فنون

عُمان حارسة الهوية العربية

بقلم: أ. سعيد مالك| معلم لغة عربية
في زمنٍ تتزاحم فيه اللغات وتتنازع الألسنُ الفضاء الرقمي، تقف سلطنة عُمان شامخةً بين الأمم، كالنخلة في الصحراء، ثابتة الأصل، طيبة الثمر، تُمسك بزمام لغتها العربية فتجعل منها سلاح هويةٍ وسفينة حضارة.فاللغة العربية في عُمان ليست حروفًا على ورق، بل هي نبض الوطن وذاكرة الإيمان، ولسان التاريخ الذي لا يشيخ.
اللغة العربية … وحيٌ سماويٌّ وفضلٌ ربّاني
لقد شرف الله اللغة العربية بأن جعلها وعاءَ الوحي الإلهي، فكانت لغة القرآن الكريم، الذي قال فيه تعالى:﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: 2).وفي موضع آخر قال سبحانه:﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 195).وفي الحديث الشريف قال رسول الله ﷺ: “أحبّوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي» (رواه الطبراني).
من هنا انطلقت عُمان في اهتمامها باللغة العربية، إدراكًا منها أن من يُهمل لغته، يقطع جذره من التاريخ، ومن يُكرمها يرفع أمته في ميزان الحضارة.
منذ فجر النهضة… صوت العربية لا يخفت حين بزغ فجر النهضة الحديثة بقيادة السلطان قابوس بن سعيد –رحمه الله–، أدركت السلطنة أن النهضة لا تكتمل بلا لغةٍ تحمي فكرها وتنقل قيمها. فجعلت العربية أساس التعليم، وأداة التوحيد الثقافي، وأصدرت القوانين والأنظمة بلغةٍ عربيةٍ فصيحة تليق بجلال الدولة وهيبتها. وقد قال السلطان قابوس في إحدى خطبه المضيئة:”إن لغتنا العربية هي أساس هويتنا، ومصدر فخرنا، وعنوان حضارتنا، فلنصنها ونرفع شأنها كما نصون الوطن ونرفعه”كلماتٌ صادقة تحوّلت إلى منهجٍ وطني، تجسّد في المناهج، والإعلام، والثقافة، وفي نفوس الأجيال الصاعدة.*العربية في التعليم… غرس الهوية في القلوب منذ عقودٍ طويلة، جعلت السلطنة من اللغة العربية حجر الزاوية في منظومة التعليم.*تُدرَّس في المدارس والجامعات لا كموضوعٍ أكاديمي فقط، بل كمشروع وطني للوعي والانتماء*تطورت المناهج لتجمع بين فصاحة التراث وروح العصر، فجمعت بين شعر امرئ القيس ومفردات العلم الحديث، وبين بلاغة القرآن وأساليب التواصل الرقمي. وتنظم وزارة التربية والتعليم سنويًّا مسابقات في الإلقاء الشعري والكتابة الأدبية والخط العربي، لترسيخ الثقة في الجيل الجديد بأن لغتهم قادرة على التعبير عن الفكر والعاطفة، والعلم والإبداع.
مجمّع اللغة العربية العُماني… حارس الضاد الأمين
ولأن الاهتمام لا يُثمر إلا بمؤسساتٍ حاضنة، أنشأت السلطنة مجمّع اللغة العربية العُماني، ليكون منارة بحثٍ وإحياءٍ لغويّ، يعمل على تعريب المصطلحات العلمية، وتبسيط المفردات للمتعلمين، وتنظيم الندوات والبحوث التي تُثري لغة الضاد وتُصون نقاءها. وفي ظلّ رؤية عُمان 2040، اتخذ المجمع خطواتٍ لرقمنة اللغة وتعليمها للناطقين بغيرها، إدراكًا بأن اللغة العربية إذا لم تدخل الفضاء الرقمي بقوة، ستفقد حضورها بين الأجيال الجديدة.
الإعلام العُماني… فصاحة لا تنتهي
اللغة العربية في الإعلام العُماني ليست زينة لغوية، بل عنوان مصداقية ووعي.ففي الإذاعة والتلفزيون والصحف الرسمية، يُسمع اللسان العربي مبينًا، فصيحًا، محبّبًا إلى الأذن والقلب. وتُقدّم البرامج الثقافية بالعربية الفصحى، تُبرز جمال البيان وأسرار البلاغة، وتدعو إلى الحفاظ على نقاء اللغة وسط زحام المصطلحات الأجنبية. ولعلّ صحيفة «عُمان» ومجلة «النهضة» وموقع «الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون» شواهد حيّة على أن الفصحى في السلطنة ما زالت تتكلّم وتُبدع وتُعلّم.
الجامعات والمراكز… منابر البحث والبيان
جامعة السلطان قابوس، وجامعة نزوى، وجامعة صحار، وغيرها، يزدهر قسم اللغة العربية وآدابها ببحوثٍ تُعالج قضايا اللغة بين الأصالة والمعاصرة.
ينكبّ الأساتذة والباحثون على تحقيق المخطوطات، ودراسة الأساليب، وتأصيل قواعد اللغة بما يوافق حاجات العصر. ولذلك برزت أسماء عُمانية في النقد الأدبي واللغوي، حملت رسالةً حضارية تُجسّد قول الشاعر:إن الذي ملأ اللغاتِ محاسنًا جعل الجمال وسرّه في الضادِ.
الاحتفاء الرسمي بيوم اللغة العربية
ففي كل عام، في الثامن عشر من ديسمبر، تتألق المؤسسات التعليمية والثقافية في السلطنة احتفاءً بـ اليوم العالمي للغة العربية، فتقام المهرجانات والمعارض والمسابقات الأدبية، وتُعرض لوحات الخط العربي، وتُلقى القصائد الفصيحة، وتُكرَّم الأقلام التي تخدم العربية كتابةً وتعليمًا وبحثًا.وهكذا تحوّل الاحتفال إلى عُرسٍ وطنيٍّ تتجدّد فيه العزيمة على حماية لغة الوحي من التراجع أو الاغتراب.
القيادة الرشيدة… استمرار النهج ووضوح الرؤية
واصل جلالة السلطان هيثم بن طارق – حفظه الله – هذا النهج المبارك، مؤكدًا في خطاباته على ضرورة الحفاظ على الموروث الثقافي واللغوي، ودعم المبادرات التي تعزّز مكانة العربية في التعليم والإدارة والإعلام. وفي عهده، أُطلقت مشاريع رقمية لتعليم العربية للناطقين بغيرها، وبرامج لترقية مهارات المعلمين في أساليب تدريس اللغة الحديثة.فالنهضة في عُمان لا تُقاس بالمباني وحدها، بل بما يُبنى في العقول من حبٍّ للغة وحفاظٍ على هويةٍ باقيةٍ لن تزول.
لغة عُمان… نبض القلب وصوت الإيمان
في أرض اللبان والعطور، حيث يمتزج التاريخ بالعراقة، تظل اللغة العربية في سلطنة عُمان قلبًا نابضًا بالحياة، تُعلّم الأجيال أن الحروف ليست صامتة، بل لها روحٌ تُنير وتُعبّر وتُبدع.وفي زمنٍ تُستبدل فيه اللغات بالعادات واللهجات بالمصطلحات، تقول عُمان للعالم كله:نحن أمةٌ نؤمن أن اللغة هي الوطن نصونها كما نصون الوطن، وهي الجسر بين الماضي والمستقبل.وستبقى السلطنة — ما دامت جبالها شامخة وسواعد شبابها ماضية — منارة الضاد، وحارسةً أمينةً على لغةٍ قال الله فيها:﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (الزمر: 28).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى