فائدة المعرفة عديمة الفائدة!

د. أسامة محمد إبراهيم | أستاذ علم النفس التربوي – جامعة سوهاج – مصر

 

من الطبيعي أن توجه الدول تمويل البحث العلمي إلى الأبحاث الأكثر حاجة وإلحاحًا للمجتمع وذات الفوائد التطبيقية أو العملية، بهدف إنشاء معرفة أو منتجات ذات قيمة تطبيقية للتحديات القائمة.

لكن كتابا صدر عام 2017 لمدير معهد الدراسات المتقدمة في برنستون يقدم رؤية مختلفة تماماً، فهو يدعو العلماء والباحثين إلى الإبحار عكس التيار، تيار الاعتبارات التطبيقية، وإطلاق العنان للفضول العلمي والبحث في العلوم في كل ما يريدون بدون أي عوائق، بعيدا عن قيود المحددات التطبيقية الآنية. الكتاب دعوة إلى التحرر من القيود النفعية للبحث وتحرير الروح البحثية للعلماء من أجل مزيد من الإبداع والابتكار.

يناقش الكتاب فكرة أن الأبحاث الأساسية – المدفوعة بالفضول والحرية والخيال – هي بذرة ضرورية للتكنولوجيات الثورية التي ستغذي الاقتصاد، وتحول المجتمع، وتوفر حلولًا لمشكلات العالم. إنها دعوة للتفكير طويل الأجل في وقت مكتظ بالملهيات قصيرة الأجل.

يتكون هذا الكتاب من مقالين أساسيين: الأول كتبه إبرهام فلكسنر عام 1939، المدير المؤسس لمعهد الدراسات المتقدمة في برينستون، الرجل الذي ساعد في إحضار ألبرت أينشتاين إلى الولايات المتحدة، والذي كان لذلك مفارقة كبيرة في البحث العلمي. في مقالة “فائدة المعرفة عديمة الفائدة”، يصف أبراهام فليكسنر، إن البحث عن إجابات لأسئلة عميقة، مدفوعة فقط بالفضول وبدون الاهتمام بالتطبيقات، غالبًا ما يؤدي ليس فقط إلى أعظم الاكتشافات العلمية، ولكن أيضًا إلى الإنجازات التكنولوجية الأكثر ثورية في تاريخ العلم، مثل ميكانيكا الكم، والرقائق الالكترونية. لقد كانت فكرته أن هذه المعرفة “عديمة الفائدة”، سوف تأتي بالفائدة في المستقبل. لذا كان يرى أنه لا يجب أن نحصر أنفسنا في المواضيع التي لها تطبيقات آنية.

المقال الثاني كتبه روبرت ديجكراف عام 2017 تعليقا على المقال الأول، وهو المدير الحالي لمعهد الدراسات المتقدمة في برينستون، يتحدث فيه عن قيمة “السعي دون عائق لمعرفة غير مجدية” وهو يرى أن هذا قد يكون أكثر أهمية اليوم مما كان عليه في أوائل القرن العشرين. يصف ديجكراف كيف أدى البحث الأساسي إلى تحولات كبيرة في القرن الماضي، ويشرح السبب في أنه شرط أساسي للابتكار والخطوة الأولى في التغيير الاجتماعي والثقافي. وهو يوضح أن المجتمع يمكن أن يحقق تفهماً أعمق وتقدمًا عمليًا اليوم وغدًا فقط من خلال التقييم الحقيقي والتمويل الكبير “للسعي وراء معرفة عديمة الفائدة” في العلوم والإنسانيات على حد سواء.

يوضح مديرا معهد برينستون للدراسات المتقدمة -المؤسس والحالي – كيف أدى السعي وراء المعرفة إلى تغيير الإنسانية، وكيف أن التقدم البشري الذي نعيشه اليوم قد اعتمد – بشكل غير متوقع تمامًا – على منح بحثية غير مشروطة قُدمت لأفراد موهوبين وفضوليين شغوفين بالعلم والمعرفة. قد يمر وقت طويل بين الاكتشافات العلمية وبين التطبيقات العملية، ولن يكون الطريق متوقعًا، ولكن المفارقة أنه من المرجح أن يعتمد مستقبل البشرية على دعم المجتمع المتزايد للأبحاث الأساسية، التي قد تبدو غير تطبيقية أو غير مفيدة.

كان إبراهام فلكسنر كان مهتما بالتعليم الطبي ثم صار مهتما بشئون التعليم العالي في الجامعات، في يوم من الأيام أتى إليه شخص مع أخته، قالا نحن لدينا تجارة كبيرة، واستفدنا كثيرا نت هذا البلد، ونريد أن نكافئ هذه الولاية نيوجيرسي بعمل مفيد، واقترحا أن يتبرعا بمال لإنشاء مؤسسة لتعليم طب الأسنان؟ إلا أن فلكسنر اقترح عليهم فكرة إنشاء مؤسسة من نوع جديد، مؤسسة لإنتاج المعرفة في مجالات عديمة التطبيق. قال: أريد أن آتي بعلماء يبحثون فيما يشاؤون بدون اعتبار للتطبيقات، بل عليهم أن يفكروا في إنتاج معرفة لا تعرف لها تطبيقات أنية!

قال إبراهام لقد وجدت مثل هذه الفكرة مطبقة في دول أوروبية عديدة مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وأنا أريد أن أنقل هذا إلى أمريكا. لذا سآتي بعلماء من أمثال أينشتاين وأمنحهم تمويلا للبحث فيما يريدون وكيفما يريدون، وبدون أية شروط. وبالفعل أسس إبراهام هذه المؤسسة وتعاقد مع العديد من العلماء وأعطى لهم رواتب دون أي التزامات أو روتين أو قيود. قبل العديد من العلماء العظماء في القرن العشرين العمل في هذا المعهد، وكان من بين هؤلاء العلماء اينشتاين الذي جاء إلى هذا المكان وظل به إلى أن مات. قال أينشتاين كانت هذه الأوقات من أفضل الأوقات بالنسبة له والأكثر إنتاجية. على الإطلاق

كان لهذا العمل وهذه الرؤية من فلكسنر الفضل في نقل مركز الثقل للمعرفة العلمية من أوروبا إلى أمريكا، حيث أتي بالعلماء الكبار وسمح لهم القيام بهذه بأبحاثهم والتي كانت من بينها نظرية الكم. وعندما توفى فلكسنر كتبت النيويورك تايمز تأبينا له قالت فيه: “لم يساهم أمريكي في عصره أكثر مما أسهم فلكسنر في إثراء  بلده والبشرية جمعاء.”

يكشف الكتاب عن تأثير رؤية فلكسنر على القرن العشرين ويعيد تقييمه في ضوء القرن الحادي والعشرين.”

إنه كتاب قصير لكنه استفزازي يحمل دعوة قوية للاستثمار في المعرفة “عديم الفائدة” والتي تؤدي في كثير من الأحيان إلى أعظم الإنجازات التكنولوجية للبشرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى