سدنة أبواب السماء

د. خضر محجز | فلسطين

 

هذه المادة واقعة في سياق متصل من حوار متواصل قبل سنوات مع الصديق المبدع أحمد حسين من المثلث.

إلى العزيز أحمد حسين،

أتفق معك على أنه لا يمكن طرح أسئلة مجدية، داخل مشهد ثقافي يستند إلى ثقافة غيبية شاملة: لأن شمولية الغيبية تنفي السؤال الفكري من أساسه ـ تحت طائلة الإرهاب الفكري، وسيف التكفير ـ وتُحيل إلى مرجعية قارّة، لا تحتمل المراجعة؛ ناهيك عن الاختلاف.

وإذا كانت التجربة التاريخية العربية ـ منذ معاوية حتى الآن ـ تستند إلى مثل هذه المرجعيات، بل وتؤسس لها، ابتداءً من اختراع مذهب أهل السنة والجماعة، إلا أن ذلك لا يعني، بالضرورة، إحالة أسباب هذا الانغلاق إلى الإسلام نفسه، كما حلا لبعض المتسرعين هنا في غزة، جراء اعتداء بعض الممارسين للتدين السياسي، على الجماهير ومركز الشرطة في، أحداث مخيم الشاطئ، إلى الحد الذي دفع أحدهم في لحظة عصبية إلى القول: “نحن منذ الآن لا نريد الإسلام كله، فلولاه لما رأينا هذه الأعمال الحمقاء تتلوها هذه الأيمان الكاذبة المغلظة”. فالإسلام شيء، والتجربة المنسوبة إليه شيء آخر.

وإذا كان تعبير (التجربة الهجرية) الذي تستخدمه في مقالاتك الجميلة، يحيل إلى مجمل النشاط الثقافي والسياسي العربي، طوال تلك الفترة التي سُميت (إسلامية)، فإنني أستطيع الاتفاق معك هنا كذلك، دون أن يمس هذا بتديني الذي أعتز به؛ لأنني من تلك القلة التي تعتقد بأن الإسلام لم تتم ترجمته إلى واقع سياسي ثقافي حقيقي ـ موضوعي ـ إلا في عصر الرسول (صلى الله عليه وسلم) ثم في عصر صاحبيه أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما)، فقط. وكل ما جاء بعد ذلك إنما هو مجرد تاريخ ـ بالمعنى الثقافي ـ أي تجربة تتأثر بكل علاقات الإنتاج الدنيوية. أقول هذا وأنا أعلم أن مثل هذا الكلام يغضب عدداً كبيراً من مقدّسي اللامقدس: التجربة الزمنية في تلك العصور السابقة.

لكنن أجدني ما زلت مصراً على أن أغلب ما فعله الخلفاء والسلاطين والعلماء ـ من ضمنهم الأئمة الأربعة ـ بعد ذلك، كان محكوماً بسلطة التاريخ، قبل سلطة الغيب، وبسلطة القوة قبل سلطة المعرفة الدينية. وإن موافقة من جاؤوا بعدهم، على اعتبار كل ما مضى، في تلك العصور، إسلاماً من عند الله، كان هو الفاعل الأول في تأسيس سلطة الغيبيات، التي ليست في الحقيقة من الغيبيات. ولنضرب مثلاً لذلك بما جرى، تاريخياً، من تأسيس لسلطة الحاكم المطلق ودولته الثيوقراطية:

لقد قرر الإسلام عدة مبادئ تحكم العلاقات بين الحاكم والمجتمع والأفراد، وحدود كل منهم، من أهمها ما يلي:

1ـ كفالة حرية الفرد في القول والعمل والاعتقاد. (لا إكراه في الدين. قد تبين الرشد من الغي. قرآن كريم).

2ـ المساواة بين الأفراد على أساس مبدأ المواطنة، لا الدين. (لهم ما لنا وعليهم ما علينا. علي بن أبي طالب).

3ـ حق المشاركة في اختيار الحاكم ومحاسبته، مما يعني ابتداءً حقَ الخروج (التمرد) على الحاكم، عند تحقق الانحراف. (إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. أبو بكر الصديق.).

فماذا حدث بعد قليل، في التجربة التاريخية التي تسميها (هجرية)؟!.

لقد استبد الحاكم، معلنا انقلابه على المبادئ الأولى التي جاءت به ـ على طريقة الإسلاميين الجزائريين، عندما أعلنوا بعد انتصارهم في المرحلة الأولى من الانتخابات: (لا ديموقراطية بعد اليوم)(1) ـ معلناً أنه لا يستمد سلطته (المطلقة) من الشعب، بل من (الله) مباشرة. وصمت بعض العلماء، ووافق أكثرهم، وانبرى الشعراء والخطباء ـ مثقفو تلك الحقبة ـ ليطلقوا أبواق الإعلام الكبرى، تمجيداً لهذا القرار وتحذيراً من مخالفته، حتى وُصفت الكلمة القصيرة التي ألقاها أحدهم بأنها أبلغ الخطب. وهذا هو نصها وسياقها:

“اجتمع الناس عند معاوية. وقام الخطباء لبيعة يزيد. وأظهر قوم الكراهة. فقام رجل من الخطباء من عذرة، يقال له يزيد بن المقنع، فاخترط من سيفه شبراً، ثم قال: أمير المؤمنين هذا ـ وأشار إلى معاوية ـ ثم قال: فإن يهلك، فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ثم قال: فمن أبى، فهذا ـ وأشار إلى سيفه ـ فقال له معاوية: أنت سيد الخطباء”(2).

سيقول قائل: وما دخل العلماء، ولماذا زججت بهم في هذا الخضم المضطرب؟. فأقول: بل لهم دخل كبير، فقد كان باستطاعتهم قيادة الجماهير والاستشهاد، في سبيل المحافظة على نقاء المبدأ. لكنه اختاروا مشاركة الحاكم والتنظير لتجاوزاته الدستورية. وإن مراجعة سريعة للخطبة البليغة، التي ألقاها الإمام الشافعي، جاثياً بين قدمي هارون الرشيد، تؤكد ما ذهبنا إليه (مقدمة كتاب الأم للإمام الشافعي)(3) وسواء كانت هذه الحادثة صحيحة أو مختلقة، فإن مدلولها واضح ومؤسس، لأن تلاميذ الشافعي ومريديه هم من يروونها ويفتخرون بمضمونها، كأن التصاغر أمام الحاكم ومعاملته كإله للرعب، يملك قطع الأعناق لأتفه الأسباب، أو استناداً إلى الوشايات الكاذبة، أمرٌ بالإمكان التفاخر به واتخاذه قدوة ومثالاً للسلوك السليم، أمام (ظل الله). فكيف سيكون شكل الافتخار حين تصدق الوشاية، ويكون المتهم مدانا بمخالفة الحاكم؟!.

لقد أسس كل هذا لسوابق تاريخية، اعتبرها منغلقو التدين نصوصاً لها قداسة الحديث الصحيح، فسقط حق الفرد في الاختيار والمحاسبة والخروج ـ بل اعتُبر كل مخالفٍ (خارجياً) مارقاً من الدين مروق السهم من الرمية ـ واستأثر الحاكم لا بالسلطة فحسب، بل بالمال كذلك، وتصرف في خزينة الدولة (بيت المال) كإقطاعية خاصة منحها له الله، إلى حد وقوف الخليفة المنصور يوما ليخطب في الجماهير ويقول:

“أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه: أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وتأييده وتبصيره، وخازنه على فيئه، أعمل فيه بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، قد جعلني عليه قفلاً: إذا شاء أن يفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم، فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليها أقفلني. فارغبوا إلى الله واسألوه، في هذا اليوم الشريف… أن يوفقني للصواب والرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم”(4).

ولا شك أن المنصور لم يقل ما قال إلا بعد أن ملأ يده من العلماء والأئمة، وحصل على وموافقتهم، مقابل منحهم بعض المكاسب الاقتصادية والاجتماعية البسيطة.

وهؤلاء يا عزيزي هم من كتب لنا كتب التاريخ، وهم من أضفى على التجربة (الهجرية) قداسة لا تستحقها. ونظرة سريعة منك إلى الألقاب التي يحملونها، وتبرز أمام أسمائهم المطبوعة على أغلفة الكتب الصفراء، تعطيك الدليل: فمن قاضي القضاة، إلى إمام الحرمين، إلى المفسر القرشي (وطبعا هذا المفسر القرشي سيفسر كتاب الله ككتاب أُنزل لحماية وقفيات قبيلته)، إلى حجة الإسلام… وإياك أن تظن بأن هذه مجرد ألقاب تشريفية (على أهمية ذلك) بل هي مناصب حكومية تتيح لهم الحياة الآمنة الرغدة، ثمرة هذا التحالف الحرام مع الحاكم، مما أتاح لهم النظر إلى باقي الناس باعتبارهم: (دهماء ـ غوغاء ـ عامة ـ سوقة ـ رعاع ـ سفلة…) ونحن لا نزال، إلى اليوم، نسمع كثيراً من المنتسبين إلى الدين، يستخدمون هذه الأوصاف الشائنة، في وصف المواطن، الذي يبني لهم المساجد، ويجلس يوم الجمعة يسمعهم يقصون عليه ما لا يعرفون، حتى إذا ضاق صدره بسخافاتهم، استعصم بالصمت، تخوفاً من مقاطعتهم، حتى لا يناله جزاء ضياع الثواب. وهم صادرون في أغاليطهم، كببغاوات لا تجد من يغلق لها أفواهها.

لقد تقادم الزمن على هؤلاء (العلماء) ـ وتقادمُ شيءٍ في الثقافة (الهجرية)، يعطيه قداسة ويمنحه حقاً مكتسباً على الطريقة العثمانية ـ بحيث لم يعودوا يقنعون إلا بالحكم، الذي يمنحهم سلطة مطلقة. وليت شعري، ما نوع القوانين التي سيطبقها عليّ شخص ـ رأس الجامعة الإسلامية ذات مرة، ويحمل شهادة الدكتوراه في الحديث ـ وأين حدودها، وأين حدوده، وهو يقول أمام كل الناس، ذات خطبة ميمونة: “الحمد لله الذي جعلنا سدنة أبواب السماء”!. وكيف سأناقش سادن باب السماء ثم لا أكفر، وأنا مجرد واحد من هؤلاء الدهماء، السفلة، الغوغاء، العامة، السوقة، الرعاع!؟.. الحمد لله أن لم يطأني بقدمه في الطريق ثم لم يلتفت!.

كل هذا يحدث. ومثل هذا حدث. لكن ـ من ناحية أخرى ـ أظن أنك سوف تتفق معي ـ رغم كل ما مضى ـ على أن الإسلام هو الذي صاغ الأمة العربية، وطبعها بطابعه؛ بله أوجدها ابتداءً: فنحن لا نعرف شيئاً اسمه الأمة العربية قبل الإسلام؛ اللهم إلا إذا اعتبرت أعراب الجزيرة، الذين خدموا الممالك المأجورة في الشرق والغرب، هم الأمة العربية، أو إذا اعتبرت الكنعانيين والفلسطينيين والأشوريين والفينيقيين والكلدانيين أمة عربية، رغم أنهم لم يتحدثوا اللغة العربية ولم يكتبوا بها. ومعلوم يا عزيزي أن اللغة هي أهم مقومات الأمة، لأن أي كيان حضاري ثقافي لن يكون له وجود خارج اللغة، وبالتالي فإن أي وجود إنساني يتحدث لغة غير اللغة العربية لا يمكن اعتباره وجوداً عربياً، وقد يمكن اعتباره ـ في أفضل الاحتمالات ـ أحد مكونات هذه الأمة التي ستتشكل بالإسلام، بعد ذلك.

نحن الشعب الفلسطيني ننحدر ـ سلالياً ـ من مجموعة من الشعوب، بعضها أصلاني وبعضها قادم؛ فنحن سلالة كل من الفلسطينيين القادمين من جزر بحر إيجة، والكنعانيين والفينيقيين القادمين من الجزيرة، والعرب الجاهليين الذين هاجروا إلى هذه البقعة قبيل الإسلام، والعرب المسلمين الفاتحين الذين جاؤوا لنشر الرسالة الجديدة، ثم استوطنوا، وجاوروا، واختار كثير منهم الرباط في الأرض المقدسة.. سكن أجدادنا الأوائل من الكنعانيين هذه الأرض، وأقاموا عليها حضارتهم، وحققوا عليها وبها هويتهم القومية، قبل أن تنزل الأقوام الأخرى عن الأشجار، بل قبل أن يوجد أحد على وجه الأرض البتة. وبعد تنزّل الديانات، وقدوم بني إسرائيل، إلى فلسطين، لم يجدوها خالية. لقد كان أجدادنا هنا قبل كل المعارك وبعد كل المعارك، مختلفين دينياً وإنسانياً عن صورة هؤلاء القادمين في التوراة، الذين سوف يدعي نسلهم، بعد ذلك، أنهم قدموا بأمر رباني من السماء. وعند هذه النقطة يمكن طرح مسألة الخلاف، المفتعل، بين المسألة الدينية والمسألة القومية.

أقول بادئ ذي بدء، وقبل كل نقاش، بأن هذا الخلاف هو آني وأظنه مفتعلاً، يخطئ في التشبث به كل متطرف من الجهتين؛ لأن الله حين سمح لبني إسرائيل بسكنى المنطقة، لم يأمرهم باحتلالها وغزوها وحرق أشجارها ومبانيها وحيواناتها، بالطريقة التي وصفتها التوراة التي بين أيدينا، بل حضت عليها باسم إلهٍ قاسٍ له اسم غريب يشبه أسماء آلهة الإغريق: (يهوه أو رب الجنود)، الذي لا يمكن أن يكون هو الرحمن الرحيم الذي نعرفه. وهذا الإله الرحمن الرحيم الذي نعرفه هو الذي سمح لهم باللجوء إلى فلسطين، ليأكلوا خبزتهم ويأمنوا على دينهم؛ الذي هو الدين الصحيح في ذلك الوقت. وكان بإمكانهم أن يعيشوا جنباً إلى جنب مع أجدادنا الجبارين، حتى بعد انقضاء المعارك الأولى، ويصبحوا جزءاً من الفسيفساء المكونة لشخصية سكان هذه المنطقة، لكنهم تقوقعوا وانغلقوا ثم انحرفوا عن المبادئ التي سمح الله لهم بموجبها أن يحضروا إلى هنا.

لقد جاؤوا وكنا، ثم انحرفوا واهتدينا، ثم ذهبوا وبقينا، إلى أن انتقلت راية الدين إلى أجدادنا العرب، الذين أسلم على أيديهم كل المنحدرين من كل السلالات تقريباً، باستثناء اليهود؛ الأمر الذي يدل على الطبيعة العنصرية التي تميزهم عن باقي شعوب الأرض وسكان المنطقة، التي لم يستطيعوا الانسجام معها. وبذا فقد جمع أجدادنا، من سلالة الجبارين، أخيراً، بين جبروت السلالة الأصلانية، وقوة الروح الجديدة. ومع ذلك، فلم نكن نحن الذين رحلناهم أولاً، كما لم نكن نحن الذين أبدناهم آخراً، فبأي حق بعد ذلك يطالبون؟.. أبحق التاريخ!. فالتاريخ لا يحفظ صيرورات ماضية غابت واندثرت، بفعل عوامل الإحلال والإبدال الزمنية.. لقد استبعدهم واقع المنطقة جغرافياً وسياسياً وثقافياً، وآثروا الانعزال. وحملنا نحن ما عجزوا هم عن حمله. واهتدينا لأرفع رسالة سماوية، تأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي… أفبعد ذلك نتساوى وإياهم في المرجعية الدينية (الهجرية)؟!. كيف، وهم الذين تنص كتبهم على أنهم أبناء الإله الذي محضهم عطفه، دون سائر البشر، وأمرهم بدين يعشق الحرق والقتل والتدمير والتطهير الدموي ورفض الغفران!. كيف يستوي هذا مع دين يمنع قطع الشجر وقتل الشيوخ والنساء وغير المحاربين وهدم المعابد، ويكفل الحرية الدينية والمدنية والاقتصادية لكل المواطنين!.

إنني لا أود الانجرار إلى مناقشة الأمر من منطلق ديني بحت، لكنني فقط أود القول بأن التجربة الهجرية ـ حسب مصطلحك ـ هي التي أساءت للأمة والدين والدولة والفرد، لأنها هي التي تبنت كل ما جاء من خرافات وأساطير، في التوراة ـ التي يقرر ديننا بأنها تعرضت للتبديل والتحريف ـ ومارست، بفضل المفسر القرشي وأمثاله، محاولات عدة لإقناعنا بقبول الرواية التوراتية للتاريخ.

لسنا مطالبين بالتصديق بما جاء في هذه التوراة، التي بين أيدينا اليوم. لكننا مطالبون بتصديق ما جاء في الكتاب المهيمن على كل الكتب، والناسخ لجميعها. وهو يقول بأن هذه الأرض مباركة، وقريبة إلى السماء، وأُسري بنبينا (صلى الله عليه وسلم) إليها، ليصلي بالأنبياء بها، ثم يُعرج به إلى السماء منها، ومات فيها ودُفن عديد من أصحابه المقربين؛ دون أن ننسى أنها، حتى لو لم تكن كذلك، فهي موطننا، وبيتنا، ومكاننا، الذي نُنسب إليه، ونحقق به وفيه هويتنا الحضارية والإنسانية؛ وبالتالي، فنحن مطالبون بالدفاع عنه وفق حقين: حق المواطنة، وحق الدين. أليس هذا خيراً من الاكتفاء بحق واحد!.

وإذا كانت الأديان حقاً من عند الله ـ وهي كذلك بالقطع ـ فإن أمر الله لبني إسرائيل، بسكنى الأرض المقدسة، لا يعني بالضرورة طرد سكانها الأصليين، أو ذبحهم وإحراق جثثهم، لمجرد أنهم لم يوافقوا على اعتناق دين بني إسرائيل، خصوصاً وأنه لم يكن موجها لغير الإسرائيليين، حتى في أصله السماوي الصحيح، لأن أنبياءه كانوا مرسلين إلى بني إسرائيل فقط. فهذه الرواية الدينية الصحيحة للتاريخ، قد تصلح أساساً للسماح لبني إسرائيل بالسكنى، مع السكان الأصليين هنا، في فترة زمنية محددة، وبشرطين واضحين ملحقين بالعقد كجزء منه: التوحيد والعدل. فماذا كان؟. لم يوحدوا، ولم يعدلوا ـ كما شهد بذلك أنبياؤهم في توراتهم الحالية نفسها ـ فاستحقوا أن يُطردوا ويبقى السكان الأصليون. ثم حدث بعد ذلك أن طبق السكان الأصليون الشروط المطلوبة، وفق ما جاء بها نبيهم، فاستحقوا أن يجمعوا، إلى جبروتهم السلالي الأول، قوةً روحيةً، طالما ادعى الدخلاء اقتصارها عليهم، بتدخل عنصري من (رب الجنود). وهذه القوة الجديدة هي التي حفظت عليهم وجودهم القومي، ثم امتدادهم وتوسعهم في كل أنحاء العالم القديم.

وهناك مناقشة ذات لون آخر، من منطلق تاريخي لاديني، يمكن أن يناقش من خلالها، من لا تعجبه التفسيرات الدينية من هذا النمط. وتقول: إذا كانت الأديان كلها مجرد هراء وغيبيات، لاعقلانية وغير ملزمة، كونها نشأت في مرحلة طفولة العقل البشري، فإن الجغرافيا السياسية ستكون هي المرجع، وذلك يقتضي أن من سكن المنطقة أولاً هو صاحب البيت. وأجدادنا الأوائل سكنوا هنا من قبل أن تسكن الطيور أعشاشها. فمنذ متى جاء بنو إسرائيل هنا، حتى يدّعوا لأنفسهم حقاً في تملك بيتنا، وحراثة بياراتنا، وطردنا خارج كل من الجغرافيا والتاريخ؟!.

أعتقد أنه يمكن اللجوء إلى أحد هذين الشكلين، من النقاش، عند طرح موضوع الهوية القومية لهذه الأرض. بدلاً من تصديق مقولة جاهلة لسياسي عنصري يكره اليهود كما يكره العرب، ويقتنص المناسبات للسخرية منهما، متناسياً أن الأوروبي المسيحي هو اليهودي الذي يركب عربة بخارية(5)، كون كل اعتقاداته نابعة من التوراة، التي يعتبرها أكثر قداسة من العهد الجديد(6). وما هذه التيارات المسيحية الصهيونية إلا مصداق قولي هذا.

إن التدين الحق لا يمكن له أن يلغي التجربة البشرية، فالتاريخ هو فعل البشر الدنيوي بشروط الدنيا. هكذا قال الإسلام وهكذا أمر، كما في قوله تعالى: “وأعدوا لهم ما استطعتم”. فالاستطاعة هي بذل أقصى الجهد، وفق الشروط الموضوعية والذاتية، لا بذل أقصى السكون وانتظار تحقق معجزات الإيمان الغيبي. إن الإيمان بالغيب هنا هو دافع للعمل، لا ذريعة للاستسلام. ولقد أسيء إلى الإسلام بهذا الشعار الجاهل: (الإسلام هو الحل). حسنا، فلماذا لم يوفر هذا النوع من الإسلام حلاً لمشكلة الفقر والتخلف في السودان وأفغانستان، ولماذا لم يكفل توزيعا أكثر عدالة للثروة في السعودية، وكلها يرفع هذا الشعار، أو رفعه، ردحاً من الزمن؟. إن الحقيقة الموضوعية تطالبنا بأن نقلب هذا الشعار رأساً على عقب؛ فنقول: (الحل هو الإسلام) لأن حل مشاكل الناس، وتأمين الحرية لهم، وكفالة الطعام والمسكن والتعليم والدواء، هو الإسلام، الذي جاء به سيد المرسلين (صلى الله عليه وسلم). ألم يقل الفقهاء العدول: حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله؟. أم تريدون أن ننتظر منكم تطبيقاً مختلفاً عن تطبيق السعودية والسودان، فنجربكم مرة أخرى على حساب عمرنا؟. حسنا، لقد جربكم بعضنا، فرأى لديكم أكل أموال الناس بالباطل، حتى قبل وصولكم إلى السلطة. فماذا ستفعلون حين تصلون إليها، وتمارسون نفس هذه الممارسات؟!. هل نكفر بالإسلام عندئذ، كرمى لتجربتكم التي تزعمون أنها ستكون مختلفة!. ألا يصح الآن أن نقول لكم بأنه لو كان عندكم محاسبة على هذا لفعلتم، خصوصاً مع توفر الدلائل لديكم؟. فدعوا الإسلام وشأنه، واطرحوا برنامجكم البشري الذي رأيناه في الواقع.

عزيزي أبا شادي،

أوافقك القول بأن تسييس كل من الهوية والثقافة هو القبر الذي أعده المشروع الصهيوني للشعب الفلسطيني، كما أوافقك تماماً في تشخيصك لحالة الشاعر (الهجري) الذي يبحث لنفسه عن مخدع وجائزة، على حساب الوطن. لكن منذ متى كانت الشعوب تلجأ إلى الشعراء في طلب المشورة في حالات المواجهة؟ لقد كان الشاعر دائما حذاء الحاكم وجوربيه. ولقد تعلمت الشعوب مبكراً كيف ينبغي لها أن تتعامل مع هؤلاء الشعراء، حيث أقصاهم أفلاطون عن جمهوريته، واعتبرهم الوعي الثقافي العربي في مرتبة أدنى من الناس، وكلنا يذكر قول القائل:

ولولا الشعر بالعلماء يزري

لكنت اليوم أشعر من لبيدِ

ولم يشذ الوعي الشعبي عن هذا المقياس، في نسبة الدونية إلى أمثال هؤلاء، حتى قيل عن كل فضائحي: “هو شاعر”. ومن هذا المنطلق، فنحن ننظر إلى مثل هذه الاقتراحات، كأدوات إغراء يقدمها المثقف للحصول على المتعة، ليس إلا. تعال عندي لأريك مثقفين يكتبون نصوصاً تصلح لجماعات (السلام) وتصلح لجماعات المقاومة. تعال هنا لأريك نوعاً من المثقفين الذين يبيعون وطنهم بصحبة مفرحة، أو بسفرة إلى بلاد الله المتطورة. ألم تسمع بالذين سافروا ليوقعوا صكوك التنازل عن حق العودة، ثم فوجئوا بسجنهم في قاعة المسافرين ـ لزوم المؤتمر والتوقيع ـ ثم عادوا، دون خفي حنين؟.

إن انشغال الثقافة باستقلالية النص الأدبي عن الواقع، بدعوى الحداثة، لم يأت اعتباطاً، لأن كهنة الثقافة قد أقض مضجعهم انتسابهم لقضية صاروا يشعرون أخيراً بأنها تثقل كاهل نصهم؛ بل قل إن شئت: تثقل ضمائرهم، التي يشعرون بأن أوان راحتها قد أزف، خصوصاً بعد شعور بعضهم بأنه قطع شوطاً نحو العالمية، يؤهله للاستراحة من هموم المشروع القومي. متناسين أن هذه القضية هي التي حملتهم إلى العالم ابتداءً. ألا ترى معي تشابهاً في الأسلوب بينهم وبين إسلاميي الجزائر: كل على طريقته في تكسير السلم الذي ارتفع عليه؟!.

إن انصراف هذا النوع، من الثقافة المستريحة، عن الجمهور ـ كرمى لنص تكتنفه الشكوك والمغالطات، إلى حد لا يتصوره العقل ـ لا يمكن تفسيره إلا بأنه هروب من واقع ثقيل الوطأة (معيق للإبداع)!. فليمت الأطفال، ولتهدم البيوت، ثم ليسافر المثقف إلى قارات الدنيا الست، لينال الجوائز، ببركة شجبه للإرهاب، وتوقيعه على الفرمانات الداعية إلى اقتسام البيت مع الغرباء!.. فبماذا يمكن وصف هذا النوع من الثقافة (الحداثية)، وإلى أي حد هو مختلف مع استجابات مشايخ السعودية، لنداء الرئيس الإسرائيلي (موشي كتساف) بضرورة إعلان رأيهم في العمليات الاستشهادية؟!.

إن ممارسة الثقافة فرع عن تعريفها، لا العكس. فلا يمكن ممارسة نوع من النشاط الإنساني، بشكل خاص، ووفق هذه الطريقة أو تلك، ثم إرهاق اللغة بتعريف هذه الممارسات، واعتبارها هي الثقافة. لأن الثقافة الحقيقية هي النقد: نقد الواقع، ونقد النصوص، ونقد آليات السلوك الإنساني في استقبال النصوص والتفاعل معها. لا يمكن أن تكون هناك ثقافة وطنية تتصالح مع المؤسسة، حتى في حالة وجود الدولة الحرة الديموقراطية، لأن الدولة استقرار يعبر عن نفسه بالمؤسسات، أما الثقافة فنقد لما هو متحقق، في سبيل تحقيق ما هو أفضل. وممارسة النقد لا تعني، البتة، إضفاء مسحة من الشرعية على الوضع الحالي، أو الالتحاق بموكب طبقة كهنوتية من البطارقة وحراس المؤسسة. إن السؤال الثقافي لا يجد إجابته إلا بالربط بين النصوص والوقائع الوجودية للحياة البشرية، والسياسية، والمجتمعات، والأحداث. فالوقائع المتعلقة بالقوة والسلطة ـ وضروب المقاومة التي يبديها الرجال والنساء، والحركات الاجتماعية، والسلطات والمعتقدات التقليدية ـ هي الوقائع الحقيقية، التي تجعل من النصوص أمراً ممكناً، وهي التي تحفظ على السؤال الثقافي انشغاله وتطوره، بل كينونته وهويته القومية والإنسانية: أي أنها هي التي تدمجه بالعالم(7).

بهذا تبدع الثقافة التجاوزات، وبهذا تحقق صيرورتها وهويتها وأهدافها وتكتشف وسائلها. وكل محاولات عزل الثقافة عن العالم، باستخدام شعارات نصية، تعيد اجترار شعارات مدرسة الفن للفن، إن هي إلا محاولات مكتوب لها الفشل، لأنها منبثقة عن إرادة لا قومية، تمت صياغتها في مؤسسات صنع القرار الثقافي في أمريكيا، خلال مرحلة تنامي المد الصهيومسيحي في عهد الرئيس الأسبق ريغان، ثم كانت انطلاقتها الكبرى الآن في عهد بوش الابن.

إننا لا يمكن أن نتكلم في الثقافة، في نقس الوقت الذي نغمض فيه أعيننا عما يجري في فلسطين والعراق وغوانتانامو، كما أننا لن نتمكن كذلك من الحديث الجاد في الشأن الثقافي، دون التطرق إلى هذا الفساد لذي ينخر المؤسسة، ويرهنها لحفنة منتفعة، تنظر إلى الوطن من بين فخذي امرأة تقطن البيت الواسع، ثم لا ترى بأساً في أن تمتع أنوثتها بإبداعات البواب المحروم، لأنها تعرف بالتجربة أن إبداعات المحرومين تأتي، في لحظتها، كاسحة عميقة، كموجة هادرة تصل الشاطئ ثم تعود من حيث أتت. ليظل بعدها البواب بواباً، وتظل السيدة سيدة، ويظل العالم الفاصل بينهما واسعاً عميقاً. بل ربما أنجبت السيدة ابنها من البواب، وأعطته هويتها، لينطلق ذات مذبحة ليقتل أخاه من المرأة الأخرى.

إن الأسئلة لتتكاثر. وإن عالم الاستشهادات ليتزايد. لكن السؤال سوف يظل مطروحاً كما هو، حتى نعرف ما نريد، ثم نبدأ بسلوك طريق ما نريد. والجواب ـ حسب رأيي ـ يتمثل في عبارة بسيطة لا تحتاج إلى كثير تفسير: نريد مجتمعاً متحرراً، يبدع ثقافة لا تنفصل عن مرجعيات ديناميكية، ستقوم بدورها بإبداع أسئلتها الجديدة، وصولاً إلى مناقشة المرجعيات وتطويرها، ومن ثم إعادة صياغة أسئلة جديدة… وهكذا، في حركة ذات طبيعة جدلية تنتِج وتنتَج في آن، ويتفاعل فيها الثقافي مع السياسي، والعكس بالعكس، تحقيقاً للهوية وإجابة على أسئلتها. وأعتقد أن من أهم هذه المرجعيات الإسلام، بصفته المكون الأساسي للهوية؛ لكنه سوف يكون إسلاماً لا يعترف بكل ممارسات التجربة (الهجرية)، ولا بكل هذه الاجتهادات السياسية، التي أسهمت في صناعة التخلف، والتأسيس للطغيان.

إننا نستطيع ـ بالقطع ـ أن نبني دولة ديموقراطية، تكفل الحريات، وتحقق العدالة الاجتماعية، وتفتح للمجتمع المدني فضاء التنفس، وتؤسس لنظام محاسبة ومراقبة وشفافية، يضمن ملاحقة كل متجاوز، ويوقع به العقاب المناسب: من الرئيس، حتى الغفير. إننا نستطيع أن نفعل ذلك فعلاً. والإسلام يطلبه ويسمح به، لأن منطقة المحرمات (القطعية) فيه محدودة ومحصورة ومرنة. فإذا ما نص الدستور على كفالة ذلك ـ بأية طريقة ـ فلا بأس بفصل الممارسة السياسية عن الممارسة الدينية، وإعطاء كل ذي حق حقه. فالإسلام ـ أولاً وآخراً ـ هو دين الحياة لا دين النصوص.

ــــــــــــــــ

الإحالات:

1ـ بعض ما جاء في خطبة عبد القادر حشاني ـ الرجل الثاني في الجبهة الإسلامية ـ بعيد إعلان النتائج الأولية للمرحلة الأولى من انتخابات الجزائر الموؤودة.

2ـ الأبشيهي. المستطرف. تحقيق درويش الجويدي. ط1. ج1. بيروت. المكتبة العصرية. 1996. ص111

3ـ الشافعي. الأم. ج1. إشراف محمد زهري النجار. بيروت. دار المعرفة. دون تاريخ. من مقدمة مجهولة المؤلف. ص هـ

4ـ ابن قتيبة. عيون الأخبار. القاهرة. دار الكتب المصرية. ج2. 1996. ص251 ــ 252

5ـ الإشارة إلى قول دزرائيلي بأن العربي هو يهودي يركب جواداً.

6ـ لاحظ أن الكتاب المقدس عند المسيحيين يحتوي على قسمين: الأول هو العهد القديم ـ وهو التوراة نفسها ـ والثاني هو العهد الجديد، وهو الإنجيل. ويعتبر الأول هو الأصل، والثاني هو الفرع. والمسيحي المتدين هو الملزم بتصديق كل ما جاء في التوراة.

7ـ انظر: إدوارد سعيد. العالم والنص والناقد. ترجمة عبد الكريم محفوض. دمشق. منشورات اتحاد الكتاب العرب. 2000. ص7 ـ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى