(من أنتَ أيُّها الملاك؟؟): إبراهيم الكوني يبحث عن البراءة الأولى (2-2)

أ.د. يوسف حطّيني | أديب وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات

ثالثا ـ البحث عن الانتماء من جديد:

يبدأ مسّي رحلة البحث عن انتماء جديد حين يفقد كلَّ شيء في المدينة، فلا يكون أمامه إلا أن يبيع البيت ليرحل إلى الصحراء. لقد خسر معركته في فرض اسم لابنه في دائرة السجل المدني، وخسر ابنه الذي لم يكن ممتناً لأبيه بسبب إصراره على هذا الاسم، كما خسر هذا الأب المسكين اسمه هو إذ صودرت وثيقته، وخان عهده مع الصحراء إذ قاد إليها الأغراب. “كان عليه أن يختار الرحيل إذا شاء أن يتجنّب الترحيل”ص209.

وقبل بدء رحلة العودة التي يرفض الابن أن يرافق الأب مسي فيها يبحث الأب عن استعادة براءة روحه بعد أن خان عهد الصحراء، لذلك يقرر أن ينتقم لها، وقبل أن يقودنا الروائي إلى بحث مسّي عن قربانه يقدّم لنا مقطعاً سردياً استرجاعياً من أبدع المقاطع يتحدث فيه عن مدية مسّي التي أخذها هدية من أبيه (1) الذي درّبه على استخدامها: “درّبه على استخدام المدية طويلاً، ولم يتوقف عن التمرين إلا في اليوم الذي استطاع أن ينحر بالمدية ذئباً” ص234.

كان أمام مسّي هدف واحد لكي يحقق انتقامه للصحراء، ولكي يطهّر نفسه، فهناك الباي الذي سرق الحجر، وعبث بروح الصحراء وتاريخها، لذلك فإنّه “ذهب إلى مقرّ شركة التنقيب عن النفط. هناك اعترضه العسس، فرابط على رصيف الشارع المقابل. مكث يوماً كاملاً وهو يترصّد شبح الباي، ولكن الرجل لم يظهر”. ص234-235

غير أن النبأ الذي حمله نزيه الفاضل لمسّي عن فرار الباي جعل مسّي يتجه اتجاهاً آخر، إذ يلجأ إلى السلطة/ المخفر، ليبلغها أنّ بعض ضعاف النفوس يستولون على روح الصحراء الخبيئة في حجر الأسلاف، ليقوموا بتهريبه إلى ما وراء البحار، فلا يلقى من السلطة إلا التجاهل: “السلطات لم تعد ترى فيها استنزافاً لكنوز الوطن التاريخية، بل تحريراً للأرض من رجس الوثن” ص240.

وإذ يفرّ الباي بالحجر المقدس يفكّر مسّي بإعادة روح الصحراء الضائعة إليها، ولكنّ “الصحراء لا تستعيد روحها الضائعة المستجيرة بشجرة الرتم إلا بقربان جسيم(2) ” ص253. لذلك يذهب مسّي إلى ابنه يوجرتن ويغرس نصل المدية في رقبته: “استقرَّ النصل المغسول بروح الإله الأبدي في نحر السليل فخرَّ الابن أرضاً. انبثق الدم غزيراً من النحر ليسيل عبر الأرض الظمأى ليرويَ شجرة الرتم” ص254.

وإنَّ ظهور صورة الموت المفزعة في الحركة الثالثة لحكاية الرواية يقوم على التأسيس الروائي لطغيان ذاكرة الصحراء، وتقديس روحها من قبل مسّي، البطل الصحراوي الغرّ الذي وجد نفسه في حالة مجابهة مأساوية مع المدنية الغادرة؛ لذلك نجده دائماً مسكوناً ببراءتها، فهي أمّه التي كانت تصبّره على غيبوبة الانتظار:

“استعان على هذا الغول بالغيبوبة. لا ينكر أنه روّض نفسه عليها طويلاً مستنجداً بوصايا أمّه الكبرى: الصحراء؛ لأنّ الحياة في ذلك الوطن ليست سوى انتظار طويل، بل انتظار أبدي لا يضع لأبديته نهاية إلا النهاية الطبيعية التي هي الموت” ص ص 42-43.

إنها الصحراء الساحرة الغامضة، الموحشة الغريبة، التي يجد مسّي حريته عبر الضياع فيها، ويجد فيها المُعَلّم الأوّل الذي يفوق أي مُعَلّم، وإذ يسأله رجل الاستجواب عن الجامعات التي تلقى فيها تعليمه يقول:

“الصحراء في مسيرة تعليمي كانت أولى الجامعات.” ص100

إذاً؛ فإنّ مسّي لم يكن راغباً عن التعليم، ولم يكن راغباً عن قوانين الطبيعة، وكان مستعدّاً للتقيد بأي قانون تسنّه الصحراء. ففي حوار مسّي مع ابنه يقول له إن الإنسان في الصحراء يستطيع أن يطلق على نفسه أي اسم دون أن يخالف اللوائح.

  • “لن يخالف اللوائح، لأنه لا وجود في الصحراء للوائح.

