إعادة الذاكرة لتراحيل الأرمن
بقلم: زياد جيوسي | عَمَّان
تراحيل الأرمن رواية كتبتها الروائية والقاصة الفلسطينية ميسون الأسدي من سكان مدينة حيفا، وقد سعدت أن اقدم تقديم مختصر للرواية التي قدم لها معي اربعة كتاب آخرين اضافة لتوطئة الكاتبة، ومن بداية الرواية وعنوانها ومن خلال الاهداء يتضح تماما أن الكاتبة أرادت الحديث عن مأساة الأرمن في قولها مخاطبة أرمنية مجهولة: (سلامُ إليك أيتُها الأرمنيةُ الأولى، التي دَخَلَتْ وَخَرَجَتْ من حياتي بعد طرقةِ بابٍ خافتةٍ، حاولتُ أن أجعلها مدوّيةً في كتابي هَذَا..)، بينما تميزت لوحة الغلاف بمشهد لبيت تراثي قديم على شاطئ البحر والنوارس تحلق في الفضاء مهاجرة بما يتناسب مع فكرة الرواية، وفي حديثها على لسان عبلة الراوية الأساسية للرواية وهي عربية فلسطينية لجارها جارو الأرمني قالت: (أنا أرمنية أكثر منك يا جارو)، لتنقلنا الكاتبة بعد ذلك في فصول الرواية، حيث المسرح الأول للرواية مدينة حيفا في فلسطين المحتلة عام 1948، وهذه اشارة لمحاولة ربط بين نكبة الأرمن ونكبة الفلسطينيين، فالشعبان تعرضا للمجازر والتهجير، وتقول على لسان يورغو في اشارة واضحة لهذا الربط: (نحن الأرمن في إسرائيل نشبه فلسطينيي البلاد، مرفوضون من قبل الدولة العبرية، ولنا نفس المعاناة ونفس النكبة. بالأحرى كل من هو غير يهودي ذاق المر في هذه الدولة، حتّى اليونانيون والسريان الذين سكنوا البلاد دفعوا الثمن، لم يجدوا عملًا ومعظمهم سافر إلى كندا. فحالتنا لا تسر عدوًا ولا صديقاً).
وبطل الرواية الأرمني وهو الشخصية الرئيسة في الرواية (جايزاك) ومعناها البرق في اللغة العربية، والذي يظهر ويختفي بسرعة البرق فيتشابه مع اسمه إلا في مواعيد زياراته، حيث غالبا ما تكون في أوقات الطقس الجيد والمعتدل بعكس البرق في الشتاء، وهو يتواجد في حيفا والعرب هم اصدقاؤه الوحيدون من سكان البناية التي يسكنها، بينما هو مقيم في النرويج وعائلته وأقرباؤه في حيفا، وهو بطبيعته (لا يؤمن بجميع الطقوس الدينية، ويمارسها فقط للحفاظ على ترابط أبناء شعبه)، وهو الراوي الأساسي في رواية حكايات الأرمن وباقي الشخصيات الواردة في الرواية تأتي من خلاله، فوالدته وخالته وأخته وأخواته وبعض من اصدقاؤه هم شخصيات الرواية التي تروي حكاية كل فرد منهم، وبالتالي حكاية الأرمن خلال وجودهم في بلادهم وما تعرضوا له من مذابح واضطهاد، وحكاياتهم في فلسطين حين وصلوا اليها وكيف تعرضوا مجددا لاضطهاد العصابات الصهيونية قبل عام النكبة وخلال النكبة مثلهم مثل أهل فلسطين، فهجروا من بلادهم الأصلية، وتعرضوا للتهجير في البلاد التي شعروا بها بالراحة والأمان حين وصلوها مع الفلسطينيين.
جايزاك يروي حكاية الأرمن بناء على ما وصله من ذاكرة أهله وأجداده، ويروي مسيرته منذ الطفولة حتى المشيب وتمرده طفلا وروح الاستقلالية التي يمتلكها، والتعب والجهد الذي بذله في العمل المتنوع من عامل في الميناء حتى غربته للنرويج وعمله في جلي الصحون حتى اصبح ملاكا لمطعم، وأصبح ايضا قارئا ممتازا ومثقفا وثريا، ويتحدث عن تجربة الأرمن في الغربة وتكاثفهم مع بعضهم وحرصهم على اللقاءات واحياء المناسبات، وهو منتم جدا الى قوميته الأرمنية ويعمل دوما على تقديم كل ما يمكن تقديمه من مساعدات لبني شعبه، ولكنه ليس معادٍ لكل الأتراك ولا يعتبر انهم جميعا مسؤولون عن مذابح الأرمن في تركيا، وحقق حلم حياته بزيارته لأرمينيا وارتبط بها أكثر، ويروي جايزاك باستمرار الاضطهاد والمعاناة التي تعرض لها الأرمن في فلسطين من قبل دولة الصهاينة التي قامت بعد احتلال فلسطين عام 1948، وهو يتألم للتغيير على طبيعة ونفوس ولغة الأرمن في فلسطين.
عبلة الجارة وصديقة مقربة لجايزاك هي الراوي للحكاية، وهي الشخصية الرئيسة الثانية في الرواية، وكونها غير أرمنية فهي توثق الأحداث وتشرح عنها، وتروي حكايتها مع الأرمن، وتنقل للقارئ حكايات كل الشخصيات في الرواية، فمنها شخصيات تفاوتت بدورها في الرواية، فكانت هناك شخصيات ثانوية رئيسة، وشخصيات ثانوية فرعية، لكن كل شخصية كان لها مكانتها في السرد الروائي، وحكايات هذه الشخصيات تمثل البناء السردي الروائي، ويصل دور عبلة في الرواية إلى درجة أنها تكاد تنصهر في شخصية جايزاك، ولو كانت شخصية عبلة أرمنية وليست عربية، لكانت هي الشخصية الرئيسة الأولى في الرواية، بينما نجد أن شخصية جايزاك الأرمني جعلته شخص رئيس في الرواية كأرمني الهوية والانتماء، ومن خلاله تتدفق الحكايات للشخصيات الأخرى بحكم ارتباطها فيه
من الشخصيات الثانوية الأساسية في الرواية ماجد زوج عبلة وهم أصدقاء جايزاك، ودور ماجد أنه يسجل الحكايات التي تروى لصالح زوجته عبلة، فهو الموثق الأساس بالصوت والصورة لكل ما يروى من أحداث، وخاصة أن الحكايات تتم روايتها من خلال استعادة الذاكرة وحكايات الأرمن التي يرويها جايزك لعبلة، ومنها حكاية جده سيمون وولده مارجوس، وهذا الجد أصبح قاسيا جدا من خلال ما تعرض له من قسوة على يد الأتراك، (وقالت عنه العائلة والجيران: ظلمته تركيا فبات ظالمًا!) حتى ان مارجوس أصيب بمس جنون من قسوة والده من جهة واكتمل جنونه على يد السجانين في دير القمر في لبنان، وميرانوش زوجة سيمون وتصغره بـ 20 عاما، والتي كانت تتعرض للضرب والقسوة من زوجها.
ومن الشخصيات الثانوية الأخرى (جايجيا) وهي خالة جايزاك، مسروب صديق جايزاك، وهما كانا يتحدثان عن عادات الأرمن وطقوسهم، وجايجيا روت لعبلة حكايتها واضطهادها من والدها سيمون، وتتحدث عن سلوك زوجها آرام المقامر والبخيل، وتتحدث عن أطفالها وصفاتهم بين مشاكس وهادئ وبخيل كما والده، جارو وهو من رجال الكنيسة وإن لم يكن ملتزما بطقوس عدم أكل العنب قبل المباركة ويأكل الهريسة الأرمنية أيضا قبل وبعد المباركة، وكوهر الساكنة تحت الكنيسة وهايج صديق جايزاك أيضا، وهو يهتم بالمحافظة على هذه الطقوس من زاوية بقاء الأواصر قوية بين الأرمن وللحفاظ على تراثهم كما لغتهم، كذلك جولونيا وهي والدة جايزاك وهي أساس تعرف عبلة راوية الحكاية على جايزاك والأرمن وثقافتهم وحكايتهم، وتروي حكايتها لتضاف لمجموعة الحكايات التي يرويها أشخاص الرواية.
فارتكيس شخصية مهمة في الرواية، فهو شقيق جايزاك الأكبر وله حكايات مختلفة في حياته ومعيشته ولعب دورا مهما في حياة جايزاك، وهو مناصر للقضية الفلسطينية، وفي لأسرته ووالدته، وكان بحارا ويدرك تعب البحارة وعذاباتهم فرفض هذه المهنة لجايزاك، وقد أصيب بمرض الزهايمر مبكرا وربما بسبب حبه لزوجته التي رحلت مبكرا بسبب مرض السرطان، بينما نجد شخصية أخرى مختلفة وهي فاسكين وهو اكبر من جايزاك بعامين، وولد مصابا مع مرض “متلازمة داون”، وهناك شخصيات ثانوية أخرى في الرواية من أصدقاء جايزاك ومنهم عرب وغير عرب ومن فلسطين، وكل منهم كان له دوره في حياة وحكايات جايزاك فتفيد القارئ بالتعرف على شخصيته وحياته، ومنها زوجته الأولى “ليسا” الدنماركية، وزوجته الثانية “أونيي” النرويجية، والثالثة “مالاريكا” الأرمنية اللبنانية، والتي كانت التجربة الأسوء في تجارب زواجه الثلاث.
هايج من شخصيات الرواية الثانوية فهو صديق جايزاك منذ الطفولة، ومتبرع دائم للأرمن في حيفا وفي أرمينيا ايضا بحكم ثراءه، وكذلك كريستيان الفرنسي الذي كان في طفولته في حيفا وبقي صديق مقرب من جايزاك، وكذلك “فاهي” الأرمنيّ الأب ومن أم فلسطينية عربية، و”فاهي وجايزاك نماذج أرمنية بشرية طيبة، يجمعهما الحب والايثار، شخصيات إنسانية ساطعة، ونماذج لبسطاء الناس ومعوزيهم” كما تتحدث عنهم الراوية عبلة، وهناك شخصية مسروب العنيد جدا والمقامر، وهناك شخصية جارو الأرمني وهو مهني جيد ويعد من رجال الدين في الكنيسة الأرمنية، لكنه يسيء للكل ولا يترك احدا من الاستهزاء به والاساءة اليه حتى الخوري، وهو ليس على علاقة طيبة مع جايزاك ويقول جايزاك عنه: “أرى أن جارو سخيف، يستغيب الناس، كل الناس، ويضحك من كل شخص ويهزأ بهم، ومع كل هذا هو رجل دين ويمثل الكنيسة!!.. إن الحقيقة العارية لـﭼارو مساعد الخوري في الكنيسة، هي أنّ إلهه ودينه الذي يعبده هو القرش لا غير، ولا يستيقظ ضميره ولو في الظلام!!”، وجارو هذا ينتقد اليهود من زاوية أنهم يرفضون الأرمن لأنهم ليسوا من اتباع اليهودية، وينتقد العرب انهم عنصريون مع بعضهم ويفضلون منح أي عمل لعربي وليس للأرمن.. إضافة لشخصيات ثانوية أخرى.
لم تخل الرواية من النقد المجتمعي والاشارات الوطنية، فهي اشارت لمؤسسة مهمتها العناية بالمتخلفين عقليا “فهؤلاء لا يستيقظ ضميرهم ولو في الظلام”، وحين اختفى فاسكين المريض من المؤسسة لم تكلف الشرطة نفسها بالبحث عنه، حتى وجد ميتا وقد انتنت جثته في حفرة وقع بها بجوار المصحة، وهذه اشارة لما تقوم به حكومة العدو من تفرقة عنصرية بين المواطنين حسب اصولهم وديانتهم، بينما استريد شقيقة جايزاك تعلمت ودرست وتزوجت من هندي مخالفة تقاليد العائلة والأرمن، بينما جايزاك اعتبر الموضوع اعتيادي طالما هذا خيارها بغض النظر انه ليس من ذوي اللون الأبيض وليس ارمنيا، واشار جايزاك بألم أنهم تعلموا أن اللغة الأرمنية اساس في حياتهم، لكن هناك جيل جديد يتكلمون العبرية ولا يتكلمون حتى مع العرب بالعربية ولا يجيدون الأرمنية، كما تحدثت الرواية عما تعرض اليه الأرمن كما العرب من اضطهاد اسرائيلي، فقد اشارت الرواية لمذبحة بلدة بريك التي أصيب فيها اربعون شخصا ما بين شهيد وجريح، وهي قرية كان يسكنها نسبة من الأرمن وهاجمتها عصابات البالماخ الصهيونية عام 1948.
الحديث عن تاريخ الأرمن في بعض أقسام الرواية كما توضيح مفهوم أهل الذمة ابتعد عن السرد الروائي، وأخذ طابع الحديث البحثي التاريخي، حيث ان الحديث كان على لسان الراوية ولو أخذ صياغة سرد روائي على لسان أحد شخوص الرواية لكان أقوى وأفضل، كما حين تحدث جايزاك عن تاريخ الأرمن وأسرته ووصول جده الى حيفا، وربما اضطرت الكاتبة لذلك لتوضيح بعض من تاريخ الأرمن والمذبحة التي تعرضوا اليها، علما أن هذه المذبحة تروى على لسان الأرمن والأوربيين، وفي المقابل هناك رواية تركية مخالفة، فالرواية التركية ترفض مقتل هذا العدد من الأرمن (مليون ونصف)، وتدعي أن ما قام به الأتـراك اجراء وقائي أمام هجمات تنظيمات مدعومة من الغرب ضد الأتراك لإضعاف تركيا خلال الحرب، وأنا كقارئ ومتابع أجد وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة الرواية التركية، فلا يجوز ابدا التعرض لشعب بأكمله لمعاقبة مجموعات منه.
التشابه الذي سعت اليه الكاتبة في الرواية بين مأساة الأرمن ومأساة الفلسطينيون دقيق من حيث يعض الجوانب، فالصهيونية تريد أرضا فارغة الا من اليهود، فلم تستثني احدا من القتل والتهجير والإجرام، لكن نظرة عامة للأرمن فلديهم دولة تخصهم “أرمينيا”، فلماذا لم تكن تشكل هدفا للعودة اليها كما هدف الفلسطينيون بالعودة إلى فلسطين؟ علما أن الأثرياء منهم يفكرون بمساعدة شعبهم وخاصة حين حصول أحداث كما الزلزال، لكن لم يكن مفهوم العودة للوطن هدفا أساسيا عندهم كما نلمس عند شخصيات الرواية.
ومن المهم الإشارة أن كل ما نراه من أحداث الرواية هو عبارة عن الحكايات التي رويت من أبطال الرواية في يوم تقديس العنب، وتبدأ الحكايات من كنيسة الأرمن وتنتهي مع نهاية السهرة في نادي الأرمن في حيفا، حيث بمجرد انتهاء الاحتفالات يسافر جايزاك كعادته، فهل سنصل الى خاتمة الرواية التي انتهت حكاياتها بانتهاء السهرة وسفر جايزاك، فهل ستكون هناك حكايات أخرى ان عاد البطل الرئيس في الرواية مرة أخرى إلى حيفا؟ لذا اترك الحديث عن الخاتمة للقارئ ليستخلص ما يراه.. لكني أشير في النهاية أن الكاتبة ميسون الأسدي ابدعت رواية من حكايات بدأت تنقرض من ذاكرة الجيل الجديد من الأرمن، ومعظمها حكايات تاريخ شفوي سمعتها من عدد من اصدقائها الأرمن، وأعادتها بأسلوب روائي يشد القارئ من البداية إلى النهاية، وبذلت مجهودا كبيرا في جمع وترجمة وايراد مجموعة من القصائد الشعرية الأرمنية في أكثر من فصل من فصول الرواية، وهي قصائد قائمة على الحديث عن المذابح التي تعرضوا اليها وعن الحنين لأرمينيا، في الوقت الذي نجد كما اشرت سابقا أن الحنين لفظي وليس عملي.
ليست المرة الأولى التي تحلق فيها روحي مع إبداعات الكاتبة ميسون الأسدي، فكلما صدر لها مجموعة قصصية أو رواية أو حتى قصص أطفال، أكون مبادرا لسرعة القراءة والتحليق بما تبوح به روحها، وفي هذه الرواية وحين وصلتني الكترونيا لفت نظري العنوان فورا، وما أن بدأت بالقراءة حتى همست لنفسي: سامحك الله يا ميسون فقد أعدتِ لي شلال من الذاكرة بمرحلة بداية السبعينات من القرن الماضي، حين كنت طالبا في المراحل الاعدادية الثانوية وكنت أسكن وأسرتي في جبل الأشرفية في عمّان عاصمة الأردن، وسكنا أطراف حي الأرمن مرة وفي قلب الحي مرة ثانية، ودرست في مدرستين احداهما في أعلى الحي والثانية في أوسطه، مع ما تحمله تلك الفترة من بدايات الشباب المبكر وذكريات حلوة لحي متميز وراقٍ في المدينة.
“عمَّان 21/1/2021”