أهمية الكتابة من خلف الجدران
الأسير حسام زهدي شاهين | فلسطين
ما إن يقع المناضل في الأسر حتى ينزع إلى خلق واقع جديد ملموس، يعوضه عن فقدانه ويقربه إلى حد ما من الحياة التي انتزعت منه عنوه، في هذه الأثناء تتحول الكتابة إلى رغبة عامة في خُلد الأسرى كافة مع بداية اعتقالهم، إلا أن هذه الإرهاصات سرعان ما يخبو لهيبها بمجرد اصطدام الرغبة بالقدرات الذاتية التي تنحى بها منحى الإبداع الفردي، الإبداع الذي يعبر عن المجموع الاعتقالي باجتراح الكتابة كوسيلة بديلة لإشباع الحاجات المعنوية للأسير بما يتراءى له من تصورات حول المستقبل المثالي الذي يصبو اليه.
فالأفكار التي يستلهمها الأسير من واقعه الجديد تستند على معطيات ضمنية لعملية التكوين الحسي التي تتطور تدريجياً في تنمية قدرته على إدراك قيم جديدة، لم تكن ملموسه بالنسبة إليه في عالم الحرية رغم مثولها شاخصة أمام عينيه، لأن فقدان الحرية يؤنبك ضميرياً، في الوقت الذي ينبهك ويعلمك فيه قيم الأشياء الصغيرة لم تكن لتدركها في معمعان الحياة وأنت حر!!
هنا شق البعض منا طريقه في عالم الكتابة، لإبراز هذا الجانب المظلم من حياة الأسرى بمعنيين: أنسنة التجربة الإعتقالية من ناحية، وهذا بالضبط ما دفعني إلى كتابة “رسائل إلى قمر”، ومن ناحية ثانية نقل التجربة بصورة مجردة إلى الخارج وإظهارها على حقيقتها بالقدر الذي يشكل فيه الافصاح نقطة توازن بين الخطأ والصواب بما يعزز عمليتي النقد والبناء في ذات اللحظة.
فتسليط الضوء على التشابهات والتمايزات بين واقعي الأسر والحرية، من المفترض فيها أن تعين الفاعلين في حركات التحرر الوطني على وجه العموم إلى الإنتباه لشروط النجاح والفشل، التي كان بإمكانهم إكتشافها لو أنهم روضوا أنفسهم وأمعنوا النظر متنحين قليلاً عن الامتيازات الشخصية التي تمثل بداية التداعيات في انهيار العلاقة بين القيادات السياسية وبين الجماهير، مما يؤدي إلى وصول بهيج الثورة وانطفاء بهجتها!
وعليه، نجد أنفسنا واقفين أمام معضلة الفوضى والعشوائية، باعتبارهما العدو الأول لروح الأسير، والكفيلان بتحطيم إرادته إذا لم ينبذهما من حياته، لذلك لجأت الحركة الفلسطينية الأسيرة منذ البدايات بمختلف ألوان طيفها السياسي إلى التنظيم، باعتباره الوسيلة الأنجع لحماية تماسكها من خطر الإحتلال الذي يستهدف الإرادة الفردية على وجه الخصوص، ويسعى إلى تفسيخ التضامن الجماعي على وجه العموم.
وفي هذه المعركة المحمومة يأخذ الزمن بعداً مختلفاً من حيث الوحدات الزمنية المتعارف عليها، فتتكاتف وحداته في أعمار الأسرى إلى شهور وسنوات، وتتحول الكتابة إلى أداة مهمة من أدوات بناء الحصانة الفكرية، والأمنية، والأخلاقية، والوطنية وغيرها، وتسهم في صقل شخصية المناضل بغرس الوعي والمعرفة في عقول ووجدان الأسرى عبر الجلسات الفكرية التعبوية التي يشاركون فيها من خلال إنخراطهم الإلزامي بآلية منتظمة، كجزء أساسي من عملية تنظيم وحماية الحياة الاعتقالية التي سبق الإشارة اليها.
فالكتابة داخل السجون بعيداً عما يتم نشره في الخارج في عملية مستمرة ومتواصلة، وتشكل الطباق الصوري الذي يجعلها نوعاً من التعبير الاستعاري عن الكفاح كأرقى اشكال النضال والمقاومة، فالكفاح الكتابي بين الجدران هو الرديف العملي للكفاح والمقاومة خارجها!! نعم إلى هذا الحد تبلغ أهمية الكتابة، خاصة إذا تعمقنا في إستعراض وسائل المقاومة ودراستها بصورة مجردة بين نفقين متوازيين غير متساويين من حيث النتائج والأهداف، لكنهما يتساويان في حماية الإرادة الوطنية من الإنهيار، وفي استنهاض الروح المعنوية للأسرى والجماهير على حد سواء، وهكذا تتدرج الكتابة بالمعنى التعبوي المعرفي إلى مستوى أرقى اشكال المقاومة في الصراع الدائر خلف القضبان؟!
إن هذا التشخيص المبسط لمعطيات أدب السجون، يوضح كيفية تحول الرابط الكتابي إلى قناة إتصال وتواصل مع الخارج، ويكشف على وجه الدقة إلى أنه يمثل شريان حياة، يتلمس طريقه الوعره باتجاه الحب والوفاء والرعاية والانتماء الصادق اللاتي تمنح الأسير القدرة على التحدي وتمكنه من الصمود في المكان الأشرس استهدافاً لكينونته ومحتواه الثوري والإنساني كمقاتل من أجل الحرية!! وبما ان الأسير يعيش في وسط عالم مغلق، لا بد له من التدبر دائماً بما يتوفر لديه من أدوات ومواد محدودة، يقع على عاتقه عبء تجميعها وحمايتها، لأنها متناثره بحكم الواقع وسرية بحكم الاستهداف المستمر لها، والتي يلاحقها بذريعة الأمن على خلفية أنها مواد تحريضية مكتوبة، فعندما تصبح الكتابة تهديداً لأمن الاحتلال يتحول استخدامها إلى سلاح، والحفاظ على المادة المكتوبة إلى واجب وطني، وحماية العقل المنتج لها إلى استراتيجية كفاحية، مما يؤكد أن الفكر لا يمكن أن يتحول إلى سجين حتى وإن تم تكبيل جسد صاحبه بكل القيود البشعة التي انتجتها العقلية الاستعمارية عبر التاريخ، وقد ثبت عبر التجربة بأن اعتقال الجسد يمنح الفكر حرية أوسع بكثير من حرية الفكر التي يتمتع بها الانسان الحر في المجتمعات والدول غير الديمقراطية اذا ما أخذنا بنسبية المعادلة وفق ميزان الربح والخسارة بعيداً عن الإلتصاق بالمطلق الهدام.
إن الإنتاج المعرفي لأي أسير بغض النظر عن الجنس الأدبي لهذا الانتاج يعد انتصاراً فعلياً على السجان في ذات اللحظة التي يُبعث فيها ككتاب تتداوله أيد القراء، ولا أبالغ إذا ما اعتبرت شخصيا أن “رسائل إلى قمر” وغيرها من محاولات إنتاجي الأدبي والفكري بمثابة الجزء الحي مني، الذي تسلل إلى الحرية رغماً عن أنف السجان، فشكراً للكتاب الذي تمكن من حسم المواجهة في معادلة الصراع لصالح الجهة المستضعفة فيزيائياً، والأقوى روحياً وفكرياً، وقبلة لكل الأيادي التي احتضنته، والعيون التي تصفحته بمحبة وحنان، فبالمحبة يقوى الأسير وينتصر، وفي الخذلان يضعف وينكسر.