في تفنيد الأساطير الأموية (1)
الدكتور خضر محجز | مفكّر فلسطيني
إضاءة:
كنت قد وعدت رواد صفحتي بكتابة بحث عن الحسين بن علي ــ عليهما السلام ــ وهذه السطور منتقاة من الصفحات الأولى للبحث. فلعمري، إنه لا يمكن الحديث عن جمال الحسين دون التطرق إلى قبح بني أمية. وقد أفرج مسلم عن الحديث الآتي في صحيحه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق.
ووالله الذي لا إله إلا هو لا يجتمع حب علي وحب معاوية في قلب واحد ما طلع الليل والنهار.
الأسطورة الأولى: في كون معاوية خال المؤمنين:
يحب كثير من أحباب معاوية أن يمنحوه لقب خال المؤمنين، لأن أخته أم حبيبة ــ وأم المؤمنين ــ هي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم (البداية والنهاية. ج4. ص143.).
وإن هذا الوصف، لو صح، لما كان أبو سفيان لنا جداً فحسب، بل لكان كذلك حيي بن أخطب اليهودي، والد أم المؤمنين صفية رضي الله عنها. بل إن أحداً من هؤلاء لم يطلق لقب “جد المؤمنين” على كل من الصديق أبي بكر والفاروق عمر، والدي عائشة وحفصة رضي الله عنهم جميعاً؛ كما لم يطلق أحد لقب “خال المؤمنين” على عبد الله بن عمر رضي الله عنه، ولا على محمد بن أبي بكر. فسبحان من رزق كتاب السلطة عمى البصر والبصيرة!.
الأسطورة الثانية: كتابة معاوية الوحي وإسلامه قبل الفتح:
لقد درج الكثيرون على الاعتقاد بأن معاوية كتب الوحي لرسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ حتى لم يعد مشهوراً بين العامة في كتابة الوحي أحد مثله: فنسي الناس كبار الكاتبين، من أمثال علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبي كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود ــ رضي الله عنهم ــ ثم ذكروا معاوية!.
والحق إن هذه لإشاعة كادت أن تغلب الحقيقة!. فمتى كتب معاوية الوحي؟ أحين كان كافراً طوال نزوله، أم بعد أن أسلم يوم الفتح، فمكث في مكة وعاد الذي يتنزل عليه الوحي ــ صلى الله عليه وسلم ــ إلى المدينة!. فمعاوية لم يهاجر، كما لم يهاجر أحد من الناس بعد فتح مكة، لأن رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ قد نهى الناس عن الهجرة بعد الفتح(جامع الأصول. حديث رقم1040).
بل إن بعضهم ليخترع حديثاً يقول إن معاوية أسلم عام الحديبية وكتم إسلامه!. قال ابن سعد، في طبقاته: “أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سَبْرة، عن عمر بن عبد الله العنسي، قال: قال معاوية بن أبي سفيان: لما كان عام الحديبية، وصدت قريش رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ عن البيت، ودافعوه بالراح، وكتبوا بينهم القضية، وقع الإسلام في قلبي. فذكرت ذلك لأمي هند بنت عتبة، فقالت: إياك أن تخالف أباك، أو أن تقطع أمراً دونه، فيقطع عنك القوت. فكان أبي يومئذ غائباً في سوق حُباشة. قال: فأسلمت وأخفيت إسلامي. فوالله لقد رحل رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ من الحديبية وإني مصدق به، وأنا على ذلك أكتمه من أبي سفيان. ودخل رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ مكة، عام عمرة القضية، وأنا مسلم مصدق به. وعلم أبو سفيان بإسلامي، فقال لي يوماً: لكن أخوك خير منك، فهو على ديني. قلت: لم آلُ نفسي خيراً. قال: فدخل رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ مكة، عام الفتح، فأظهرت إسلامي، ولقيته، فرحب بي، وكتبت له”(الطبقات الكبير. ج6. ص16).
والآن دعونا نناقش هذا النص سنداً ومتناً:
أولاً: مناقشة السند:
في هذا الحديث أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، قالوا فيه: “كان يضع الحديث ويكذب”(الجامع للحديث النبوي).
يرويه عنه محمد بن عمر، وهو الواقدي الذي ضعفوه، فقالوا فيه: “محمد بن عمر بن واقد الأسلمي مولاهم، الواقدي المديني القاضي، صاحب التصانيف والمغازي، العلامة الإمام أبو عبد الله، أحد أوعية العلم، على ضعفه المتفق عليه. ولد بعد العشرين ومائة. وطلب العلم عام بضعة وأربعين، وسمع من صغار التابعين، فمن بعدهم بالحجاز والشام وغير ذلك. وجمع فأوعى، وخَلَطَ الغَثَّ بالسَّمين، والخرز بالدر الثمين. فاطَّرحوه لذلك”(ملتقى أهل الحديث).
ثانياً: مناقشة المتن:
فلنفترض أن معاوية كان يكتم إسلامه، عن أبيه ــ كما تقول هذه الرواية الموضوعة ــ فهل كان يكتمه كذلك عن رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ إلى درجة أن يعتبره من الذين يحسن به أن يتألف قلوبهم “ليسلموا”(السيرة النبوية. ج4. ص96).
فيعطيه مائة من الإبل؟. قال الطبري في توزيع غنائم حنين: “حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر قال: أعطى رسول الله المؤلفة قلوبهم، وكانوا أشرافا من أشراف الناس، يتألفهم ويتألف به قلوبهم، فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير، وأعطى ابنه معاوية مائة بعير”(تاريخ الأمم والملوك. ج2. ص175).
وكذلك أورد هذا النص بلفظه ابن هشام عن ابن إسحق(ج4. ص92).
من هنا فلا يمكن أن يكون معاوية قد أسلم قبل فتح مكة أبداً، ولا يمكن أن تكون هند قد أمرته أن يكتم إسلامه عن أبي سفيان؛ لأن هذا معناه أنها تعاطفت معه. فكيف، وهي التي ظلت معاندة للإسلام، إلى أن دخلت عليها جيوشه من أقطارها!. بل إنها لم تغفر لزوجها إسلامه المتردد هذا، حين أخذت تغري به أهل مكة أن يقتلوه، وقد أخذت بشاربه وهي تصيح بهم: “اقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قُبّح من طليعة قوم”(السيرة النبوية. ج4. ص28).
ثم إن هذا النقل عن معاوية ــ إن صح ــ لما كان فيه إلا شهادة معاوية لنفسه، بالإسلام قبل الفتح. وهيهات أن نصدق هذه الشهادة!. ولئن استبعد البعض أن يكذب صحابي على رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فلقد لا يستبعدون أن يكذب فيما دون ذلك. وهذا مما هو دون ذلك: فمعاوية هنا لا ينقل حديثاً نبوياً، بل يخترع لنفسه ما يرفع به خسيستها.
وخلاصة الأمر أن هذا حديث موضوع، مردود رواية ودراية. خصوصاً وقد قال ابن القيم: “لا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان(زاد المعاد. ج1. ص27).
وأما أن معاوية قد كتب الوحي، فقد أسست لهذا الادعاء رواياتٌ، أشهرها رواية مسلم عما قيل إنه رواية ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ التي قولوه فيها: “كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! ثلاث أعطنيهن. قال: نعم. قال: عندي أحسن العرب وأجمله، أم حبيبة بنت أبي سفيان، أزوجكها. قال: نعم. قال: ومعاوية، تجعله كاتبا بين يديك. قال: نعم. قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار، كما كنت أقاتل المسلمين. قال: نعم”(صحيح مسلم. حديث رقم2501).
لكن هذا الحديث ــ هو الآخر ــ كذب بحت، ومن سقطات مسلم. وقد بين ذلك كبار المحدثين. قال ابن القيم في زاد المعاد: “فهذا الحديث غلط لا خفاء به، قال أبو محمد بن حزم: وهو موضوع بلا شك، كَذَبَهُ عكرمة بن عمار، وقال ابن الجوزي في هذا الحديث: هو وهمٌ من بعض الرواة، لا شك فيه ولا تردد، وقد اتهموا به عكرمة بن عمار، لأن أهل التاريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت تحت عبيد الله بن جحش، وولدت له، وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة، ثم تنصَّر، وثبتت أم حبيبة على إسلامها، فبعث رسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ إلى النجاشي يخطبها عليه، فزوجه إيَاها، وأصدقها عنه صداقاً، وذلك في سنة سبع من الهجرة، وجاء أبو سفيان في زمن الهُدنة فدخل عليها، فثنت فِراش رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ حتى لا يجلسَ عليه. ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان. وأيضاً ففي هذا الحديث أنه قال له: وتؤمِّرني حتى أقاتل الكفار، كما كنت أقاتل المسلمين. قال: نعم. ولا يُعرف أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ أَمَّرَ أبا سفيان البتة”(زاد المعاد. ج1. ص27).
ولعمري لقد ساهم ابن كثير في إشاعة هذه الكذبة الكبرى، حين روى النص السابق بالصيغة التالية: “روى الإمام أحمد ومسلم والحاكم في مستدركه، من طريق أبى عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن أبى حمزة عمران بن أبى عطاء، عن ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ قد جاء. فقلت: ما جاء إلا إليّ. فاختبأت على باب. فجاءني فخطاني خطاة أو خطاتين، ثم قال: اذهب فادع لي معاوية ــ وكان يكتب الوحي ــ قال: فذهبت فدعوته له، فقيل: إنه يأكل. فأتيت رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فقلت: إنه يأكل. فقال: اذهب فادعه. فأتيته الثانية، فقيل: إنه يأكل. فأخبرته ــ صلى الله عليه وسلم ــ فقال في الثالثة: لا أشبع الله بطنه. قال: فما شبع بعدها”( البداية والنهاية. ج8. ص119).
فصيغة ابن كثير هذه توهم بأنها مروية عن مسلم وآخرين. لكن الحقيقة هي غير ذلك بالمرة. وهذه هي رواية مسلم حقاً. قال: “عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كنت ألعب مع الصبيان. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواريت خلف باب. قال: فجاء فحطأني حطأة، وقال: اذهب وادع لي معاوية. قال: فجئت، فقلت: هو يأكل. قال: ثم قال لي: اذهب فادع لي معاوية. قال: فجئت، فقلت: هو يأكل. فقال: لا أشبع الله بطنه. قال ابن المثنى: قلت لأمية: ما حطأني؟ قال: قفدني قفدة. حدثني إسحاق بن منصور، أخبرنا النضر بن شميل، حدثنا شعبة، أخبرنا أبو حمزة: سمعت ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ يقول: كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاختبأت منه. فذكر بمثله”(صحيح مسلم. حديث رقم2604).
فأنت ترى أن ليس فيها كتابة وحي، ولا ما شابه ذلك.
ومعلوم انه إذا جاءت رواية في غير مسلم تضيف شيئاً ــ على غير شرطه ــ فإن ذلك يعني أن مسلماً رفضها، باعتبارها إدراجاً من راوٍ أو رواةٍ لهم هدف سياسي.
إذن فقد أوهم ابن كثير قراءه بأن الزيادة التي تقول: “وكان يكتب الوحي” هي في صحيح مسلم، مع أنه يعرف أنها ليست كذلك. أي أنه استغل وجودها في كتب أقل دقة من صحيح مسلم، ثم قرنها في رواية واحدة، جمعت بينها وبين مسلم ــ في قوله: “روى الإمام أحمد ومسلم والحاكم في مستدركه” ليوهم بأنها من الصحيح.
لكن دواهي ابن كثير لا تتوقف عند هذا، بل تتعداه إلى مديح البطنة، حين يعلق على دعاء رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ على معاوية بعدم الشبع، فيقول: “وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك”(البداية والنهاية. ج8. ص119).
ورغم تعجبك من تحول هذا الشره إلى نعمة كبرى ــ في نظر ابن كثير ــ إلا أن ما يستفزك هو أعجب مما يثير تعجبك، إذ يقول موضحاً وجهة نظره، في دعم معاوية، بأن هذا الدعاء من الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ على معاوية، قد منحه نعمتين: واحدة في الدنيا، هي التي يرغب فيها كل الملوك؛ “وأما في الآخرة، فقد أتبع مسلم هذا الحديث، بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه، عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم، أن رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال: اللهم إنما أنا بشر، فأيّما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه، وليس لذلك أهلاً؛ فاجعل ذلك كفارة وقربةً، تقربه بها عندك يوم القيامة. فركب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية”(البداية والنهاية. ج8. ص119 ــ 120).
فلا يكتفي ابن كثير بضعف الأمانة العلمية، بل يضيف إلى ذلك جعل الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ مخطئاً في دعائه على معاوية، ليستحق أجراً!.
ولعمري إن هذه أول مرة أرى فيها عالم حديث يمدح البطنة، ويجعل النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ مخطئاً، لينال معاوية أجراً!. ومن يدري، فربما ينال معاوية أجره من حسنات رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
وللحديث بقية إن شاء الله
ـــــــــــ
المصادر:
1ـ ابن كثير: البداية والنهاية. ج4،8. دار الفكر. بيروت. 1978.
2ـ ابن الأثير الجزري. جامع الأصول في أحاديث الرسول. تحقيق عبد القادر الأرناؤوط. ج2. مكتبة الحلواني ومطبعة الملاح ومكتبة دار البيان. بيروت. 1972.
3ـ ابن سعد. كتاب الطبقات الكبير. ط1. ج6. تحقيق علي محمد عمر. مكتبة الخانجي. القاهرة. 2001.
4ـ موقع: الجامع للحديث النبوي. 3/1/2013. رابط:
http://www.sonnaonline.com/DisplayRawiInfo.aspx?lnk=121
5ـ موقع: ملتقى أهل الحديث. 3/1/2013. رابط:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=73911
6ـ ابن هشام. السيرة النبوية. هشام. ج2،4. تحقيق محمد بيومي. ط1. مكتبة الإيمان. المنصورة. 1995.
7ـ الطبري. تاريخ الأمم والملوك. ج2. منشورات محمد علي بيضون. دار الكتب العلمية. بيروت. 1997.
ابن القيم. زاد المعاد. ج1. دار الكتاب العربي. بيروت. دون تاريخ.
8ـ مسلم بن الحجاج. الصحيح. ط1. تحقيق أبي قتيبة نظر محمد الفاريابي. دار طيبة للنشر والتوزيع. الرياض. 2006.