احتجّ مسّي من دنيا غيبته:

  • تخطئ! في الصحراء لوائح أشدّ صرامةً من لوائح العمران، ولكن سرها في أنها لوائح أمِّنا الطبيعة وليست لوائح أخينا الإنسان” ص114.

لذلك فمن الطبيعي أن يجد المتتبع للسياق الروائي إصراراً دائماً من قبل مسّي على العودة إلى الصحراء، من مثل قوله:

  • “القافلة التي لا تعود إلى الوراء قافلة مفقودة.” ص123
  • “لا مفرّ من العودة إلى الصحراء إذا شئنا أن نستعيد الهوية” ص163.
  • “في الصحراء يأخذ الآباء أبناءهم من أحضان أمهاتهم ليعيدوهم إلى أحضان أمهم الكبرى، أمهم الحقيقية الصحراء، لتعلمهم الحكمة.” ص175.

من هنا يبدو ما أقدم عليه مسّي طبيعياً ومأساوياً، غير أنّ الأهم أن ذلك الفعل كان مسوّغاً فنياً في ظلّ هذا الحضور الداخليّ المذهل للصحراء إزاء المدينة التي تكشّر عن أنيابها دون رحمة في وجه الجاهلين الذين لا يدركون قوانينها الظالمة التي تحوّل كلّ موظف في الدولة قامعاً من طراز مرعب. فحين ذهب مسّي إلى مستشفى الولادة لمقابلة رئيس الشؤون الإدارية وجد أن الأسماء المدونة التي تنتظر مقابلته بالآلاف، وإذ تناول القلم ليكتب اسمه تردد ثم سأل أمين السرّ ربع سؤال:

  • “هل يمكن..

ولكن أمين السرّ قاطعه بحدّة:

  • لا يمكن!”

إنّ مثل هذا الجفاء في الردّ يبدو من خلال الرواية سمة غير أصيلة من سمات الشخصية، بل هي مكتسبة بفعل الوجود في الوظيفة، وهذا بالضبط ما كان يعذّب مسّي الذي رأى أنّ موظف السجل ينافس في قدرته (رب الأرباب) بل يفوقه “لأن ربّ الأرباب لم يبخل بالروح التي نفخها في الوليد ليهبه الحياة. ولكن مارد السجلّ يستطيع أن يحجب هذه الحياة التي نالها الوليد بالمجان من الربّ” ص19.

مسّي ويوجرتن والآخرون:

يحتل مسّي بجدراة مساحة النص منذ صفحته الأولى حتى صفحته الأخيرة، فينوس بين الاستسلام والتمرّد: إنه روح تتوثب، تحنّ إلى التمرّد، ويحاولُ قانونُ المدينة أن يدجّنها، فينجح حيناً، ويخفق أحياناً: إذ يجبره قانون المدينة على الانتظار، ولكنه يقبض على جمر قلبه المتوهج، الذي كثيراً ما ينتصر على الجبن الذي تفرضه عليه قوانين السجل المدني. ويستطيع المرء أن يقرأ كثيراً من الأنساق اللغوية التي تشي بتمرد مسّي، فهو بعد عدة جولات من الانتظار اليومي جابه عضو المحفل، و”قرّر أن يجاهر باحتجاج رآه من حقّه فتمرّد (…) قال بصوت نمّ عن نفاد الصبر:

“إذا كنت أستطيع أن أنتظر هنا إلى الأبد في هذا المعتقل، فهلّ تظنّ أن بوسع الإنسان الذي ينتظر ميلاده الثاني أن ينتظر أكثر مما انتظر؟” ص25.

غير أنّ عضو المحفل الذي يستفهم عن الميلاد الثاني (وهو يقصد توثيق اسم المولود في السجلات) يستطيع أن يدجّن تمرّد مسّي، وأن يعيده إلى حظيرة القانون، بعد أن يهدده بالنقل إلى مشفى الأمراض العقلية.

أما يوجرتن الابن الذي خالف أباه في كثير من الصفات، فقد اشترك معه في صفة أساسية هي التمرد، بل إنّ تمرّد الابن جاء أكثر بروزاً، وأكثر قدرة على التصعيد الدرامي ذلك أنه كان عنيفاً ومستمراً وموجهاً ضد الأب مباشرة في أكثر الأحيان، في حين جاء تمرّد الأب موارباً وغير قادر على الاستمرار.

وقد بدا هذا التمرّد منذ ظهور يوجرتن، لا اسمه، في أثناء الفعل الروائي، إذ قادته العزلة الناتجة عن الاختلاف مع الآخر إلى مواجهات انتهت به إلى المخفر أولاً، وإلى خروج الابن من البيت ثانياً وإلى موته أخيراً. وثمة سياقات لغوية عديدة تظهر الوجه الأبرز لتمرّد يوجرتن ضدّ أبيه، ذلك التمرد الذي صدم الأب الذي خضع لشركة التنقيب، لأنّ وليَّ العهد أنساه العهد، كما يقول إبراهيم الكوني. ومن تلك السياقات الحوارات الساخنة التي كانت تجري بينهما الحوار التالي الذي يبدؤه الابن:

  • “ماذا يمكن لإنسان مثلي أن يفعل في مكان كالصحراء التي تتغنى بها كأنها جنات عدن؟!
  • وماذا يمكن لإنسان مثلك أن يفعل في مدينة لا تعترف به.” ص199.

وفي حوار آخر يتجرّأ الابن أكثر إذ يتهم مسّي المسكين بأنه كان وراء كل المتاعب التي عاناها، فيقول له:

  • “أنكرتني هذه المدينة بسبب خطيئتك أنت!
  • خطيئتي أنا؟
  • ألم يكن التشبث بذلك الاسم الغبي يوجرتن حماقة بلا مبرر؟
  • الاسم هوية، ولم يكن يوماً حماقة!” ص200.

وثمة حولَ مسّي وابنه شخصيات أخرى، لا تبلغ ما بلغته هاتان الشخصيان من الحضور وأبرز تلك الشخصيات شخصية موسى الذي انتظر مع المنتظرين، ولكنه قرر أن ينهي انتظاره بالاحتيال على مسّي لصالح الباي، ونزيه الفاضل الذي بدا حضوره، أو بالأدقّ رجوعه إلى السرد، حاجة فنية بحتة، وظيفتها نقل الأخبار لمسّي، فيما عرضت الرواية شخصيات عابرة كثيرة، من مثل موظفي السجل، والباي والجار العجوز والساعي. وتبدو أهمية هذه الشخصيات العابرة من خلال بعض المقولات التي تؤسس لها؛ فالساعي مثلاً يقدّم المقولات التالية:

  • “الغريب أن يسود هذا الوباء في دائرة تستخرج شهادات الميلاد للأحياء، ويغيب في الدائرة المجاورة المخوّلة باستخراج شهادات الوفاة” ص31.
  • “ما سيجري دوماً أسوأ مما جرى” ص32.
  • “إذا كانت الدنيا شقوة صغرى فإنّ الذريّة هي شقوتنا الكبرى!” ص33

وثمّة ملاحظة لا تخطئها العين هي توجيه الاهتمام من قبل إبراهيم الكوني للصفات الداخلية للشخصيات، إذ تبدو شخصياته ذات كثافة سيكولوجية لافتة[1]، وقلّما يستثمر الصفات الجسدية للشخصيات، اللهم إلا إذا كانت الصفات الجسدية ذاتها تقوم برسم بيئة نفسية تؤثر على من حولها، من مثل وصف رئيس لجنة الأسماء، ونظاراته الطبية، والملفات الثخينة الموضوعة أمامه على المنضدة، واللوحة المعلقة خلفه على الجدار، تلك اللوحة التي لا تقوم بدورها التأطيري التزيني فحسب، بل بدورها المرتبط بجوهر الحكاية أيضاً، إذ ثمّة فيها مخلوقات هشّة تمثّل الأطفال الذين لا أسماء لهم، وهذا يعني أنّ ابن مسّي مرشّح للانضمام لمخلوقاتها:

“في رقعة سماوية اللون، رسمت على طول الجدار، رفرفت تلك المخلوقات الهشّة (أو هكذا تخيّل لحظتها)، بأجنحة صغيرة، حاملة أبداناً كأجسام العصافير، أو ربما في حجم النحل، لتهيم في ذلك الفضاء الممهور بنتف من عهن ناصع، منفوش، شبيه بقطع السحب العقيمة، فتبدو في ذلك الفراغ أكثر هشاشة وعجزاً واغتراباً” ص 77.

*          *          *          *

نقول باختصار: إنّ هذه الرواية، من خلال إصرارها على الذاكرة: الهوية والصحراء، قادرة على أن تسلب انتباه القارئ منذ سطرها الأول إلى سطرها الأخير، وذلك بفضل تضافر الحكاية مع اللغة: فالحكاية اللاهثة لا تنتهي إلا بالدم المراق، واللغة ترسم إطاريها الجغرافيين (المدينة والصحراء) القادرين على أن يشحنا القارئ بمشاعر متضادة، تسهم في إعطاء الرواية ميزة القدرة على الإقناع والإدهاش.

………..

المصادر:

  • المدية ذاكرة والد مسّي، وهي تحمل نداء الثأر؛ لأنها روح الصحراء التي تمّ تدنيسها، وما ظهور المدية هنا، محمّلةً برمزها الدموي، إلا إشارة مبكرة للنهاية التي تقوم فيها بدور حاسم.
  • التضحية بالابن هنا برهان إيمان ميسى برسالة الصحراء التي وصلت إليه عن طريق أبيه، مثما كانت تضحية إبراهيم (أو استعداده للتضحية) بابنه برهان يقين وثقة بالله عزّ وجلّ، وقصة ذلك موجودة في الإسلام واليهودية. قال تعالى في سورة الصافات: “فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)”.
  • تنتمي معظم شخصيات هذه الرواية إلى الشخصيات النفسية، وهي إلى جانب الشّخصيّات غير النّفسيّة، أحد نوعي الشّخصيّات في تقسيم تودوروف، وتظهر في النّصوص السّرديّة الّتى تركّز على مكنونات الشّخصيّات أكثر من تركيزها على أدوارها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى