اللاعقلانية جذر الوهن، جلابة الكوارث.. من يتعهدها؟

سعيد مضيه | مفكر سياسي فلسطيني

يحث قادة إسرائيل الخطى لتحويل فلسطين بكاملها دولة يهودية؛ تشيع القيادة الإسرائيلية نظرة عنصرية تبرر بها نظام الأبارتهايد المفروض على الشعب الفلسطيني، مدعمة بمشاعر الكراهية والازدراء تضع الفلسطينيين في عداد أشباه وحوش . فسرت مجلة “الحقيقة البشعة”، وهي مجلة اميركية نقدية، “اعتناق فكرة عن العرب أنصاف متوحشين هي مقدمة سيكولوجية ضرورية لتدمير إنسانية الشعب المنوي إبادته واضطهاده وطرده”. الشعب الفلسطيني يواجه خطر تذويب ثقافته تمهيدا لاقتلاعه”. وكتب إدوارد سعيد ، “الفلسطينيون يناضلون ضد طمسهم وإخفائهم ، وهو المصير الذي قاوموه منذ البداية”. وأعد حميد دباشي ، الاستاذ بجامعة كولومبيا في نيويورك، وحرر كتاب “أحلام وطن..عن السينما الفلسطينية”، وفي مقدمته يشير الى “ما نشهده في الأفلام الوثائقية الفلسطينية، على سبيل المثال، ليس عملا عاديا عبارة عن جمع شهادات حول التاريخ الغابر، إنما نجد خوفا معينا من ضياع، ونظرة مثيرة للقلق على الأقل، والحفاظ على سجل مستدام من الذاكرة المهددة بالانقراض. وهذا يمثل أبلغ ما نراه في الأفلام الوثائقية الفلسطينية”. لعل نفس القلق يسري في أعمال الكتاب والباحثين الاجتماعيين والفنانين الفلسطينيين .

وفي مجال آخر يلاحظ ” حكاية الفلسطينيين من البؤس وهضم الحقوق دون انقطاع أو إنكار ، من خلال امل يتحدث عن اليأس ، من خلال ضحك يخفي الغضب، ومن خلال عبث جدي يتجاوز مرحه الكئيب الأسود حول سرقة أرض لشعب عظيم وترويع شعب كامل وإرهابه ليغادر وطنه ، ومن ثم يوصف هذا الشعب بالعنف والإرهاب”.

خلاصة هذه المراثي المسبقة أن الطرف الفلسطيني عاجز عن الردع، وهو أشبه بالشياه تجر الى المسلخ ، تثغو فيعجل الجزار جز رقبتها ليضع حدا لإزعاج الثغاء.

الوهن الفلسطيني مبعثه ضعف تأثير قوى التغيير الاجتماعي في المجتمع الفلسطيني . تبدو هذه القوى وقد تكلست وتذيلت لفصيلي حماس وفتح تتحرك ان جنحا للتفاهم او ترقد إن امعنا في الخصام والشقاق. هذا، بينما يقتصر اهتمام كل من الفصيلين المتسلطين على التحكم بجهازي السلطة وتوفير الوظائف لعناصرهما. لذا يبديان موقفا محافظا على الحالة القائمة. والمحافظة حالة سائدة في جميع الأقطار العربية؛ أحزاب الحكم تذوب في أجهزة السلطة، وتلهيها عن قضايا الوطن المكاسب المادية وقمع المعارضة .

تعسف الأنظمة وهيمنتها المطلقة بدعم حلفائها بالخارج قلص نفوذ الأحزاب السياسية بوجه عام في اوساط الجماهير، وهمش دورها في الحياة السياسية.

تحت ضغط أوضاعها المتردية تهب الجماهير في انتفاضات او تتبع الحركات الإرهابية، وفي كلتا الحالتين تمنى بالخسارة والخيبة، وتركن الى اليأس والإحباط. والإحباط الشعبي يُفقد قوى التغيير الاجتماعي أداتها الاجتماعية ورصيدها الكفاحي. دوامة شيطانية تدور وتبتلع ، خلت من مبادرة فصيل يدعى قولا التغيير الاجتماعي لإلقاء حجر في البركة الراكدة؛ بدلا من استثمار الحراك الشعبي في انتفاضة 1987، جنحت فصائل الى حمل السلاح؛ عطلت بذلك عملية تطوير الحراك الشعبي والتربية السياسية للجماهير في مجرى الحراك، الى غاية التغيير الديمقراطي وفرض التراجع على الاحتلال. ركنت الفصائل المسلحة الجماهير الى انتظار الفدائي المخلص. النشاط المسلح، بطبيعته يتطور الى غايته من خلال تفاعله مع نهوض جماهيري يتغذى منه ويغذيه؛ وبدون ذلك يفقد طاقته وينتهي الى فشل فإحباط جديد. يجري ذلك في حقبة صراع ثقافي على وعي الجماهير. إحباطات تعاقبت مع غياب العقلانية فير إدارة المقاومة الوطنية للاحتلال.

مع غياب العقلانية يغيب التفكير الاستراتيجي والمراجعة النقدية وتتكرر الأخطاء الكارثية . مع الإحباط تعزف الجماهير عن تعلم دروس الفشل وتغدو ضحية استغفال العدوان الثقافي المتواتر بهدف إرباك الجماهير وتجريدها من إرادة العمل. فعلى الصعيد العالمي يدور صراع ثقافي على وعي الشعوب. بتأثير هذا الصراع غير المتكاقئ يتغلب بصورة تلقائية على المزاج الشعبي توجه لتحميل الحزبية والأحزاب مسئولية الفشل، وفي الساحة الفلسطينية هناك من يحمّل الأحزاب كافة مسئولية الكوارث الوطنية. في هذه الأجواء ينبري من يدعو لحركات جماهيرية عفوية بعيدة عن الأحزاب، متوهما إحداث تغييرات سياسية غب الطلب، وتصعيد النضال ضد الاحتلال بمبادرات تلقائية من منظمات المجتمع المدني والحشود الشعبية وشبكات أو منصات التواصل الاجتماعي، فهي القوة القادرة على النضال من أجل التغيير وتحقيقه. وذلك بمسوغ انها تمتلك طاقات تفتقر اليها الأحزاب والفصائل. ً

تلك الوصفات شعوذات سياسية، تتكاثر في جنح الظلام، حيث يغيب الفكر الوطني، ويبهت دوره في الصراع الثقافي الدائر. تنبيه صدر عن اكاديمي عربي نظرالى المجتمعات العربية وازماتها من شرفة عالية وموقع متقدم. رأى الدكتور داوود خير ها الله ، المحاضر بجامعة جورجتاون: “قوى الدمار التي تدفع إلى التفكك المجتمعي وتلحق بالمجتمعات العربية الوهن والهزائم في الزمن الذي نعيش…”؛ يقدم العلامة المصري، الدكتور أحمد عكاشة، أستاذ علم النفس، تفسيرا للظاهرة من خلال تحليل آلية النشاط العقلي ضمن ظروف استبداد سياسي وفكري، حيث “يتعطل في الدماغ الجزء المسئول عن أعمال الخير والضمير وأحكام العقل ، ويصبح العقل الهمجى الذى لا يلتزم بأي قوانين هو القائم… الفص الأمامي من الدماغ مسئول عن الضمير والقيم والتقاليد والأخلاق الإنسانية بمعناها الشامل، الإطار القانونى وتوافر الأمن والأمان وهيبة الدولة”. الإرهاب السياسي يترك تشوهات بالتفكير ويخل بالقيم الخلقية.

من النمسا رأى العالم جان زيغلر في ثقافة الليبرالية الجديدة ” النظام العالمي المتوحش، يخلق الوفرة لأقلية صغيرة والبؤس القاتل للأغلبية… يعلمنا التاريخ انه لا يمكن أنسنة نظام يمارس فيه الاضطهاد.”

الليبرالية ، حسب رؤية محمود امين العالم، المفكر الماركسي المصري الراحل، انعشت الأصوليات الدينية في إهاب حركات سياسية تتلبس لبوس الدين ، مسيحيا أو يهوديا أو إسلاميا؛ وهي في جوهرها فاشية متحالفة مع الغرب الامبريالي. وعلى غراره رفض سمير أمين، كماركسي متمرس في الجدل المادي، المواقف الأخلاقية الزائفة التي تستعمل المبادئ للتغطية على الوقائع الباردة التي عادة ما تكون غير أخلاقية. في نظر المفكريْن الماركسييْن سعت الدول الكبرى وتواصل المساعي لإدماج واستتباع اقتصادات البلدان النامية في بنيتها الرأسمالية وتفكيك قطاعاتها ومؤسساتها الاقتصادية العامة وتصفية الدور الإنتاجي لدولها. وسهل نجاحها في مساعيها عمليات تفكيك الروابط الإقليمية والقومية وخلخلة الهويات الثقافية وإشاعة الاتجاهات اللاعقلانية والاستهلاكية وروح الفردية .

و قدم هشام شرابي إضافة نوعية الى الفكر الوطني التحرري ، إذ بلور صيغة “النظام الأبوي المحدث”( أو المستحدث). وهو مفهوم مأخوذ عن ماركس للدلالة على نظام ما قبل الرأسمالية. “النظام الأبوي المحدث دلالة على توفر عامل خارجي يؤثر في تطور داخلي، فيدفعه الى التحول”، أشبه بالمصل حقنة صغيرة تعزز المناعة بوجه الوافد، الذي هو الحداثة. “الثقافة الأبوية المحدثة فقدت توازنها وانسجامها ، واتصفت بالتملق في العلم والدين والسياسة؛ إضافة الى عجزها السياسي وتلكؤها الثقافي وابتعادها عن الحداثة الأصيلة ، أي فقدانها تحرير الذات المنشود” . التخلف جزء من النظام الاقتصادي العالمي، ولا يخدم قضية الخلاص من ربقة التخلف والتبعية اخفاء الرابطة العضوية بينهما. إذ يترتب على الهيمنة الاقتصادية ” مقاومة للتغيير تنبع من تضافر نظرة رضوخية الى العالم الطبيعي مع بنى اجتماعية ذات نمط تسلطي تنشئ شخصية ذات بنية تسلطية، مما يخلق ويعمم نظاما من العلاقات يتصف بالسيطرة – الرضوخ”. بالنتيجة ، حسب وصف شرابي، “رافق الاستقلال نوع مغاير وغير مباشر للاستعمار الثقافي ؛ إلا أنه كان أوسع انتشارا، لم يستمد هيمنته من السيطرة العسكرية – السياسية المباشرة ، بل من اختراق الثقافة الغربية للنخبة الأبوية الجديدة، مضافا إليها سيطرة وسائل الإعلام الغربية وشيوع قيم المجتمع الاستهلاكي… ان عوامل التخلف العقلي والقحط العاطفي والشلل الفكري التي احدثها الإرهاب الاستعماري ليست واضحة للعيان وضوح آثار الاستغلال الاقتصادي، إلا أنها قد تكون اكثر تدميرا على المدى البعيد.” لم يحظ مؤلف شرابي بالاهتمام اللائق و اللازم، إذ تم إغفاله بمؤامرة صمت؛ فهو يرجع الانكسارات العربية الى النظم الأبوية المتسلطة على المجتمعات العربية . ضمن سلطوية الأنظمة الأبوية نجح الاحتلال الإسرائيلي، في تفكيك الاقتصاد الفلسطيني ومنعه من التطور ونخر الحياة الاجتماعية.

بتقدير علم النفس الاجتماعي “بمقدار ما تتضخم ذات المتسلط تفقد ذات التابع المسود اهميتها واعتبارها ، حتى لكأن إنسانيتها تتلاشى كليا . والواقع ان السيد لا ينظر الى الآخر المقهور كإنسان فعلي ، انه يفقد التعاطف معه والإحساس بمعاناته وآلامه، ومخاوفه وحاجاته . من هنا تنبع تلك القسوة البادية في تصرفاته تجاه من يخضعون له ، تلك اللامبالاة تجاه معاناتهم.” اما المقهور فيصبح مستضعفا اتكاليا مستكينا . “وهذا بدوره يؤكد في ذهن المتسلط اسطورة تفوقه وخرافة وغباء الإنسان المستضعف وعدم آدميته” .

ذلك عو الإدراك العقلاني لأوضاع الجماهير تحت سطوة النظام الأبوي، وتلك هي العلاقة الموضوعيىة بين نخب الحكم والجماهير . يتمترس التخلف ويكمن في أعماق المجتمع العربي ، متخذا صفتين متلازمتين هما : اللاعقلانية والعجز. “الهجانة والهشاشة أقعدتا النظام الأبوي وأوهنتا مقاومته للتحديات. في كنف الهشاشة أشيعت مظاهر الخوف وعقد النقص والخضوع واليأس بين الشعوب المستعمرة، وكلها مناقضة للتنوير”. بات واجبا على قوى التغيير الاجتماعي تعرية الزيف والتشوه اللذين ولدهما الاستعمار في ظل التبعية المباشرة، وذلك في إطار سيرورة ثورية تنجز في سياق ثورة تعتمد العقلانية. كل الثورات المغيرة للواقع الاجتماعي هيأت لها وقادتها أحزاب. وبقدر متانة العلاقة بين الحزب الثوري والجماهير يتعمق التحول الثوري ويتسع تأثير التحولات على المحيط والعالم كله. والشرط الرئيس لاستمرار التطور التقدمي لأي مجتمع هو تمتين العلاقة بين حزب او تجمع احزاب التغيير الاجتماعي مع الجماهير. الثورة لا تتميزبحمل السلاح، ولا بالبطولات الفردية والعمليات الانتحارية؛ الثورة نتاج نشاط شعبي جارف لكل معيقات التحرر الإنساني والتقدم الاجتماعي. في هذا السياق يتوجب تمييز الطريقة التي يرى حزب التغيير من خلالها الأمور وبين مستوى وعي الجماهير. ينبني فن بناء الحزب الثوري وترسيخ جذوره بين صفوف الجماهير على وجه الدقة في معرفة عقلانية لكيفية الربط بين البرنامج العلمي الكامل وبين وعي الجماهير الذي هو بالضرورة غير مكتمل ومشوش ومتناقض.العقلانية هي الحل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى