اكتشاف الحب: أوراق من مدونتي الشخصية (12)

مروان ياسين الدليمي | العراق

 

يوم الهروب

عليك أن تختار، إما أن تمضي للأمام غير عابىء بالمخاوف أو تنجرف إلى فكرة الصمت، باعتبارها اضعف وسيلة لمعاندة جريان الزمن، فأنت في كلا الحالتين ستغادر الامنيات والاحلام في آخر المطاف، لتغتسل روحك بعد أن ينطفىء الجسد في أعماق الأرض، ولن تتاح لك فرصة أن تودع المخاوف والمباهج ، ولا أن تمسح عينيك بتراب الأماكن التي دائما ما  تحتفظ برائحتها تحت جفنيك. فلماذا اذن تنتظر وصول المعجزات، طالما لن تهبط عليك بالمظلات، ولن تعرف طريقها إليك لترتمي بين احضانك؟.

حتى وأنا في بيروت، لم استطع أن أتجاهل في فجر اليوم الأول روتين النهوض الصباحي، الذي اعتدت عليه مذ وصلنا هاربين الى ناحية عنكاوا في اربيل مطلع العام 2007، قبل اكثر من ثلاثة عشرعاما، بعد ان حالفني الحظ  في انقاذ نفسي وعائلتي من خطر الاغتيال في الموصل من قبل تنظيم القاعدة.

مذ ذاك اليوم وانا بغاية الحرص على ان تنتعش علاقتي مع الزمن، فلم ابخل على نفسي متعة ان اناجي الغيم والاشجار، وألامس الضوء وهو يتغلغل في زوايا العتمة.

ما زلت اذكر تفاصيل ذلك اليوم ، خاصة عندما اجتازت الشاحنة التي اقلتنا حدود مركز مدينة الموصل مع الاثاث البسيط لشقتنا الذي استطعنا نقله فيها، ووصلت بحدود التاسعة صباحًا عند اول حاجز لقوات البيشمركة الكوردية، بالقرب من بلدة برطلة، حتى وجدتني مشبعًا باحساس من يُكتَبُ له عمر جديد، فتنفست الهواء بعمق، مثل سجين يخرج الى النور بعد ان كان محكومًا بالاعدام فيسعى بكل مايحمله من شهوة للحياة الى ان يعانق كل ذرة في الفضاء، ويمتص ما فيها من رحيق، حتى ان السائق الذي كنت اجلس الى جانبه في قمرة القيادة شعر بما كان يصدح في روحي من اغاني، وما كان يتوهج فيها من فرح مفاجىء احال القمرة الى سفينة هائلة تشق عباب البحر، فالتفتَ ناحيتي وقال لي” اطمئن، الآن عبرنا مرحلة الخطر” .

 

 مكالمة هاتفية أخيرة

 لم اجد نفسي إلاَّ وانا احتضن ولدى الذي كان يجلس بيني وبين زوجتي، فقبلته من خدّيه مثل من يقبِّل غريقا ليمنحه الحياة، ثم مددت يدي وامسكت بكف زوجتي التي كانت تجلس صامتة الى جانب النافذة معزولة عما حولها من صخب، تفكر بما ينتظر حياتنا القادمة، وما ستشهده من تحوّلٍ، فبدت كما لو انها كانت ضائعة في غابة من الحيرة، لانها لم تستطع ان تفتح نافذة في تلك العتمة التي كانت تغلف الافق امامها، لتستشف الصورة  التي سنكون عليها في اليوم القادم، وكما حكت لي في ما بعد فإن مشاعر الحسرة كانت تتناهبها لانها ستفارق اهلها وربما لن تراهم لفترة طويلة، وما كانت تبصر في داخلها اي علامة تشير الى ان ما ينتظرها في جوف المجهول سيبعث فيها الاطمئنان، خاصة وانها مازالت تحت تأثير المكالمة الهاتفية التي جرت بينها وبين شقيقها الاكبر اثناء ما كانت الشاحنة تقطع الطريق المحتقن بصمته الموحش والمعبأ بالمجازفات ما بين دورة اليرموك والجسر الثالث الذي سيفضي بنا من الجانب الغربي الى الجانب الشرقي من الموصل، حتى انها لم تستطع حبس دموعها بينما كانت تتحدث معه عبر الهاتف وتخبره بصوت خافت بما اقدمنا عليه من خطوة بالرحيل عن المدينة والتوجه الى اربيل، ولم تنس ان تحمِّله امانة ان ينقل سلامها ومحبتها لوالديها، وان يدعو لنا بالسلامة والنجاة، وبسبب ضعف الاشارة وتقطّع الصوت لم تستطع ان تسمعه بشكل واضح وهو يتحدث اليها، لكنها شعرت بالصدمة التي نالت منه وكان  تاثيرها واضحا في صوته الذي اخذ يتكسر مثل عشب يابس وهو يحاول ان يسيطرعلى مشاعره التي ارتفعت درجة حرارتها قبل ان ينقطع الاتصال الهاتفي بينهما، وما أن انقطع الاتصال حتى حامت غمامة من الحزن على وجهها، وبصعوبة واضحة ابتلعت ريقها بعد ان احسّت حلقها وقد نشف تماما من اللعاب.

ضغطتُّ على كفها بكل ما لديّ من قوةٍ اظنها كانت توازي ماكنتُ اشعر به من خوف على سلامة حياتنا طوال الطريق منذ ان انطلقت بنا الشاحنة بحدود الساعة السادسة صباحا من امام العمارة السكنية الكائنة في مجمع شقق اليرموك، لاننا كنّا بغاية الحرص على ان ننتهي من تحميل ما لدينا من حاجيات واغراض دون ان نثير اي جلبة، ومن ثم الانطلاق قبل ان يصحو سكان العمارة ، حيث كانت شقتنا تقع في الطابق الثالث منها، نظراً لان الوشاية كانت قد نقضت العهد مع الاخلاق نهائيا واحكمت قبضتها على طباع البشر، وتبددت الطمانينة مع الجار والصديق والاقارب بشكل مرعب، ولم يعد ممكنا ان نجني الثقة في زمن ارتبكت فيه القيم فأمست المسافة مابين الفرد والآخر ارضا قاحلة تنمو فيها الدسائس والاكاذيب التي كان كثير من العراقيين يتبرعون بها للجماعات المسلحة تعبيرا عن احقاد شخصية .

 

دورة اليرموك وشارع بغداد

ازدحمت في راسي الذكريات مثل حقل من الزهور العطرة، فكانت  تفيض برائحتها مع  كل ركن من اركان مدينتي التي كنت اودعها بصمت من خلف زجاج النافذة الامامية للشاحنة، لكنها سرعان ما تختلط مع هاجس الخوف كلما كانت تتقدم باتجاه مبنى بدالة ابي تمام للاتصالات التي تطل على شارع بغداد، فهناك الكثير من قصص الموت والرعب المرتبطة بهذا الشارع، الذي يمتد بشكل مستقيم لمسافة طويلة تبدأ من دورة اليرموك وتنتهي عند بوابة مدينة الموصل التي تفضي الى الطريق المؤدي باتجاه العاصمة بغداد، فبين ليلة وضحاها امسى  مسرحا مفتوحا لمواجهات دموية مسلحة، دائما ما كانت تقع ما بين تنظيم القاعدة والقوات الاميركية، حتى ان الناس بدأوا يطلقون عليه شارع الموت، فكان الوقت يمر في زواياه معبأً بالترقب ومشحونا باشعاعات الهلع وهي تحبس انفاس الناس في التاكسيات وباصات النقل الخاص عندما يذهبون صباحا الى عملهم ويعودون مساء الى بيوتهم.

تحوّل الشارع الى لحظة زمنية داكنة انتظمت فيها انفاس الانسان على ايقاع الرصاص الذي كان يغترف من ابارٍ معبأة بمشاعر الحرمان والكراهية والتكفير، وتفشَّت فيه صور الموت مختلطة مع رائحة البارود، فنقشت الحرب ملامحها القاسية بكل بشاعتها على واجهات البيوت والابنية الحكومية مثل دائرة الماء والبلدية والبنك، وانزاحت عنها ظلال الاشجار المزروعة في الجزرة الوسطية التي كانت تمتد على طوله، ولم تعد الحياة تجرؤ على نثر خصلات شعرها خلف النوافذ ولاان تطلق ضحكتها امام واجهات المطاعم والمقاهي التي امست ملاذا للقطط والكلاب السائبة وجثث القتلى، مِن المدنيين ومنتسبي القوات العسكرية والشرطة، فغدا اشبه بمقبرة تسكنها الاشباح  بعد ان كانت الحياة تضج في اركانه طيلة ساعات الليل والنهار، لانه كان المحطة الرئيسة التي تنتهي فيها رحلة شاحنات النقل القادمة من تركيا وسوريا وهي محملة بالبضائع، قبل ان يتم تفريغها بشاحنات عراقية لتنطلق في ما بعد الى بغداد ومدن العراق.

 

معانقة الحياة

ما ان استقر بي المقام في عنكاوا حتى اندفعت بكل ما لدي من حماس لتجاوز الشروخ التي اصابت حياتي واتلفَت ما كان لدي من احلام، فبعد ان استأجرت شقة وجهزتها بالمستلزمات المنزلية الاساسية، من طباخ غازي وثلاجة وجهاز تلفزيون، لم يكن يدور في بالي سوى ان استوعب نِعَمَ الوجود بملء روحي وعقلي، ولاجل ذلك كنت مستعدًّا ان يكون مسكني خاليا من اي صورة للترف، فما عاد يهمني ان تكون شقتي خالية من الاثاث، ولهذا اكتفيت كما هي عاداتنا في بيوتنا القديمة بان افرش ارضية غرفة الاستقبال  بمجموعة من البسط السميكة التي اشتريتها من سوق الاغراض المستعملة.

حاولت ان اعوض مافاتني في ايام الرعب التي عشتها في الموصل، وبدأت استمتع بكل ثانية بنسيم الهواء وحرارة الشمس وصوت العصافير وخفقة اجنحة الفراشات، فكنت حريصا على ان استيقظ مبكرا كل يوم لتستفيق روحي على ضوء الفجر وهو يلامس كل ما هو كائن على الارض. ولهذا كان امرا طبيعيا بعد اول ليلة في الفندق ان ادفع الغطاء عني في تمام الساعة السادسة صباحا دون ان احتاج الى منبه  يوقظني، وإن كانت الاصوات الخفيفة القادمة من الكشك  كافية  لتشعرني بان الحياة بدأت تدب في الخارج ، وتذكرت بانني سوف لن يكون باستطاعتي ان امارس الهرولة لساعة من الزمن خلال الايام القليلة التي سنقضيها في بيروت كما اعتدت ان افعل يوميا في المتنزه الذي يقع قبالة بيتي في اربيل، وفكرت ان اعوّض عن ذلك بان اؤدي تمارين رياضية خفيفة داخل الغرفة، فالمهم ان لاانقطع عن ممارسة الطقس الذي سبق ان عاهدت نفسي الالتزام به بعد ان تمكنت من انقاص وزني خمسة عشر كغم واصبح خمسة وثمانين، وإنْ كانت العملية قد استغرقت وقتا طويلا جدا لم يكن يتناسب مع ما فقدته من وزن.

 

لاوقت للمزاح

ما أن هممت بمغادرة السرير حتى اثار انتباهي جلوسها ساكنة على الكرسي بالقرب من خزانة الملابس، ولم يكن يصدر عنها اي صوت، وفي الواقع ما كان لي ان اتفاجأ إذا ما وجدتها قد سبقتني في الاستيقاظ، لانني ادرك مدى حرصها على ان تؤدي صلاة الفجر قبل ان تشرق الشمس. شعرت كما لو انها كانت تفكر بامر كان يثقل عليها، او انها كانت تشكو من ألم، وربما لم تكن ترغب في ان تنتزعني من النوم حرصًا منها على ان لاتبدد الراحة التي كنت اتدثر بها بعد ان نال مني التعب بسبب مشاق السفر، لكنها ما ان شعرت باني قد استيقظت حتى بادرتني بسؤال لم يكن يخطر في بالي ابدا.

” في اي اتجاه  تتوقع ان تكون القِبلة ؟ “

لم تترك لي فرصة ان اعبر عن دهشتي وانا انظر اليها، عندما وجدتها تعيد طرح السؤال عليَّ اكثر من مرة، فما كان مني الا ان اقاطعها لاذكرها فقط بانني لا اعرف اكثر مما هي تعرف، فليس من المعقول ان تستعين بي لمعرفة اتجاه القِبلة ! 

عندها حركت راسها لتقول لي بان لاوقت للمزاح ، ومن الضروري ان اساعدها في تحديد الاتجاه.

“ومالضير اذا ما صليتِ باي اتجاه؟ فالمهم نيّة الانسان، وليس الشكليات “.

بطبيعة الحال لم يعجبها كلامي، ولانها كانت في وضع صحي لايسمح لها بالانفعال، اكتفت قائلة “ارجوك ، الموضوع لايحتمل المزاح ” .

ولاني على يقين من انها دائما ما تأخذ الامر على محمل الجد في مثل هذه الموضوعات التي تتعلق بشؤون العبادة والدين، ولن تتسامح ابدًا مع اي صيغة لا تُعلي من شأن الالتزام الجاد بها، لذا كان لابد ان اؤكد لها بانني لم اكن امزح، وان عليها تفويض امرها الى الله طالما هي في بلد غريب، واوضحت لها بأنه ليس من المعقول ان اتصل بالاستعلامات في مثل هذا الوقت لمعرفة اتجاه القِبلة، وعليها ان تتوقع بان لايكون جميع العاملين في الفندق مسلمين، فنحن في لبنان، وليس في مكان آخر من ديار المسلمين.

انذاك وجدتها كما لو انها قد اقتنعت من انني لم اكن امزح معها، وما من خيار امامها إلاَّ ان تصلي وباي اتجاه .

وقبل ان تبدأ في الصلاة اتجهت الى خزانة الملابس وبدأت تفتش فيها ولانها كانت شبه فارغة باستثناء ثيابنا التي علقنا بعضها بداخلها والقسم الاخر رتبناها على الرفوف لم تستغرق عملية البحث سوى ثوان معدودة .

 “ليس من المعقول عدم وجود سجادة في الغرفة !” كان يبدو عليها الانفعال عندما استدارتُ وخاطبتـني بهذه الجملة.

 ” لسنا في زيارة للسعودية ، نحن في لبنان ، في لبنان ياعزيزتي ،هل نسيت ذلك ؟ ” باجابتي هذه ،لم تستطع ان تمنع نفسها من ان تبتسم وتهز راسها وهي تردد مع نفسها ” لا أمل يرتجى منك ” .

ثم سَحَبَتْ من الخزانة القميص الذي كنت ارتديه اثناء الرحلة، وفرشته امامها على الارض، وبدأت في الاستعداد للصلاة. وقبل ان تبدأ التفتت ناحيتي وكانها تذكَّرت امرا ما ، فخاطبتني “وانتْ..ألا تصلي ؟  لعل الله يسهل علينا امرنا، خاصة واننا في بلد غريب ” .

ولانني لست متعنتا في هذا الموضوع، وليس لدي مشكلة في ان اصلي ،اجبتها بانني ساصلي بعدما تنتهي هي. فإذا بها ترفع يديها باتجاه سقف الغرفة بشكل مبالغ به وهي تردد ” الحمد لله ، اللهم اهدهِ يارب العالمين ” .

عندها لم اجد نفسي إلاّ وانا  اطلق ضحكة خفيفة، بينما كنت اتجه ناحية شرفة المطبخ .

“من يسمع هذا الكلام، سوف يعتقد بانني شخص بلا ايمان” .

” ومالذي سيحصل، حتى لو سمعكَ اللبنانيون كلهم ، ألسنا في لبنان  ؟  “

لم اتمالك نفسي من الضحك،وعدت ادراجي والقيت بنفسي على السرير.   بينما هي بدأت في الصلاة ورفعت من صوتها وهي تردد “الله اكبر”. وكانت بمثابة اشارة واضحة منها بان اكف عن الضحك احترامًا واجلالا لطقس التعبّد. فما كان مني الا ان اكتم ضحكتي وانهض معتدلا بجسمي، واعود من حيث اتيت متجها الى شرفة المطبخ، بعد ان جذبتني رائحة الماكولات اللبنانية التي كانت تنبعث من الكشك .

 

تشابه النهارات

عشت لحظة ترف حقيقية لدقائق معدودة، انفصلت فيها عن هجير ايامي، شعرتُ بها وهي تنهمر في كياني كله،ب ينما كنت استمتع بنسمة هواء باردة كانت تتهادى في الفضاء، مع اننا في منتصف شهر حزيران، فوجدت نفسي هائما بالفة الاشياء التي كانت تلتقطها عيناي وهي تغرق في صمت المكان. شرعت في  التقاط عدد من الصور الفوتوغرافية بكامرا هاتفي الجوال للعمارات الشاهقة التي كانت تواجهني وانا اطل عليها من خلال الشرفة، والتقطت صورًا اخرى للشارع الفرعي الذي كان يقبع فيه الفندق بعد ان لفتت انتباهي اناقة الحدائق المنزلية  للبيوت الصغيرة التي كانت تتراصف على جانبيه، ولعل الوان الزهور المتنوعة التي كانت مزروعة في سنادين تنتظم على شرفاتها الحديدية اكثر ما استوقفني في ذلك المنظر.

حاولت ان امضي بعيدا بمخيلتي، مجتازا المسافة التي كانت تفصلني عن ولدي الذي كان يغط في نوم عميق في مثل تلك الساعة، لانه اعتاد ان يسهر في ايام العطلة الصيفية الى ساعات متأخرة من الليل وهو يلهو مع اصدقائه بالعاب الكترونية عبر الانترنت، ولهذا كان  يصحو في اغلب الايام بعد الساعة الواحدة بعد الظهر. ويمكنني ان اؤكد بانني لم اكن اشعر بالسنين وهي تزحف متسللة الى خلايا جسمي الا بعد ان وجدته فجأة ينهي دراسته الاعدادية، انذاك تقوست الاشياء امامي، لانني كنت اتجاهل الزمن واحرمه متعة النيل مني، رغم الخراب الذي صادفني، خاصة بعد ان انتهيت من اداء الخدمة العسكرية مطلع تسعينات القرن الماضي بعد حرب الخليج الثانية. فبعد ان نزعت ملابسي العسكرية، ورميتها في التنور الطيني الذي اعتادت جدتي ان تخبز به، وجدت نفسي وسط فضاء عارٍ، لا سماء تستره ولاارض تحميه من السقوط ، لم يكن يشبه ما كنت قد حلمت به قبل دخولي كلية الفنون الجميلة، كل شيء وجدته يتبخر من حولي بشكل متسارع، وبدأت النهارات تتشابه مع عتمة الطريق الذي كانت تمضي اليه البلاد، وتراكمت السنين على كتفيّ مثل الاتربة، وما من شيء كان يربطها الى بعضها الا حكايات لايمس الموج اقدام ابطالها ولا الحمام يميل بهديله اليها ولاضوء القمر ينهمر على نوافذها. كانت حكايات لاتصلح لكي يغفو الاطفال على وقع كلماتها، ومع ذلك لم تشتبه عليَّ الحياة، وظل الزمن يقفز خارج تقويمي الشخصي، الاَّ بعد ان إرتأى  ابني البقاء في البيت، وفَضَّلَ عدم مرافقتنا الى بيروت، وكانت تلك اشارة على انه قد اصبح قادرا على التحليق والطيران لوحده، ولم اعد استطيع  اللحاق به ، وعلي ان استعد لمواجهة صورتي في مرآة الزمن والاقتناع بالاخاديد التي حفرها على ملامحي .

شعرت بالحاجة الى ان اسمع صوته بينما كانت امه ترتب الاغطية على السريرقبل ان تستعد لتبديل ثيابها، لان موعد الذهاب الى مستشفى الجامعة الاميركية لم يحن بعد، فالساعة مازالت تشير الى الثامنة صباحا، اي اننا امامنا ساعة من الزمن، ولكني تراجعت عن فكرة الاتصال به بعد ان تذكرت بانه مايزال نائما. فاستثمرت الوقت المتبقي وغادرت الغرفة لكي اشتري فطورا صباحيا من الكشك الذي يقع مقابل الفندق، مع انها ما كانت تريد ان تفطر، لان ذاك اليوم صادف الاول من شهر رمضان، لكني ارغمتها على ان لاتصوم ، لان حالتها الصحية قد تتدهور اذا ما اصرت على رأيها  .

لم اكن خائفا على ولدي بعد ان تركناه لوحده  في البيت ، لان المنطقة التي نسكن فيها في اربيل كانت تجاور مبنىً حكوميا، لذا كان الحي يخضع لمراقبة دائمة عبر الكامرات، ولزيادة الاطمئنان عليه اتصلت عبر الهاتف باثنين من اصدقائي، اكرم اسوفي ومحمد خيّون، واخبرت كل واحد منهما بموضوع سفرنا، وطلبت منهما ان يبقيا على اتصال دائم به اثناء فترة غيابنا، تلافيا لاي مفاجاءات قد تحدث، ولربما قد يحتاج الى مساعدة بامر ما.

بعد ان اتهينا من تناول الفطور كانت الساعة تشير الى التاسعة صباحا، طلبت منها ان تتأكد من كل البيانات الخاصة بحالتها المرضية قبل ان نتوجه الى المستشفى .

يتبع ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى