أنشهد نهاية اليسار في انتخابات فلسطين؟
المحامي جواد بولس | فلسطين
كنت عائدًا إلى بيتي في القدس استعيد تفاصيل محادثتي مع بعض الاصدقاء الذين قابلتهم في رام الله، التي غبت عنها قسرًا أسابيع كثيرة؛ وأسفت لأنني لم أتذكر تفاصيل حادثة، لو تلوت تفاصيلها عليهم، رغم حصولها معي قبل سبعة عشر عامًا، لعزّزت ما قلته لهم خلال نقاشنا الذي دار بشكل طبيعي حول الانتخابات المزمع اجراؤها في فلسطين.
فبعيدًا عن جميع محاور النقاش التي أثيرت، أشرت، بدوري، إلى أن أبرز المشاهد فيها سيكون غياب دور فصائل “اليسار الفلسطيني” وحركاته، وذلك بعد انحسار مكانتها تدريجيًا عبر السنين وتحولها الى مجرد أجسام تشغل بعض القياديين والنشطاء وقبولهم أن يعتاشوا على طاولة “السلطان” ووفقًا لشروطه.
في الأسبوع الاول من تموز / يوليو في عام 2004 كان العالم ينتظر قرار ” محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن جدار الفصل العنصري”.
تلقيت في مساء أحد الأيام اتصالًا من مكتب الرئيس “أبو عمار” يعلمني فيه محدثي بأن “الوالد” – هكذا كانوا يسمونه أحيانًا – يريد لقائي في الصباح، لأمر ضروري. حاولت أن اعتذر، فأنا متواجد في قريتي الجليلية، كفرياسيف، للمشاركة في حفل زفاف قريب لي. لم تمر إلا بضع دقائق حتى عاودوا الاتصال الا ان محدثي هذه المرة كان أبو عمار نفسه. أعدت اعتذاري بحذر شديد، لكنه أصر على حضوري ووعدني بأن “يفرج عني” في ساعة تمكنني من الرجوع للقرية خلال وقت مناسب.
وصلت في العاشرة صباحًا الى مبنى المقاطعة الذي نالت منه شفرات بولدوزورات الاحتلال ورصاصه. اصطحبني الحرس الى الطابق الثاني. كان أبو عمار يجلس لوحده خلف طاولة خشبية متواضعه على الجسر/الممر الشهير، وذلك كي يلتقط، كعادته في تلك الأيام، بعضًا من خيوط الشمس الصباحية. استقبلني بحفاوة الأب وسأل عن أحوالي؛ ثم وضع أمامي قصاصة من جريدة هآرتس العبرية، كانت عبارة عن تقرير أعده مراسلها السياسي المعروف، “ألوف بن”، وفيه توقع صدور قرار محكمة لاهاي في اليوم التالي للقائنا، ويؤكد فيه أيضًا، بناء على معطيات أوردها في تقريره، أن القرار سيكون لصالح فلسطين.
قرأت بتمعن ورفعت رأسي نحو أبي عمار، الذي مد يده وضغط على يدي بقلق غير المصدق، وقال:” معقوله.. معقوله دي يا حبيبي يا جواد..” ؟ أجبته بنعم؛ فهذا الصحفي يحترم ما ينشر، ولديه مصادر موثوقة خاصة في الساحة الامريكية، ثم ان هآرتس ما كانت لتنشر مثل هذا التقرير على صفحتها الأولى لو لم تكن متأكدة من صحته؛ وأخيرًا فلماذا لا نصدق ونحن أصحاب حق في هذه القضية، ولا يوجد سبب قانوني لعدم قبول قضيتنا.
أعجبه كلامي. بدت على وجهه علامات فرح طفولي، كانت تبدو عندما كان يشعر بفرح حقيقي. وقف، لكنه عاد وجلس وأستأنفنا الحديث حول القرار وأهميته. وافقني على ضرورة الانتظار حتى صدور القرار بشكل رسمي وعدم الاكتفاء بما نشره ألوف بن، لكنه طلب من مساعده أن يدعو أعضاء القيادة، كما كان يسميهم، لاجتماع طاريء سيعقد في تمام الساعة الرابعة من نفس اليوم في المقاطعة؛ ثم نظر إلي وطلب مني الحضور، وكرر وعده السابق لي.
وصلنا إلى قاعة الاجتماع، انا والمحامي الكبير علي السفريني، الذي أخبرني أن أبا عمار طلب حضوره أيضًا. في القاعة وجدنا ممثلي الفصائل وقياديين آخرين يحاولون التكهن حول سبب دعوتهم الطارئة. وقفت بينهم فسمعتهم غاضبين على عرفات، ولم يخل كلامهم من انتقاد لطريقة عمله، وبعضهم كان يتحدث ضده بحدة يسارية ثورية وبامتعاض بارز، حتى انني توقعت، لوهلة، أن الاجتماع سيتحول الى جملة من المناكفات والمصدامات، فالتزمت، بينهم، الصمت وتصرفت في حدود الكياسة والمجاملات المطلوبة.
دخل أبو عمار القاعة وأخذ يسلم على الجميع وهم في مقاعدهم. كان كل واحد منهم يقف في مكانه ويرحب به مبتسمًا. أنهى التسليم وجلس على رأس الطاولة وأجلسنا، أنا على يمينه والمحامي علي على يساره. بدأ حديثه بالترحيب بجميع الحاضرين، وكان يتوجه أحيانا لبعضهم بأحاديث شخصية أو بالمزاح، فبدأوا، واحدًا تلو الآخر، يبادلونه الحديث، ويكيلون له المديح ويشيدون بقيادته الحكيمة والرشيدة؛ ولم ينتقده أحد. أخبر أبو عمار الحضور بتوقعاته من محكمة لاهاي وأسهب حول معنى ذلك القرار ووقعه القضائي والسياسي، ففهم الجميع اننا معه كمحاميين، لتعزيز تقييماته؛ فكان عرس وكان فرح عظيم.
ودّعتهم، وركبت المصعد بصحبة صديق يساري عتيق من أيام الشباب. لم نتكلم كثيرًا حول ما حصل قبل وخلال الاجتماع، فلقد نظر نحوي وتبسم لأننا كنا نعرف أن أحاديث “الملاهي” في فلسطين ليست كأحاديث “المقاثي”.
رحل “أبو عمار” ومضت السنون وما زال اليسار يمضغ روحه المتهالكة، بينما تعيش فلسطين على حد سيفين حالة من “أنوماليا” خبيثة ومهلكة وتعاني من واقع هش كالندى، ومليء بالمرايا المحطمة التي أنست الرائين إليها كيف تكون الحقيقة ومن هو القاتل ومن الضحية.
في هذه الأيام نستقبل الشتاء من جديد؛ فبعد أن أقنعنا شهر شباط ان في أحشائه تولد شموس الصيف، زارتنا آخر عواصفه الباردة التي حملت معها أنفاس القطب ورقائق الثلج الناعم، حتى غطى بياضها قمم جبال فلسطين العالية وأنسى الناس هموم لياليهم السود .
في بلادنا يكفي سقوط زختي بَرَد غاضب فوق رؤوسنا، وإبالتي ثلج هناك على الجبل البعيد، حتى تستقيظ غريزة الصحراء الدفينة بين أضلعنا، ونعيش، في كل أماكن تواجدنا، كالأطفال الذين لا ينامون من شغف وخوف وعيد.
كانت شوارع القدس، خلال النهار، تتهيأ لغزوة الجنرال الأخيرة والبرد كان يضع أوزاره في كل الزوايا والحفر، وصفير الريح يلهث دون انقطاع وكأنها كانت تهرب من عشيرة ذئاب جائعة.
وتستمر نشرات الأخبار بتحذير المواطنين من آثار العاصفة، وتنقل من باب الروتين فقط ، آخر التفاصيل عن اعداد ضحايا الكورونا في فلسطين واسرائيل واعداد المصابين الجدد، وتختفي أمام تقدم الليل أخبار الانتخابات في فلسطين وإسرائيل أيضًا؛ فالليل في بلاد الوجع هو حضن العواصف والقلق.
كنت في البيت وحدي عندما سمعت طارقًا على الباب. كان موظف شركة المياه واقفًا لتحيتي وللسؤال عن صحتي بعد أن سمع من الجيران عن تراجعها في الأشهر الأخيرة. طمأنته بصوت مقنع؛ فابتسم واستماحني بإلقاء سؤال آخر عليّ كان يشغل باله وهو متأكد انني أعرف الاجابة عليه: اذا كانت اسرائيل ستعيد انتخاب بنيامين نتنياهو، وكم مقعدًا ستحصد القائمة المشتركة في مقابل الحركة الإسلامية؟
أفهمته أن التكهن في هذه المرحلة المبكرة مستحيل، والايام القادمة قد تكون حبلى بالمفاجآت، وحاولت أن أفهم سبب اهتمامه بالانتخابات الاسرائيلية وليس بالانتخابات الفلسطينية، وسألته اذا كان سيصوت في فلسطين؟
لم يكن واضحًا بإجابته، لكنه بدا كغير المؤمن بحصول الانتخابات الفلسطينية، وأكد، في نفس الوقت، على قناعته بأن تأثير نتائج الانتخابات الاسرائيلية على الفلسطينيين سيكون أهم وأكبر خاصة في السنوات القريبة القادمة .
لا أعرف لماذا تشعر قطاعات واسعة من الفلسطينيين بأن الانتخابات عندهم لن تتم؛ فحتى من يثقون بقرار الرئيس محمود عباس ومعه القيادات الفلسطينية على اختلاف مشاربها وموافقة حركة حماس، يفترضون أن هنالك من سيسعى لعرقلة العملية وافشالها؛ ولكن فلسطين التي وراء جبال الضباب تعيش حالة من أمل مشتهى؛ وليس بسبب وعود الانتخابات القادمة بل أكثر بسبب هزيمة ترامب الطاغية الأرعن، وافتراضهم أن لا أسوأ منه في جهنم، فعسى القدر بعده يهديهم برزخًا من عدل وجنى.
في الصباح، في رام الله أجمع وتمنى المشاركون على ضرورة اجراء الانتخابات لأنها وإن لم تفض الى إحياء ثورتهم النائمة، فإنها ستحرك مياهها الآسنة؛ لكنهم اختلفوا تقريبًا حول جميع محاور النقاش الأخرى. لقد تحدثوا بألسنة مختلفة، فبعضهم كان في الثلاثينيات أو أكبر قليلًا، يفتقرون، هكذا بدا واضحًا، الى لغة فلسطين التاريخية السياسية، فناقشوا زملاءهم، ممن كانوا في عمر الاحتلال، بلغة الحاجة والعواطف وكمواطنين وعوا على الدنيا بعد أن تحولت الثورة، حلم أبائهم، إلى ذكرى انتفاضات عابرة والى سلطة، وتحول العرب من أشقاء إلى قبائل عابدة وعابرة.
وقفت، في منتصف الليل، أمام نافذتي ألملم أطراف النهار وتذكرت حين سألني صديقي اليساري العتيق في مصعد المقاطعة أننا نعرف الصوت الذي تحدثه يدان تصفقان معًا ولكن ما هو الصوت الذي تحدثه يد واحدة حين تصفق?
كانت الريح فوقي تعوي هوجاء مذعورة، والبيوت مخفية في المدى تحت عباءات رمادية، والأرض تلمع بعد أن غسلها شيخ أبيض ورحل؛ في الفضاء تتماوج مشاعل ناعسة بدت كفنارات بعيدة، وفي الشارع أمامنا خرج بعض الاطفال، رغم البرد القارس، كي يفتشوا، في العتمة، عن حلم لم ينم وعن غد هارب؛ لكنهم لم يسمعوا مثلي، صدى الأيام المبحوح الآتي من بعيد وأنات الزنابق الكسيرة.