عبد الناصر أسطورة.. كيف لا؟.. قراءة حديثة في مقال محمد حسنين هيكل
زياد شليوط | شفا عمرو الجليل – فلسطين
قرأتقبل مدة قصيرة، مقالا قديما للصحفي العريق محمد حسنين هيكل في إحدى النشرات،بعنوان “عبد الناصر ليس أسطورة”، والذي نشره لأول مرة في صحيفة “الأهرام” بمناسبة مرور أربعين يوماعلى رحيل الزعيم، وفيهيستعرض فيها أفكاره ويضع حججه لماذا علينا ألا نحول عبد الناصر إلى أسطورة. ربما كنت أوافق الأستاذ هيكل على ما أورده من أسباب في حينه، لكني اليوم لا يمكنني قبول ادعاءاته وذلك لما سأورده في مقالتي هذه، والتي تأتي في الذكرى السنوية الـ103 لميلاد الرئيس جمال عبد الناصر.
لم نكن نريد تحويل عبد الناصر إلى أسطورة، حاولنا أن نضبط مشاعرنا بعدما فاضت على مدى أيام في أواخر أيلول وأوائل تشرين 1970. كم كان حزننا كبيرا لكننا أقسمنا أن نحفظ الميثاق والطريق والتراث، وأن ننقل إرث عبد الناصر للأجيال القادمة، وأن نبقى على حبنا له كقائد تاريخي أدى دوره وذهب، كما قال لنا فالشعب هو الأساس مهما بلغ دور الفرد. لكن لا أخالك تنكر أن أعداء عبد الناصر وراء البحار وخلف القناة، وخصومه على ضفاف النيل وفي الصحراء هم هم الذين حولوه إلى أسطورة. إنهم لم يقتنعوا أن عبد الناصر كان انسانا عاديا ورئيسا وزعيما شعبيا. لم يتركوا حجرا في مكانه، ولم يدعوا ورقة في أرشيفها ولم يبقوا شاهدا في سكينته، بحثا عن نقيصة أو شائبة أو دليل يقودهم إلى توجيه تهمة إلى عبد الناصر وتشويه سمعته وتمزيق صورته النقية أمام الجماهير العربية التي أحبته دون حدود.
صحيح أن عبد الناصر لا يسعده أن يتحول إلى تمثال حجري فقط، لكن عندما تحاول أوساط مصرية ومسؤولين في السلطة، إعادة تمثال ديلسبس إلى مدينة السويس، في خطوة تهدف إلى تزوير التاريخ وقلب الحقائق، وإعادة مصر إلى عهد العبودية والاقطاع والاستعمار والذل، وعندما يقوم مسؤولون بتمجيد رموز غريبة ومعادية وغريبة عن الوطن والشعب. أمام كل ذلك هل نسكت ونوافق على إهانتنا والدوس على كرامتنا وتحقير إنجازاتنا كعرب ومصريين وناصريين وأحرار في العالم ونشارك في المهزلة الكبيرة بإعادة نصب تمثال ديلسبس الذي يرمز للاستعمار الأجنبي؟أليس من واجبنا أن نثور ونعارض ونقف في وجه هذا التردي والتراجع والتمادي على تاريخنا ومنجزاتنا؟ هل يكفي أن نتغنى بالشعارات ونرى في عبد الناصر مثالا نابضا للإنسان، بينما يجري رفع تماثيل من أذلوا شعبنا واستعبدوه وأهانوه، ولا نسعى إلى إقامة التماثيل له، لتذكير الأجيال بأن هنا كان عبد الناصر بيننا وأنه كان واحدا منا، قام وثار واسترد كرامتنا أمام العالم أجمع؟
لم نكن نريد تحويل عبد الناصر إلى نبيّ نعبده أو قديس نجلّه أو أيقونة نصلّي لها. لكنهم هم من جعلوه كذلك، هم أعداؤه وخصومه. الذين أرّقهم حبّ الشعب له وتقدير القوى العالمية له وبقاء اسمه وذكره على كل شفة ولسان. فقاموا يعملون ليل نهار على زرع الشكوك ونشر الأكاذيب وإعمال الفتن وشيطنة الانسان، ولما أخفقوا ازدادوا حقدا وكراهية، وأضافوا سموما جديدة ومستحدثة وطار النوم من عيونهم علّهم يشوهون صورته أو يجرحون صفاء سيرته، ولما فشلوا مرة إثر مرة أصابهم الجنون وأخذوا يهذون ويفترون، وأمام تلك الحالة ودون أن نقصد أو نسعى إلى ذلك، بدا أمامنا عبد الناصر “آخر الأنبياء” الذي قتلوه وأرادوا أن يرثوه زورا. وظهر عبد الناصر في حياتنا قديسا ورعا، ناسكا متعبدا، مؤمنا متواضعا، رحل عن دنيانا فقيرا، طاهرا، شريفا، وليًا من أولياء الله الصالحين. وتحولت صورته في بيوتنا ومكاتبنا وحاراتنا ومساكننا إلى “أيقونة”. صورته التي لم تنزل عن الحيطان والجدران بعد وفاته، وبقيت تذكرنا بالبطل الذي أحببناه وسرنا معه وخلفه في الانكسارات والانتصارات، وتحولت صورته دون أن نقصد أو نخطط إلى أيقونة نقف أمامها كل يوم بخشوع، ونخاطبها ببضع كلمات ونتمتم ما تفيض به مشاعرنا من اشتياق وحنين، وكما تآخينا “هلالا وصليبا” في حياته وأقسمنا “أحلف بقرآني وإنجيلي” في عهده الذهبي، بتنا نقرأ أمامها الفاتحة أو نرسم شارة الصليب تمجيدا لأيامه التي ولّت، وعمل الخصوم والأعداء على تغييرها والانقلاب عليها، وها نحن نرى نتائج أفعالهم ومؤامراتهم في مجتمعاتنا وبين شعوبنا، ومدى التردي الذي وصلوا إليه.
وبعد.. ألا يحق لنا اليوم أن نرى في عبد الناصر أسطورة؟