ، لكنهن متوجات بالبياض . الهة الشاعر غابت ، حاملة جروحها أمام عينيه وهو يرى الاجل يدنو منها ، لا بل فيه هي التي غابت وهو الباقي حاضراً ، لكنه لا يقوى على الكرب ، لأنه غائب . فالكينونة ثنائية منها ومنه ، ومن المعشوقة والعاشق . لذا لم ينسها ابدا امسك بها ولا وسيلة لديه غير الندب والمراثي التي يحكيها الشعر . والزوجة الغائبة التي حضر لحظة الغياب ، حاملة معها رفرفات الملائكة البيضاء ، ورائحة دم الجروح التي رآها وعرفها جيداً لذا . لم تبصر عيناه بباحته إلا بي / ليس هناك سواي / قلت لقلبي / اخلع نعليك ” يا قلبي (ادخل ) فدخلت / وجدت المسجد / مكتظاً بالحشد / وما من يتعبد / فيه عداي / تجاوزت الاعمدة / المصطفة كالجند / شققت طريق كالمحراب ، صعدت / وكبرت / بكل ضجيج الارض / المخزون بحنجرتي / ص23.
مرثية خاصة بالمعشوقة الغائبة ، التي زاولت تمثيل دور الملائكة التي لاحقتها بآلاف الاجنحة وهي تعلن حقيقة اسطورتها التي عرجت معها نحو السماء وزاولت دور انانا / عشتار . هي المرأة التي غابت حاملة جروحها تنفرد بكل ما يميزها عن غيرها . لكن بكائية الشاعر ومرثياته ذات الأصول السومرية البدئية ، هي التي انفردت بما يميز الفضاء والذي لم يكن فيه غير الشاعر فقط .
” ليس هناك سواي / قلت لقلبي ” اخلع نعليك ” يا قلبي / هنا تتضح قدسية بدئية مع رجل اجتاز سيناء ولم يجتز محكية الحب الذي لم يعرفه من قبل بقداسة تضفي صفتها على المكان عبر الحزن او الفرح ، لان الراوي وجد المكان مزدحماً بالملائكة المرافقة للجثمان الملون بالجروح ، وهو يغادر . لكنه انتبه أخيراً بأنه الباقي وحيداً ، هو المتعبد وليس احد غيره بمعنى هو الذي ادركت خسارته ، لان الغياب هو الذي التقط افراحه وجعله وحيداً .
سار الجمع الذاهل خلف
ضياء هداي
وتفرَّق لمي .
في طرقات الوحشة……
ساعتها ….
لم اسمع / غير نحيب خطاي / س444//
أهم ما يضيء هذا النص الندّبي هو محكياته التي تعاود حضورها لحظة بعد لحظة . فالعويل لديه اصوات / ايقاعات ، لكنه بالمحكي يتحول اشرطة وحتماً ملونة ، لكنها بالنهاية تحوز سوادها . اثنا عشر طبيباً / هرعوا لمنصات / الطبيب العدلي / ليشرحوا أعضاء الزهرة / بحثاً عن عشبة ” عشتار ” التي فقدتها في طريقها / من أحضان أرز / لغابة كلكامش.
لان الغائبة عشتارية لأكثر من سبب ، أولها قال الربيعي لها بدئيات لها صلة مع جلجامش وثانيهما إن المعشوقة اضفت صفة اسبق ، ذات قدسية ، منحتها سببية الخراب والصراع وانتصار الجدل بين انكيدو وجلجامش . بغائبة بجروحها وأمامها اثنا عشر طبيباً / هرعوا لمنصات / الطب العدلي / ليشرحوا أغصان الزهرة / بحثاً عن عشبة عشتار التي فقدتها في طريقها / من أحضان الارز / لغابة جلجامش .
التزامن واضح وتداخل الامكنة او الجغرافيات ، لكن التباعد لا يلغي التشارك والتزامن . لا تعطيل ما بين الاثنين فأن الغائبة ابنة الفردوس والحاضر في غائبة الأرز ، والعناصر النواحية بين الاثنين لم تلمع الوحدة العميقة بين الغائبة والحاضرة عبر السردية النمطية والمنقولة واقعياً للحدث اللحظي ، الذي أفضى بها الى الغياب وهذا الخرق النمطي الذي خلخل النص يعني عدم قدرة الشاعر مقاومة ما حصل امام عينيه . لكن الانتباه قاده الى غابة الأرز والعشبة المسروقة ما هي الا غياب الجسد ، ولحظة الغياب تعطل الرمزيات المشتركة بين الاثنين اللذين خسرا الاغنية البدائية . وظل الصمت قاسياً لا يحفز احد منهما وهنا مكمن التراجيديا :
نائيان يسكنان
مثلما اعتادا
بلا مكان / ص112